أسامة شحادة **
الشيخ عبدالله القرعاوي لا يعرفه كثير من الناس اليوم بل وكثير من العلماء وطلبة العلم أيضا برغم أنه من العلماء والدعاة المعاصرين، وبرغم أن بعض تلاميذه له شهرة
واسعة جداً، لكن الشيخ القرعاوي رحمه الله لم يكن يبحث عن هذا بل كان يبحث عن أن يعرفه ربه وأن يترك خلفه أثراً ينفعه ويرفعه عند باريه ومولاه.
يخفي صنائعه والله يظهرها *** إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
نقل الشيخ عبدالله بن عقيل عن الشيخ عبدالرحمن السعدي قوله: “إن الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالله القرعاوي لا يوجد لهم مثيل في تصديهم لنفع الناس ودعوتهم وإرشادهم”.
ولذا لا يمكن لمن أراد الحديث عن المصلحين المعاصرين في الجزيرة العربية أن يتجاوز النهضة الإصلاحية التي قام بها الشيخ القرعاوي على مختلف الأصعدة الدينية والأخلاقية والتعليمية والصحية والعمرانية والسياسية، وخاصة في المنطقة الجنوبية من المملكة العربية السعودية، وهذا وقت التفصيل.
مولد الشيخ ونشأته
هو عبدالله بن محمد بن حمد بن عثمان بن نجيد القرعاوي النجدي، ولد يتيم الأب في 11 من ذي الحجة 1315هـ في عنيزة، وكان جد جد الشيخ يسكن في عنيزة ثم باع أملاكه ورحل إلى القرعاء، ثم عاد جده حمد إلى عنيزة مرة أخرى فلقب بالقرعاوي.
فرعته أمه حيث كانت امرأة صالحة تقرأ القرآن وتعلم النساء وتحرص على مجالس العلم وصلاة الجماعة في المساجد فتأخذه معها، فوجهته لحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي، وكانت تتابعه في البيت حتى أتم حفظ القرآن وهو ابن 13 سنة.
وقد قامت ببيع أثاث بيتها لتسدد شيء من ديون زوجها وتاجرت بالمال مع أعمام الشيخ القرعاوي، حتى بلغ سنه 14 عاماً فطلبت منه أن يسافر مع أعمامه للتجارة ليكمل سداد ديون أبيه.
عمله بالتجارة وسفراته
كانت أول رحلة تجارية له سنة 1329هـ للشام برفقة عمه، وتكررت هذه السفرات فتعلم مهنة أبيه وأجداده، فسافر للشام وفلسطين ومصر والعراق والكويت ولبنان، وفتح أحياناً دكاناً يبيع فيه بضائعه، وعمل حيناً في رعي الإبل وبيعها، وفي عام 1340هـ عاد لموطنه بعنيزة وتزوج.
ومن ثم عاد للسفر والتجارة وحج في عام 1342هـ، وفي كل هذه السنوات لم يتخل عن طلب العلم وحضور ما يتيسر له من مجالس العلم ولكن بدون تفرغ.
رجوعه لطلب العلم
وفي عام 1345هـ قرر التفرغ لطلب العلم برغم كبر سنه حيث كان في الخامسة والثلاثين من عمره ومتزوجا، فلما كان بالبصرة شاور أحد علماء نجد المقيمين فيها أين يتعلم؟ فأشار عليه بالسفر للهند والالتحاق بالمدرسة الرحمانية في مدينة دلهي، فهي مدرسة سلفية مدة الدراسة فيها 8 سنوات وفيها علماء سلفيون كبار، وهي مجهزة بكل المرافق اللازمة للدراسة، وقد قام الاحتلال البريطانى لاحقاً بإزالتها خوفاً من دورها المستقبلي.
فسافر للهند ولقي في ذلك من مشقة السفر لصعوبة المواصلات وبعد المسافة ما الله به عليم، فدرس بالرحمانية وتعرف على علمائها وبقي هناك عشرة أشهر حتى أرسلت له والدته تطلب عودته لنجد والدراسة فيها بسبب مرضها، فعاد من الهند ولكن والدته توفيت قبل وصوله بثمانية أيام.
