القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الصداقة والصديق

فايز النوبي

إن روابط الإنسان بأخيه الإنسان في الحياة متعددة فمنها ما هو طبيعي بحكم الميلاد كرابطة القرابة بالعصبة والنسب، ومنها ما هو بسبب الزواج كرابطة المصاهرة، ومنها ما هو بحكم المخالطة والاحتكاك بسبب التواجد والقرب في مكان مشترك كرابطة الجوار والرفقة والزمالة في المهنة والعمل والدراسة وما شابه ذلك من روابط تجمع الناس مع بعضهم البعض، وتترتب على ذلك حقوق وواجبات نحو بعضهم البعض.

والإنسان كما هو معلوم كائن اجتماعي مدني بطبعه اجتماعي بفطرته؛ ولذلك تحكمه هذه الروابط وتلزمه بسلوك معين نحو الآخرين ومن الروابط أو العلاقات التي يقيمها الإنسان في هذا النطاق رابطة الصداقة والتي أخذ معناها ومفهومها من الصدق؛ فالصديق الحق الذي يصدق صديقه وتكون الصداقة بين شخصين أو أشخاص معينين وهي رابطة اجتماعية لا تقل أهمية عن رابطة النسب والجوار والمصاهرة وعليها تترتب نتائج مهمة وخطيرة في الدنيا والآخرة ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.

والخلة هنا تعني الصداقة والصحبة ولقد أراد الله عز وجل لهذه الرابطة أن تكون لها أهمية الروابط الأخرى؛ ولذلك جعل سبحانه الأكل من بيت الصديق كالأكل من بيوت الأهل والأقارب من النسب والمصاهرة والرحم فلا حرج على الإنسان أن يأكل من بيت صديقه كما يأكل من بيت أبيه وأخيه أو بيت عمه أو خاله وغيرهم من الأقارب يقول سبحانه وتعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا} الآية.

ومع هذا فإن رابطة الصداقة لها سمة تميزها عن غيرها وهي سمة الاختيارية فهذه العلاقة في الغالب تنشأ بمحض اختيار الإنسان الذي له مطلق الحرية في اختيار صديقه الذي يأنس به ويستريح إليه واستمرار العلاقة معه ولكن المسلم الواعي الذي يرجو خيري الدنيا والآخرة ويضع نصب عينه قول الله عز وجل: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}.

المسلم التقي النقي الورع يصادق في الله ويؤاخي لله ولذا فهو يتحرى ويدقق في اختيار الأصدقاء والخلان فلا يصادق إلا صاحب الدين وأهل المروءة والخلق القويم لا يصاحب الفجار ولا يخالط الفساق وخاصة حال إتيانهم الموبقات وجهرهم بالإثم والفسوق والعدوان ورفضهم النصيحة والتوبة فهؤلاء لا يخشون ربهم ولا يعملون حسابا لأخراهم فمثل هؤلاء لا أمان لهم ولا خير يرجى منهم وربما يمكر الواحد منهم بصاحبه ويغدر به ويوقعه في الهلاك والردى ويقذف به في المضار والمتاعب ويجلب عليه المصائب ومثل هذا لا تثبت عنده مودة ولا تدوم معه صحبة لعدم مراعاته حق الصحبة والإخاء فهؤلاء لادين يردعهم ولا حياء يمنعهم وربما لو أكثر الإنسان من مخالطتهم واجتمع بهم من غير ضرورة كان لذلك أثر على سلوكه وأخلاقه فالإنسان يؤثر ويتأثر ولذلك يقول الشاعر:

واحذر بنفسك لا تصادق أحمقا *** إن الصديق على الصديق مصدق

المسلم الواعي الفاهم لدينه يعلم أن الصديق العاقل في أحيان كثيرة خير للإنسان من نفسه التي بين جنبيه لأن النفس أمارة بالسوء وصديقك الصالح لا يأمرك إلا بخير والصديق الصادق خير من الشقيق المنافق ومن قديم كلام العرب: “رب أخ لم تلده أمك”.

وقد علمنا رسولنا الكريم صلى الله عليه أن الصحبة الطيبة والصداقة الصادقة التي تثمر الألفة والمحبة وحسن الخلق فيقول صلى الله عليه وسلم : “المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف”.

فمن سعادة المرء صحبة الصالحين ورفقة الطيبين أهل الدين ذوي العقل الموفور الذي يهدي لمراشد الأمور ولابد أن يكون الصديق محمود الأخلاق مرضي الفعال محبا للخير كارها للشر ديانة وخلقا ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحبة والصداقة والمؤانسة وما يترتب عليه عندما ضرب لنا مثلين للجليس الصالح والجليس السوء فقال صلى الله عليه وسلم : “مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة”.

فمن هذا الهدي النبوي الشريف نتعلم أن الصديق الصالح نافع لصديقه على كل حال إما بهبة أو بيع أو يكون في صحبته ومعيته قرير العين مطمئن القلب منشرح الصدر برائحة المسك وهذا تقريب وتشبيه، وإلا فإن الذي يحوزه الإنسان من صديقه الصالح أفضل من المسك الإذخر فهو إما أن يعلمه أمورا تنفعه في دينه ودنياه أو يهدي له نصيحة تنفعه مدة حياته أو ينهاه عما فيه مضرة فهو معه دائما في منفعة وربح مضمون كما أنه يحمي عرضه في غيبته ممتثلا قول النبي صلى الله عليه وسلم : “من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة”.

