القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

الصيام والحياة في سبيل الله

د. محمد أحمد عزب (خاص بمهارات الدعوة)

في هذه الأزمنة زادت حدة الكلام عن الموت في سبيل الله تعالى، وأصبح جلُّ الاهتمام منصرفًا إلى أمنية الموت في سبيل الله تعالى، عزّز هذا ترغيب دائم لا يمله بعضهم من الكلام عن الشهادة ومكانة الشهيد عند الله، في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» [مسلم]، إذًا القضية في بيع الإنسان نفسه لله من أجل عتقها، وهذا البيع أحد أنواعه هو بيع النفس، وبعضه بيع المال قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}

الصيام أحد أسباب التوافق المجتمعي

[التوبة: 111] .

إن قيمة السعي في سبيل الله تعالى تستمد عظمتها مما يترتب عليها من فوائد وآثار، فقد كان النبي ذات مرة في السفر، ومن أصحابه من هو صائم، ومنهم من هو مفطر، لكن الصائمين عجزوا عن مشاركة الجمع في القيام بأعمال السفر وما يحتاجه من خدمة ومؤونة، وتفرد المفطرون بالعمل، لأنهم كانوا أنشط وأقوى من إخوانهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ» [متفق عليه]، فتأسس من هذا التقييم النبوي لفعل المفطرين تجاه الصائمين أن قيمة الأعمال تكون بالآثار التي ترتبت عليها، ولذا كان: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس» [ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني].. كما بين صلى الله عليه وسلم أن أعمال المرء تنقطع بموته، ولا يمكث له بعد موته أجرًا سوى ما وهبه للأحياء من بعده، ففي الحديث: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» [مسلم].

نلاحظ في ثلاثة الأنواع أن كلها تسهم بالنصيب الأوفى في عمارة الأرض، واستمرار الحياة بلا منغصات، فالصدقة الجارية تخفف من غلواء الحاجة لدى الأفراد، وهي ضمانة من ضمانات الاستقرار المجتمعي، والعلم هو أعظم وسيلة لتعمير الأرض وبقاء النوع الإنساني بلا تهارج، والولد الصالح هو أعظم عناصر البقاء الإنساني وقدرته على استمرار الحياة، فإن “الدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها” [ مجموع الفتاوى] والولد الصالح هو أعظم تجليات الرسالات السماوية عموما.

الصيام جُنة

نلاحظ في فريضة الصيام أن الله تعالى نسبها لنفسه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم…» [متفق عليه].

والتعقيب على الإضافة فيه إيماءة إلى ضرورة التعايش المجتمعي وفق التآلف والبعد عن الشقاق، فالصيام لصاحبه جُنة لا بد أن يكون كابحًا له ابتداء، ثم هو معين له على تحمل تجاوزات الآخرين بحقه، وفي ذلك من أسباب التوافق المجتمعي ما لا يخفى، حين يكف الصيام صاحبه عن الآثام، فلا يلفظ السوء ولا يتفوه به ابتداءً، ولا يرفع صوته بالصخب والجلبة التي تبعث الاشمئزاز في النفس، ثم يحاول الكف ما استطاع عن تجاوزات الآخرين مذكرا لهم بصيامه الذي يتلبس به، وقد نلاحظ أن كف الإنسان نفسه ابتداء وتحمله تجاوزات الآخرين انتهاء فيه من أسباب قطع الشر وتقليل آثاره لأبعد حدٍّ، وقد قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] ولما كان مثل هذا عزيزا وصف الله صاحبه بأعظم وصف: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35]، فإذا كان الصابر هو المختص بالدفع بالتي هي أحسن، فالباعث على الصبر هو ذات الصيام ففي الحديث: “…. والصوم نصف الصبر” [الدارمي وإسناده جيد] .

ولقد كان الصوم ذاته فرصة طيبة لعمل الخير في سبيل الله تعالى، ففي الصحيح: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان” [مسلم] والجود حياة أخرى مع الحياة، وشرف لا يدانيه شرف، كان من سماته وأخلاقه صلى الله عليه، وكان يزيد الجود جودًا مع الشهر الفضيل، وما ذاك إلا لما يراه من رحمات الله في جوده، كما التاجر الصدوق البر حين تعمه النعم يجود بلا حساب على الخلق.

غاية الأمر أن تعزيز خلق العيش في سبيل الله وعمارة الأرض واستبقاء الأثر فيها بالخير حياة أخرى ونعيم آخر، وانصراف الهمم فقط إلى الموت في سبيل الله، واعتباره هو المقصد الأسنى، دون ابتغاء الخير في عمارة الأرض، وابتغاء الأجر في كثرة السعي هو مما يتطلب إعادة النظر فيه، فالعيش في سبيل الله قد يفوق الموت في سبيله، وفي التنزيل الحكيم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فجعلت الآية الصديقين تلو الأنبياء وقبل الشهداء وفي كل خير، ورمضان فرصة لبلوغ الخير والحياة الهانئة في سبيل الله تعالى.

مواضيع ذات صلة