بدايته قيامه بالتعليم في المملكة
فأقام في نجد وتلقاه أهلها بالترحاب لما يعرفونه عنه من خير وبسبب حسن أخلاقه وبشاشته ولطفه مع الكبير والصغير، ويبدو أن عمله في التجارة ورعي الإبل وسفراته أكسبته خبرة ومهارة في كسب قلوب الناس كباراً وصغاراً.
فقام بفتح كُتاب للأولاد يعلمهم فيه احتساباً دون أجرة سنة 1347هـ وحاول بعض الناس أن يدفع له لكنه رفض كما يقول الشيخ عبدالله بن عقيل في سيرته الذاتية، فكان من طلابه في الكتاب العلامة شيخ الحنابلة عبدالله بن عقيل، والشيخ عبدالله آل بسام، قال الشيخ آل بسام: “كنت من الأطفال الصغار الذين دخلوا كُتابه – رحمه الله تعالى – فكان لا يأذن لنا بالخروج من الكُتاب حتى نؤدي الصلاة في أول وقتها، وهو يلاحظنا عن اللعب في الصلاة، ثم يخرج بعد ذلك لأداء الصلاة في المسجد”.
ويضيف الشيخ ابن عقيل عن منهج القرعاوي مع طلابه الصغار: “وكان يخرج بنا للتمشية وينفق علينا من عنده مع قلة ذات اليد ويعلمنا الرياضة وركض الخيل ويسابق بيننا، وكنا نحن – كبار الطلبة- نتدارس القرآن غيباً بعد العشاء، ونبيت عنده، فيوقظنا نتهجد، ونصلي الفجر في المسجد مع الجماعة، وكان يجعل حفلة بمنزله وهي عبارة عن ناد مصغر في كل ليلة جمعة، يجتمع فيها الطلاب وأولياؤهم وبعض الإخوة والأعيان، ويجعل بينهم مسابقة علمية كل على قدر ما تعلم، ويعطي الناجحين جوائز رمزية”، ولابد أن ننتبه إلى أن هذا كان يجري في نجد سنة 1347هـ/ 1928م أي في سنة تأسيس جماعة الإخوان بمصر وقبل لجوء قيادات الإخوان للمملكة من مصر والعراق وسوريا فراراً من الحكومات الشيوعية واليسارية المعادية للإسلام، ويبدو أن القرعاوي قد استفاد من سفراته لبلاد متعددة ودراسته بالهند هذه الوسائل التربوية الجذابة والنافعة، ولكن للأسف أن هذه التجربة لم تستمر بسبب حسد بعض العاجزين وضحالة عقولهم!!
وفي المستقبل تتواصل العلاقة بين القرعاوي والشيخ عبدالله بن عقيل الذي أصبح قاضياً، فها هو يكتب للشيخ القرعاوى رسالة في سنة 1359ه جاء فيها: “وبخصوص عبدالله الحميد وعبد اللطيف فهم يسلمون عليكم، ويثنون ويدعون، وبلغهم من قبلنا ومن قبل غيرنا نجاح أعمالكم واجتهادكم بالدعوة وبثكم العلم والتعليم، والنصيحة لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فاحمدوا الله، وقد تعجبوا من هذه الحالة، لكونهم ما يعلمون أن أحداً جاء من أهل نجد وفعل مثل فعلكم، فالحمد لله رب العالمين”.
يروي ولد القرعاوى عبدالعزيز أنه زار الشيخ ابن عثيمين ليستفتيه في مسألة فلما علم الشيخ ابن عثيمين أن السائل هو ولد الشيخ القرعاوي قال له: يا بني هل تعلم أن والدك هو من علمني الوضوء! فرحمة الله على الشيخين العظيمين اللذين يعدان من أعلام الإصلاح في زماننا.
