إعداد محمد شعبان أيوب
يُعرف فن الحرب في المفهوم الحديث بأنه مجموعة من المعارف المتعلقة بالصراع المسلح الهادف لتحقيق ما عجزت الوسائل السلمية عن تحقيقه، وتقسم هذه المعارف إلى ثلاثة أقسام، الاستراتيجية وفن العمليات والتكتيك أو التعبئة. فالإستراتيجية هي التي تعالج أنواع العمليات الحربية وأساليبها الضرورية لإنجاح هذه العمليات، وفن الحرب هو الذي يعالج تحديد فكرة العملية أو العمليات ووضع المخططات اللازمة لاستخدام القوى وحشد الإمكانيات الضرورية لتنفيذ فكرة العملية، والتكتيك هو تحديد فكرة العملية وأسلوب تنظيمها وطريقة تنفيذها وفق مخطط العمليات، حيث تنظيم التعاون بين الأسلحة والقوى المشتركة في المعركة[1].
ومن المعلوم أن العلوم العسكرية تطورت بتطور الصراع بين الأمم، وحينما ينظر القارئ العربي اليوم إلى واقع القوى العالمية وانتشار قواتها في العالم يتبادر إلى ذهنه عدة أسئلة ملحة متعلقة بماضيه وتاريخه، وهو الماضي الذي عرف فيه المسلمون معنى الحضارة والإمبراطورية، وهي: كيف انتشرت الجيوش في تاريخنا الإسلامي؟ وهل عرفت تلك الجيوش بعض هذه المفاهيم الحديثة من تطور العلوم العسكرية؟ وما هي الوسائل والتكتيكات التي وضعوها لأنفسهم لتحقيق أهداف الحروب أو ما عجزت عن تحقيقه الوسائل السلمية؟ وكيف كانت عقيدة الجيوش في ذلك التاريخ المتقدم من عمر حضارتنا؟ وكيف تعاملوا مع الشعوب أو “المدنيين” بتعبير عصرنا؟
أسئلة حول جيش المسلمين!
تبدو هذه الأسئلة مهمة أيضًا في ظل تطور الجيوش في منطقتنا العربية، وفي ظل تغير المفاهيم العسكرية والأخلاقية، وأيضا في ظل تغير الخارطة السياسية في العالم حيث أضحت الجيوش مرتبطة أيديولوجيا بحماية “التراب الوطني” في دول العالم الثالث أكثر من كونها جيوش “إمبريالية/توسعية” أو “كولونيالية/استعمارية” كما في تصور دول العالم “المتقدم” حيث لا تزال فكرة الإمبراطورية مسيطرة على العقل الجمعي للقادة والساسة والمفكرين على السواء في تلك الدول.
ويتفق كثير من المؤرخين العسكريين على أن العرب المسلمين أسهموا في تطوير فن الحرب، “وقد يكون دورهم في تطوير هذا الفن أكثر أهمية مما أحدثوه من تطور في مختلف المجالات الاجتماعية من أدب وفن وعلم”[2] كما يقرر بسام العسلي في موسوعته المهمة “فن الحرب الإسلامي”.
هذا الرأي من بعض المؤرخين العسكريين قائم على حقيقة لا تزال تدهشهم وهو كيف أزالت الجيوش الإسلامية أكبر دولتين عرفهما العالم القديم “فارس وبيزنطة”؟ وكيف تمكنت قوات المسلمين من الانتشار من حدود فرنسا وإسبانيا غربا إلى الصين شرقا مع فرض السيطرة على البحر الأبيض المتوسط؟
هذا مع ما يتبادر إلى الأذهان من أن القيادة في العصور الغابرة كانت سهلة التكاليف بالنسبة للقيادة في الحرب الحديثة لقلة عدد القوات حينذاك بالنسبة إلى ضخامة عددها وكثرة أسلحتها ووسائلها في الجيوش الحديثة، ولكن العكس هو الصحيح. “إن مهمة القائد في العصور الغابرة كانت أصعب من مهمته في العصر الحديث؛ لأن سيطرة القائد ومزاياه الشخصية، كانت العامل الحاسم في الحروب القديمة، بينما يسيطر القائد في الحرب الحديثة على قواته الكبيرة بمعاونة عدد ضخم من ضباط الركن الذين يعاونونه في مهمته ويراقبون تنفيذ أوامره في الوقت والمكان المطلوبين، كما يسيطر القائد على قواته بوسائط الاتصالات الداخلية الدقيقة من أجهزة لاسلكية وسلكية ورادار وطيارات وأقمار صناعية، بل إن هيئة الأركان مسئولة حتى عن تهيئة خطط القتال قبل الوقت المناسب، ولا يقوم القائد إلا بمهمة الإشراف على التنفيذ.” إن القائد في الحرب الحديثة يحتاج إلى العقل وحده، والقائد في الحرب القديمة يحتاج إلى العقل والشجاعة”[3].