كذلك ينتفع المسلم بدعاء صديقه الصالح له سواء حال حياته أو بعد مماته وقد جاء في الحديث المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وفي الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وغيرهما: “لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي”؛ وذلك لأن الصاحب ساحب إما إلى خير أوشر، والمؤاكلة تدعو إلى الألفة والمحبة وتجمع بين القلوب لذا ينبغي أن يكون خلطاء الإنسان وذوو الاختصاص به أهل التقوى ومن وصايا سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تتكلم فيما لا يعنيك واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله ويطيعه، ولا تمش مع الفاجر فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك، ولا تشاور في أمرك إلا الذين يخشون الله عز وجل”.

وقال أحد الفضلاء: اصحب من إذا صحبته زانك وإذا خدمته صانك وإذا أصابتك فاقة جاد لك بماله إن رأى منك حسنة نشرها وإن رأى سيئة كتمها وسترها لا تخاف بوائقه ولا تختلف طرائقه ورحم الله القائل:

وصاحب إذا صاحبت حرا مبرزا  يزين ويزري بالفتى قرناؤه

ومن وصايا لقمان لابنه: يا بني إياك وصاحب السوء فإنه كالسيف المسلول يعجبك منظره ويقبح أثره. يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة الحليم عند الغضب والشجاع عند الحرب والأخ عند الحاجة.

ولما قيل لخالد بن صفوان من تصحب أو تصادق قال: الذي يغفر زللي ويقبل عللي ويسد خللي.

وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: اصحب من ينسى معروفه عندك ويذكر حقوقك عليه.

إن أثر الصديق على صديقه عميق ولذلك طلب الإسلام منا التدقيق وحسن اختيار الأصدقاء والخلان حتى تكون الصحبة كريمة خالية من الأغراض الدنيئة خالصة لوجه الله تعالى فتولد وتشب وتكبر على الإيمان والحب في الله الواحد القهار.

فالصداقة تبقى ما دامت تحت كنف الله وطاعته فما كان لله دام واتصل وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

ويؤسفنا أن نقول بأن الصداقة في زماننا هذا أصبحت لدى الكثيرين من الناس من غرائب الدنيا وعجائب الزمن وذلك بسبب البعد عن المنهج الصحيح الذي وضعه الإسلام للروابط والعلاقات فأصبح اجتماع الناس إلا من رحم ربك من أجل الدنيا ومتاعها الفاني حتى إنه ليصدق فيهم قول القائل: ما في زمانك ما يضر وجوده   إن رمته إلا صديق مخلص.

وما كان هكذا سلفنا الصالح رضوان الله عليهم إنما كان حبهم في الله واجتماعهم لله وسعيهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله، وكانوا يجعلون التواصي بالحق والتعاون على الخير والبر والتقوى سياجا يحمي مودتهم.

فعندما يلتقي الرجلان أو الثلاثة وأكثر يتلو كل منهم على صاحبه عند الانصراف سورة العصر. وكان شهيد مؤتة عبدالله بن رواحة رضي الله عنه إذا التقى الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: “هيا بنا نؤمن بربنا ساعة”؛ يعني نذكره سبحانه وندعوه وقال عبارته يوما لرجل من الصحابة فغضب منه وشكاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: “يا رسول الله إن ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة”، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: “يرحم الله ابن رواحة إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة”.

صحبة الأخيار تورث سعادة الدنيا ونعيم الآخرة بل مجرد دوام النظر في وجوه الصالحين يورث صلاحا كما أن دوام النظر للمحزون يحزن وإلى المسرور يسر والجمل الشرود يصير ذلولا بمقارنة الذلول؛ فالمقارنة وهي تعني هنا الصحبة والموافقة لها تأثير في الحيوان والنبات والجماد ففي النفوس أولى وإنما سمي الإنسان إنسانا لأنه يأنس بما يراه من خير أو شر والعاقل من أحسن الصحبة والاختيار حتى لا يأتي يوم القيامة نادما متحسرا عاضا على يديه من ظلمه وسوء اختياره لأصدقائه يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا}.

لا يفوتنا أن ننبه بأن أمر الصداقة عندنا نحن المسلمين طاهر وشريف ونظيف وعفيف وليس الأمر كما عند كثير من الغربيين النفعيين والملحدين الذين جعلوها للمصلحة والمنفعة فحسب بل لوثوا مفهوم الصداقة ومعناها، وجعلوا ارتباط الرجل والمرأة بغير صفة شرعية صداقة، وأطلقوا على العلاقة الأثيمة بين الرجال والنساء وحتى بين أبناء الجنس الواحد صداقة، ولوثوا هذه القيمة الغالية والمعنى الكريم للصداقة والصديق.

فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به غيرنا، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا.

_______

* المصدر: موقع رابطة العلماء السوريين.

مواضيع ذات صلة