وبقي الشيخ في عنيزة حتى سنة 1354هـ، يقول القرعاوي في إحدى رسائله: “وقد فتحت مدرسة في عنيزة سنة 1347هـ حتى 1354هـ أربع مرات، وكلما أستمر في التعليم أجد أن حاجة البيت تضطرني أن أغلق المدرسة، وأذهب أتكسب مرة في دكان، ومرة جمالاً، ومرة فلاحا، حيث إني أعلم مجاناً بكل الفنون بالخط والحساب والإملاء والإنشاء والتجويد والتوحيد والفقه والحديث ومصطلح الحديث والصرف والنحو والتاريخ، وكنت أعطي التلاميذ رياضة خارج المدرسة كالمسابقة والمصارعة، وخصصت وقتا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقت اجتماع الناس نساءً ورجالاً وهو وقت العصر”، فقد كان الشيخ يتجول في شوارع عنيزة وأسواقها حتى صارت له هيبة وسطوة.
عودته لطلب العلم
وبعد عودته من الهند درس أيضاً القرعاوي على عدد من العلماء مثل الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي العام في الرياض، والشيخ عبدالله بن سليم في بريدة، ومن هنا كانت معرفة العلماء بالقرعاوي من بلاد متعددة في ذلك الزمان الذي لم يكن يتميز بسهولة المواصلات ولا الاتصالات.
وفي سنة 1355هـ أي بعد عشر سنوات من عودته من الهند سافر القرعاوي مرة ثانية للمدرسة الرحمانية بدلهي، وذلك بعد أن شاور شيخه محمد بن إبراهيم الذي حثه على السفر للهند، فجلس هناك سنة جدّ فيها واجتهد حتى حصل على الإجازة العلمية من شيخه رئيس المدرسين أحمد الله بن أمير القرشي الدهلوي، الذي عرض عليه أن يكون مديراً بالمدرسة الرحمانية إلا أنه رغب بالعودة لبلده وإفادة أهلها، فرجع لوطنه في سنة 1357هـ.
وبعدها سافر للإحساء وقطر فأخذ عن الشيخ عبد العزيز بن بشر في الإحساء والشيخ محمد بن مانع في قطر، ثم سافر لمكة عند شيخه محمد بن إبراهيم.
بداية رحلته الإصلاحية في جنوب المملكة
كان الشيخ القرعاوي يسمع في مجلس شيخه المفتي محمد بن إبراهيم شكاوى متعددة من قبل الدعاة الذين أمر الملك عبدالعزيز بإرسالهم للجنوب لنشر الدعوة والعلم، عن تردي الحالة الدينية والأخلاقية في مناطق الجنوب – وهي المنطقة الساحلية الممتدة من جنوب مكة إلى حدود اليمن- حيث ينتشر بين الناس هناك التعلق بالأضرحة والقبور وحفلات الزار والاستعانة بالجن والشياطين والختان على الطريقة الجاهلية وقلة العلم وكثرة الجهل، فكان يحزن لهذه الحالة المزرية، وفي ليلة من الليالى رأى في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير إليه بيده الشريفة أن يتجه إلى الجنوب، فلما أصبح أخبر المفتي فاستبشر وقال: إنها رؤيا حق.
وبعد أن استخار القرعاوى وشاور شيخه ذهب للحج سنة 1357هـ ثم توجه إلى مدينة جازان، فنزل بقرية (صامطة) وكان قد أخذ معه بعض البضائع ليتاجر فيها ويعتاش منها ويقوم بالدعوة والتعليم فيها، فاستأجر دكاناً يتاجر فيه ويتعرف على الناس وأحوالهم من خلاله، واتصل بشيوخ القبائل، وبعدها يبدأ يعلم القرآن والتجويد والفرائض وبعض رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فكان هذا الدكان أول مدرسة فتحها القرعاوى في تهامة اليمن، وكان يدرس في النهار للطلاب وفي الليل للطلاب وأهليهم، وشاع خبر الشيخ ومدرسته العجيبة فأصبح يتوافد عليه الطلبة من القرى المجاورة.