حيث لا يمكن فهم كيفية انتشار الجيوش الإسلامية ونجاحها على أكثر من جبهة قتالية في آن واحد، وفي مساحات جغرافية شاسعة دون استيعاب أن هذه القوات التي تمكنت من إنجاح مهامها القتالية والعملياتية في عصر الخلفاء الراشدين (11- 40هـ) إنما استمدت عوامل هذا النجاح من العصر الذي سبق ذلك، عصر النبوة حيث المعاناة والضعف في أول الأمر ثم الانتصار السياسي والعسكري في نهاية المطاف.
فيرى بعض العسكريين أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناحية العسكرية يمكن تقسيمها إلى أربعة أدوار: دور الحشد، ودور الدفاع عن الدين، ودور الهجوم، ودور التكامل. فدور الحشد ظهر منذ البعثة حتى الهجرة إلى المدينة المنورة واستقراره هناك، وفي هذا الدور اقتصر الرسول على الحرب الكلامية، حيث التبشير والإنذار، وأما دور الدفاع عن الدين، فكان منذ بدء إرساله صلى الله عليه وسلم سراياه وقواته للقتال إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم[4].
أما دور الهجوم، فظهر من بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا هزيمة كل قوة تعرضت للإسلام، أما الدور الرابع والأخير فهو دور التكامل، وهو من بعد غزوة حُنين إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفسًا خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك إيذانًا بمولد الإمبراطورية الإسلامية[5].
تبوك.. ميلاد جيش قوي
كانت غزوة تبوك في العام التاسع من الهجرة، آخر أكبر العمليات العسكرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الغزوة التي لم يلتحم فيها الرسول مع عدوه من الروم البيزنطيين، نرى ميلاد جيش قوي آخذ في الاتساع، خارج من رحم القتال الداخلي القبائلي أو الجهوي، إلى القتال العالمي – بمفاهيم ذلك العصر – فتبوك كانت في أقصى شمال الجزيرة العربية، بما يعني أن دولة المسلمين الجديدة امتدت في كافة أرجاء الجزيرة العربية، وأن هذا الاتساع كان له تداعياته العسكرية بضرورة وجود جيش قوي وسريع وفعال في حماية حدود هذه الدولة الجديدة، بل وضرورة اتساعها خدمة لأهداف الدين.
ونظرا لقوة وضخامة هذه الغزوة مع عدو خارجي قوي مثل الدولة البيزنطية أعلم النبي عموم الناس بحقيقة مقصده، يقول ابن كثير: “لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم عام تبوك وكان ذلك في حر وضيق من الحال، جلّى للناس أمرها، ودعا من حوله من أحياء العرب للخروج معه فأوعب معه بشرٌ كثير”[6].
ورأى بعض الباحثين أن غزوة تبوك والتي انسحب فيها الروم عن مواجهة المسلمين خوفا من قوة استعداداتهم، تجلت فيها قوة الجيش الإسلامي الجديد، ففيه نرى مفهوم الحرب الجماعية أو الشاملة ومعناها حشد النبي لقوى “الأمة” لا الجيش وحده للأغراض المادية والمعنوية والعقلية، وقد سبق النبي صلى الله عليه وسلم عصره بهذا المفهوم، ففي العصر الحديث فقط تكلم الاستراتيجي الألماني لودندورف في كتابه “الأمة في الحرب” عن هذه الإستراتيجية قائلاً: “إن الحرب الحديثة لم تبق حرب جيوش وقوى عسكرية فقط، وإنما هي حرب إجماعية تقوم على حرب الأمم ضد الأمم، ولهذا يجب أن تضع الأمة كل قواها العقلية والأدبية والمادية في خدمة الحرب، وأن تكون هذه القوة مخصصة للحرب التالية”[7].
فكان عدد المسلمين ثلاثين ألفا في هذه المعركة، كان بينهم عشرة آلاف فارس وقد تحركوا صيفا في موسم قحط شديد لمسافة طويلة في الصحراء، لذا لم يكن من السهل إمداد مثل هذا الجيش الكبير في مثل تلك الظروف القاسية بمواد الإعاشة والماء والنقل والسلاح، لذا سُمي هذا الجيش باسم جيش العسرة حيث اشترك فيه المسلمون كلهم عدا ثلاثة أشخاص تخلفوا عنهم، نزلت عليهم عقوبة جماعية قاسية بعزلتهم عن المجتمع لخمسين يوما، وقد اشترك المسلمون كلهم في تجهيز ذلك الجيش، بل وحضهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال ابن هشام في سيرته: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جدَّ في سفره، وأمر الناس بالجهاز والانكماش، وحضّ أهل الغنى على النفقة والحُملان في سبيل الله، فحمل رجالٌ من أهل الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم يُنفق أحدٌ مثلها”[8].