وكان للقرعاوي طريقة عجيبة في إزالة المنكرات تقوم على التحويل التدريجي دون مصادمة مباشرة، فمثلاً كان إذا رأى جماعة من الناس متجمعين على منكر كرقص وغناء لا يطلب منهم إلاّ أن يصلوا جماعة معه إذا أذن المؤذن، ثم بعد الصلاة يعظهم فينقلب حالهم، أو يذهب لمن يضرب على الطبل فيعطيه مالاً ليضرب بقوة على الطبل فيخرقه ويتوقف اللعب والغناء فيستغل الشيخ الفرصة وينصحهم، ومرة وجد جماعة في اختلاط وغناء ورقص في حفلة فقام برمي بعض النقود على الأرض بين اللاعبين فانشغلوا بجمع النقود واختل رقصهم، وكانت الشمس قد غربت فطلب منهم أن يصلوا المغرب، وبعدها ألقى كلمة حتى صلاة العشاء، وبعد العشاء قال لهم: نريد بناء مسجد، ووزع عليهم الأدوار وفعلا بدأ بعد الفجر بناء المسجد وعين لهم إماما من طلابه يؤمهم ويعلم أولادهم.
ومرة ألقى الشيخ موعظة بعد صلاة الجمعة في جامع صامطة بيّن فيها حقيقة التوحيد وحذر من الشرك فضج المشعوذون والمنتفعون من هذه الشركيات وضايقوا الشيخ، ورأى أمير البلد أن يسكن الفتنة فطلب من الشيخ أن يرحل لجزيرة فرسان والتي كانت موئلاً للمجرمين والمنحرفين، فلما وصلها فتح فيها مدرسة وبدأ بالدعوة فيها.
ولكن تلاميذ الشيخ طالبوا الأمير بإعادة شيخهم إليهم لأنه كان سببا للنفع والفائدة في المنطقة، فأذن الأمير بعودة الشيخ وفي طريق عودته مرّ على قرية الحكامية ففتح فيها مدرسة وأصلح مسجدها، وكان هذا أول مسجد يصلحه الشيخ بتهامة، ثم وصل لصامطة فاتخذ من منزل تلميذه الشيخ ناصر خلوفة الذي كاتب الأمير بخصوص رجوع الشيخ مقراً للمدرسة، وذلك لأن الشيخ ناصر كان مقعدا لا يستطيع المشي فيصعب عليه الانتقال للمدرسة يومياً.
وطبعاً كانت مدارس الشيخ متواضعة فهي قد تكون غرفة من جريد النخيل وقد تكون في المسجد وقد تكون تحت شجرة في العراء، فالمنطقة فقيرة ولا تحصل على دعم من الحكومة، فالشيخ ذهب للدعوة احتساباً وبمبادرة ذاتية شخصية.
ولما كثر الطلبة بعد مدة، رأى الشيخ أن يخصص للطلبة المتقدمين وقتا وللطلبة المبتدئين وقتا آخر، وخصص وقتا للتجوال على القرى للدعوة والحسبة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يصطحب معه نخبة من الطلبة فيذهبوا عصر الخميس ولا يعودون إلا صباح السبت، وكان لهذه الجولات نتائج طيبة من إزالة كثير من مظاهر الشرك كالتبرك ببعض الأحجار والقبور، وهروب كثير من الدجالين والمشعوذين والسحرة خاصة القادمين من إفريقيا.
ولقد أتانا من الأحبار أنجبهم *** من أرض نجد على اللأواء والسغب
شيخ جليل إلى البيضاء أرشدنا *** نعم الْمجدد (عبد الله) لَم يغب
نادى جهاراً لحمل العلم مع عمل *** بدافع الصدق والإخلاص في سبب
فلبت الناس في سهل وفي جبل *** لدعوة الحق ذات النور والأدب
وبمثل هذه الجولات على القرى والتواصل مع الناس في مواسم الرعي والعشب حيث يخرج إليهم القرعاوي وتلاميذه ليعلموا الناس ويرشدوهم ولا ينتظرون قدومهم إليهم، بهذه الطريقة أخرج القرعاوي جيلاً من طلبة العلم والدعاة في وقت وجيز، فكان يدربهم على الدعوة عملياً مع إقامة الدروس والمسابقات الرياضية لهم، ولذلك كان بينهم من الألفة والمحبة والتعاون ما يفرح له قلب المؤمن، وهذا يسر للشيخ فتح المدارس في القرى وإيفاد معلمين لها يعلمون الناس ويصلون ويخطبون بهم، حتى بلغت المدارس التي فتحها الشيخ في الجنوب خلال مسيرته الدعوية التي امتدت 31 سنة، 2800 مدرسة.
وكان من ثمرات دعوة الشيخ ومدارسه أنه تلقى رسالة من شاب بقرية الجاضع يرعى الغنم يطلب منه كتاب التوحيد وأن يزور قريته ومعه طلابه لأنه مشغول برعي أغنام والديه، فأعجب الشيخ بخط الراعي وعرضه على طلابه، وفعلاً ذهب الشيخ يوم 11/8/1359هـ لزيارة هذا الراعي والتقى به فوجده طالب علم يقرأ ويكتب وعنده حصيلة لا بأس بها، فقرر الشيخ أن يفتح في قريته مدرسة، وحاول الشيخ أن يستأذن والدي الراعي في تفرغه للعلم وأن يستأجر لهما راع مكانه وذلك أن الراعي حافظ (وهذا اسمه) كان يحفظ الدرس من أول مرة، لكنهما قالا للشيخ: “ابننا وغنمنا يا شيخ”.
وصار الراعي حافظ هو من يعيد الدرس للطلاب بدلاً من تكرار الشيخ القرعاوي للدرس، ونهل الراعي من علوم الشيخ، وبعد أشهر طالب الطلبة بعودة الشيخ لمدرسته في صامطة لبعد المسافة عليهم في قرية الجاضع، ومع بداية سنة 1360هـ عاد القرعاوي لطلابه القدماء ولحق به الراعي حافظ بعد أن أذن له أبواه، فقام بتوسعة المدرسة وجعلها كالمدارس الحديثة ووظف هنا خبراته التي رآها في الهند وغيرها من البلاد، وأصبح فيها 130 طالبا و6 معلمين من كبار طلبته.
وفي نهاية السنة توفي والدا حافظ الراعي فأسكنه الشيخ عنده ولازمه 3 سنوات وأصبح حافظ مساعداً للشيخ ومن ثم برز نجم هذا الراعي وصار: الشيخ حافظ الحكمى صاحب المؤلفات القيمة كمنظومة سلم الوصول، وشرحها معارج القبول وغيرها من الكتب العلمية القوية والتي ألفها بإرشاد شيخه القرعاوي، والذي ليس له من الشهرة مثلما لتلميذه وزوج ابنته الحكمي برغم أن الحكمي لم يعمر ومات في حياة شيخه وقد حزن عليه القرعاوي كثيراً.
ولم يكن حافظ الحكمي هو الوحيد الذي برز من طلاب الشيخ بل لعل غالب وجهاء وقضاة وعلماء ودعاة الجنوب هم من طلاب القرعاوي، والذين أصبحوا مدراء المدارس والمفتين وهكذا.
وأصبح الشيخ يستقبل طلاب العلم من كافة مناطق الجنوب ومن خارج السعودية، فقد جاءه طلاب من اليمن والصومال والحبشة، فكان الشيخ يهيئ لهم السكن والطعام، فقد كان يكلف زوجته – تزوج الشيخ في تهامة سنة 1362هـ، وكان قبلها بلا زوجة – أن تخبز للطلاب، ولما جاء بعض الطلبة المتزوجين كان يوزع عليهم الذرة ويأمرهم بالطلب من زوجاتهم بطحنه وخبزه حتى يأكل الجميع وهكذا.
ما تعرض له القرعاوي من مصاعب
من سنة الله عز وجل مع المصلحين أن يختبرهم بالأعداء المناوئين، وهؤلاء تجاوزهم الشيخ بصبره وحسن خلقه، فقد كان لا يحقد على أحد، بل كان من سياسته أنه إذا عرف أن أحد الوجهاء معارض للتعليم والدعوة النقية، زاره وتلطف معه وطلب منه أن يكون هو المشرف على شؤون المدرسة أو يجعله المؤذن في المسجد ويعطيه بعض المال فكان ينقلب موقفه ويحسن تقبله للدعوة.
وقد تعرض الشيخ لمحاولة اغتيال مرتين لكن الله عز وجل نجاه بسبب فطنته وذكائه، وكان يحول هؤلاء القتلة لمحبين له بحسن خلقه وكرم نفسه.
وهناك اختبار آخر للمصلحين وهو اختبار عداء الحاسدين والمغرضين، فقد رفع هؤلاء إلى الملك عبدالعزيز بأن القرعاوي ساحر وكاهن!! وأنه جاسوس للإنجليز!! فأرسل الملك لجنة لتحقق في الموضوع سنة 1360هـ، فلما زارت المدرسة وقابلت الشيخ والطلاب واختبرتهم وجدتهم على علم واستقامة وخلق، وسقطت الاتهامات عند قدميها، وأرسلت للملك برقية بذلك، فذهب الملك وصلى الفجر مع المفتي وأعلمه بالقضية وأعطاه التقرير، فقال له المفتي: القرعاوي من تلاميذي، وزكّاه، فأمر الملك بصرف مكافأة لكل الطلبة في المدارس، وبدأت صلة القرعاوي بالملك والحكومة وأصبح الشيخ يتلقى إعانات تساهم في توسيع نشاطه، بعد أن كان يتحمل كل تلك التكاليف بنفسه.
ورأت اللجنة أن تفرق طلاب الشيخ المتفوقين والمؤهلين في القرى لفتح مدارس جديدة، فزادت وتيرة انتشار المدارس، وتوسعت النهضة الإصلاحية، وحين حصل جفاف وانحباس للمطر اضطر الناس للرحيل بحثاً عن المطر، فكانت فرصة لوصول طلاب الشيخ مع أهليهم لمناطق لم تصلها الدعوة، فأنشؤوا مدارس ومساجد وعلّموا ونصحوا الناس وحاربو الكهان والمشعوذين والسحرة.
وما أجمل أن يكون للمصلح أعوان على الحق ينصرونه ويدافعون عنه، فها هو شيخه محمد بن إبراهيم يكتب له: “وما ذكرتم من مسألة المشوشين والمغرضين، فإنا إن شاء الله نكون في نحور هؤلاء ونبذل كل ما نستطيع في تشجيع الإصلاح، ولكن الأمور لا يمكن أخذها إلا بالتدريج”.
توسع الدعوة
وتوسعت مسيرة الدعوة ووصلت منطقة عسير وما حولها، ولم تقتصر على مدارس الطلاب بل افتتح الشيخ في سنة 1368ه عدة مدارس للطالبات، وذلك بعد أن كانت بعض نساء الطلبة تدرس في بيتها إذا تأهلت لذلك على يد زوجها تلميذ الشيخ، وقد أصبح القرعاوي معتمداً لمدارس وزارة المعارف بتعيين ملكي بعد أن تابعت الدولة نشاطه بالزيارات المتكررة، لكنه استقال بعد ستة شهور ليتفرغ لمدارسه.
وقدم القرعاوي طلبا للملك أن يكون هناك في الجنوب ما هو فوق المدارس فكان افتتاح ثاني معهد علمي في المملكة بعد معهد الرياض وهو المعهد العلمي بصامطة والذي أسند القرعاوي إدارته للشيخ حافظ الحكمي، وهو بمثابة كلية للطلبة المتقدمين، وفعلا صدرت الموافقة الملكية على إنشاء المعهد سنة 1374هـ وكان له أثر كبير جداً على المنطقة وأهلها فقد رفع من مستواهم العلمي وكذلك من درجتهم الوظيفية في مجتمع يتحول ويتطور بسرعة. ثم افتتح معهداً في ضمد ومعهداً في بيش.
وقبل ذلك، في سنة 1372ه وصلت مدارسه لليمن، حيث قام بعض طلبته بفتح مدارس في قراهم، وفي 1376ه فتحت المدارس بنجران.
وقد افتتح القرعاوي بعض المدارس في الطائف ومكة وجدة وفي القصيمية وبعضها مدارس ليلية، وبعضها نسائية.
وقد بلغت ميزانية مدارس الشيخ سنة 1379ه، 22 مليون ريال، وقدر عدد الطلاب فيها سنة 1386ه بحوالي 75 ألف طالب وطالبة ورجل وامراة، وتجاوز عدد المدرسين والمدرسات 3000، وذلك في حوالى 2800 مدرسة، بعد أن كان الجنوب ليس فيه إلا 3 مدارس تتبع الحكومة حين وصلها الشيخ سنة 1358ه!!
وقد قام الحساد مرة أخرى بالسعي لهدم جهود الشيخ في التعليم والدعوة التي انتشرت بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل المبادرة الذاتية من الشيخ وطلابه الذين كانوا لا ينتظرون الرواتب والمكافآت من الدولة، بل يعملون ويعلمون ولا ينتظرون مقابلاً.
فسعى بعض الناس للتهوين من شأن مدارس القرعاوي وأنها لابد أن تتبع لوزارة المعارف بحجة توحيد التعليم، وهو ما رفضه المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم الذي اقترح أن تبقى مدارسه تحت إشرافه لكن خفضوا الدعم له للنصف، لأنه يعلم أن القرعاوي وطلابه محتسبون وليسوا باحثين عن الغنائم، ولكن صدر القرار بضم مدارس القرعاوي لوزارة المعارف سنة 1377ه واستمر تنفيذ هذا القرار سنتين.
مرحلة جديدة في الدعوة
لم تتوقف الدعوة عند القرعاوي بسبب هذا القرار الذي يحارب النجاح والتفوق تحت حجج إدارية، بل نهج الشيخ طريقاً جديداً في الدعوة مما يدل على مرونة الشيخ وذكائه وحسن تدبيره ويكشف عن عقلية قيادية فذة، فقد تفرغ الشيخ لبناء المساجد وحفر الآبار على نفقته الخاصة، وجعل طلابه يعلّمون في المساجد التي ينشئها، وبذلك تواصلت الدعوة.
الخلاصة أن جهود الشيخ القرعاوي كانت الرائدة في التعليم والدعوة في جازان وما حولها من مناطق الجنوب، وهي التي أيقظت المنطقة وانتشلت أهلها من براثن الجهل والبدع والمنكرات، وكان سباقاً في تعليم المرأة، وتوفير المكتبات العامة، ونشر الكتب حيث كان يوزع عشرات الآلاف منها مجاناً بدعم من المفتي والدولة، كما أنه كان رائداً في كفالة طلبة العلم وتوفير السكن الداخلي للغربـاء منهم، وفي ذلك كله كان يستفيد من تجاربه وسفراته التجارية والعلمية السابقة، ونتج عن ذلك جيش من الدعاة والعلماء والمعلمين المتفانين بالخدمة والاحتساب نهضوا بالجنوب.
جوانب إصلاحية أخرى للشيخ القرعاوي
الذين يعرفون القرعاوي ودعوته يعرفون غالباً دوره التعليمي والدعوي لأنه الدور الأبرز، لكن القرعاوي له أدوار إصلاحية أخرى في العمران والسياسة، مثل:
1- بناء السدود: فقد كان من المعتاد نشوب المشاكل والنزاعات بين الناس بسبب قلة المياه والحاجة لسقي المواشي، فجاء الشيخ وجمع رؤساء القبائل لبحث إقامة سد يحفظ مياه السيل فينتفع الجميع ولا يتنازعون، فنظم عملية بناء السد وشارك بطلابه في بنائه، وأنفق على ذلك من ماله، وقد ساهم الشيخ في بناء عدد من السدود. وقد كان رفع للمسؤولين في سنة 1357ه مقترحات لإنشاء السدود وتغذية الآبار.
2- فتح بعض الطرق الرئيسية لبعض المدن أو القرى برغم وعورتها: فحين ذهب الشيخ لمنطقة قبيلة فيفا كانت طريقها وعرة جداً حتى أن الشيخ نزل عن حماره وأصبح يدفعه ليتمكن من الصعود في المرتفعات الخطرة!!
فجمع الشيخ رؤساء القبائل وطلب منهم أن يتقاسموا العمل لإزالة الحجارة والعوارض من الطريق، وساهم معهم بذلك حتى تيسر لهم الصعود والهبوط.
وكتب القرعاوي للملك سعود بطلب المسارعة بتسهيل طريق أبها من جهة جازان وخاصة عقبة ضلع، سنة 1373هـ.
3- عمل القرعاوى على إبطال عادة الختان السيئة المنتشرة هناك، وهي قيامهم بسلخ جلد العانة والذكر كاملاً على مرأى من الناس بعد أن يصبح للولد حوالي عشر سنوات ويجب عليه أن لا يبكي أو يصيح، فطلب الشيخ من الملك إرسال لجان طبية لتختن الأطفال وهم صغار بطريقة صحية مما أبطل هذه العادة.
4- اقترح القرعاوي في رسالة موجهة للملك سعود تبني إنشاء ألف مدينة، تكون ذات تخطيط محكم تتقاسم فيها الدولة والناس المسؤوليات، وفصل في اقتراحه نظم الصناعة والزراعة والتعليم والصحة.
ومن هذا القبيل أن الشيخ القرعاوي قدم من قبل مخططا شاملا لمدينة الرياض لمكتب الملك عبد العزيز بعد عودته من الهند مما يدل على مبادرته وإقدامه ونصحه، وقد استغرب المسؤولون كيف لطالب علم شرعي تقديم هذه المخططات وهو ليس مهندسا، فبحثوا عنه وكان قد سافر للجنوب، فسألوا الشيخ محمد بن إبراهيم عنه، فقال لهم: لن تخسروا شيئاً إذا نفذتم مخططه فهو قد سافر للهند ورأى التطور والمدنية فأحب ذلك لبلده، وفعلاً طبق مخططه وأنشئ حي الملز بالرياض طبقاً لمخططه وهو يعد من أفضل أحياء العاصمة.
5- قدم القرعاوي مقترحات لإنشاء جامعة حديثة للعلوم الشرعية والدنيوية، وقدم تفصيلا شاملا لإنشاء كلية طب بأقل التكاليف وأسرع النتائج.
6- قدم العديد من الاقتراحات لتطوير عمارة المسجد الحرام.
7- وأرسل رسائل متعددة لولي العهد الأمير سعود حول القضية الفلسطينية وضرورة دعم أهل فلسطين، وإرجاعهم لبلدهم وعلى حدود فلسطين وتعليمهم ودعمهم حتى ينتصروا على عدوهم.
8- اقترح على شيخه محمد بن إبراهيم أن يقوم بتنظيم شؤون الدعوة ويجعلها مركزية تحت يده، ويكون لها ضوابط دعوية ومالية وإدارية موحدة، فإن هذا يقوي الدعوة ويدفع بها للأمام.
9- راسل القرعاوي زميله في الطلب على المفتي الشيخ ابن باز سنة 1379ه بخصوص نية الملك إقامة معهد شرعي في مكة للجاليات، فاقترح عليه الاهتمام بأمره وسرعة إنشائه وإقامة شبيه له في المدينة والطائف وجدة.
10- راسل الشيخ القرعاوي زميله الشيخ ابن باز سنة 1381ه ليحثه على التواصل مع أهل الكويت وهم جيران المملكة ليجعلوا دستورهم يقوم على تحكيم الشريعة الإسلامية، وذلك أن الكويت كانت تبحث وضع دستور جديد لها.
وفاة الشيخ
بقي الشيخ في الجنوب يرعى مساجده حتى عام 1386ه، حيث كفّ بصره وضعفت قوته، فعاد بأهله للرياض وتفرغ لأعمال البر والطاعة، حتى أقعده المرض سنة 1389ه.
فقد أصيب الشيخ بالشلل النصفي ونقل لمستشفى الشميسي بالرياض، فزاره العلماء والفضلاء، ثم توفي في 8 جمادى الأولى 1389ه، وكان قد أوصى رحمه الله بثلث ماله لأعمال الخير، وصلي عليه بالمسجد الكبير ودفن في مقبرة العود، وأمر الملك فيصل بالصلاة عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين.
وهكذا طويت صفحة الشيخ القرعاوي والتي هي بحق تجربة غنية لو وجدت من يدعمها ويرعاها لكانت لا تقل عمّا نعرفه اليوم من جماعات وحركات إسلامية كالإخوان المسلمين أو جماعة الدعوة والتبليغ أو تيار فتح الله كولن في تركيا، لما كانت تتميز به من سلامة المنهج والقوة العلمية.
مراجع للتوسع:
– المسيرة الدعوية لداعية جنوب الجزيرة الإمام عبدالله بن محمد القرعاوي، بندر بن فهد الأيداء، دار المنهاج، الرياض، ط2، 1433ه.
—-
** المصدر: الراصد.