وتجلى في غزوة تبوك مفهوم “التدريب العنيف”، ففي الجيوش الحديثة نرى هذا المفهوم واضحًا، حيث تعمل هذه الجيوش على تدريب جنودها على اجتياز الموانع والعراقيل الصعبة، وقطع المسافات الطويلة، والحرمان من الطعام والماء بعض الوقت، لإعدادهم لتحميل أصعب المواقف المحتمل مصادفتها في الحرب، وبالمثل تحمّل جيش تبوك مشقات لا تقل صعوبة عن مشقات هذا التدريب العنيف إن لم تكن أصعب منها بكثير؛ حيث تركوا المدينة في موسم نضج الثمار، وقطعوا مئات الكيلومترات إلى الشمال في هجير الصحراء العربية القاحل والقاسي، يقول عمر بن الخطاب في ذلك: “خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا تنقطع حتى إن كان الرجل لينحرُ بعيره فيعصرُ فرثه فيشربه ويجعلُ ما بقي على كبده”[9].
هكذا اعتاد المسلمون للوصول إلى أرض المعركة على المسير ليلا في الصحراء، وهذه الحركة ضرورية جدا خاصة في الصحراء، وهذا ما تطبقه الجيوش الحديثة، ويمكن اعتبار غزوة تبوك معركة معنويات لا معركة ميدان، فقد أدى اندحار الروم معنويا في غزوة تبوك إلى تفكير القبائل العربية الخاضعة لهم بعدم جدوى اعتمادهم عليهم لينالوا حمايتهم، ولا بد لهم من التحالف مع المسلمين الأقوياء الجدد ليضمنوا لهم الحماية والاستقرار، لذلك أقبلت تلك القبائل على مصالحة المسلمين وموالاتهم، بل وازداد انتشار الإسلام فيما بينهم عما كان عليه بعد غزوة مؤتة[10].
يرى الخبير العسكري العراقي محمود شيت خطاب أن الجانب الاستخباراتي عند المسلمين والروم كان قويا فعّالا، يقول: “لم يكن المسلمون غافلين عن حركات الروم العسكرية وعن نياتهم، فقد استطاعوا معرفة تحشّدات قواتهم، ومواضع تلك التحشّدات، ونياتهم مبكرا وبصورة مفصّلة، مما جعلهم يتحركون إلى تبوك للقضاء على قوات الروم قبل أن يستفحل أمرها وتتعرضا بالحدود الإسلامية” ورأى أن مخابرات الروم كانت قوية للغاية وكانوا على علم بما يحدث في المدينة المنورة عاصمة المسلمين[11].
العامل الآخر المهم في بلوغ الجيش الإسلامي آنذاك درجة عالية من الاحترافية هو عامل “الانضباط”، فإقبال المسلمين على الانخراط في جيش “العُسرة” وتحملهم المشقات بنفس راضية قانعة يدل على مبلغ الانضباط العالي الذي وصلوا إليه، “إن الضبط أساس الجندية، ولا ينجح جيش لا يتحلى بالضبط المتين في أية معركة مهما يكن عدده كثيرا وسلاحه مؤثّرًا، وإذا كان هناك فرق واضح بين العسكريين والمدنيين فهو الضبط الذي يتمسك به العسكريون قبل كل شيء. إن إطاعة المسلمين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو قائدهم في هجر المتخلفين دليل على ضبطهم المتين، وأيّ ضبط هذا الذي جعل أمر القائد ينفّذه أهل المتخلف “عن تبوك” حتى زوجته وأولاده بشكل أدق وأعنف مما يُنفذه الغرباء عنه، وهو في محنته القاسية التي تستدرّ العطف والإشفاق من الناس جميعا”[12].
في تبوك حقق النبي صلى الله عليه وسلم عدة أهداف، أولها أنه مكث هنالك عدة أشهر منتظرا قدوم الروم لمواجهتهم، لكن الروم خافوا من هذا الحشد العظيم، وهذه الجرأة التي جاءت بها القوات الإسلامية لمقارعة الروم، يندهش المستشرق البريطاني بودلي من قوة النبي وأخلاقه في آن واحد أثناء وجوده في تبوك قائلا: “لما لم يكن هناك من يُقاتلون، فإن محمدًا بعث كتائب خفيفة إلى المناطق المجاورة لإخضاع الزعماء المحليين فانضم المسيحيون واليهود وعبدة الأصنام إلى معسكر المسلمين دون تذمّر، وكانت الكتيبة الوحيدة التي عادت ورماحها تقطر دما هي كتيبة خالد… بقي محمد (صلى الله عليه وسلم) في تبوك بضع شهور، وكان في ضيافة قبائل القطر جميعه، فلما لم يظهر أي روماني، استشار رجاله المقربين في أن يخرج في أثرهم، فعارض عمر ذلك، وقال يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعنا هذه السنة حتى ترى أو يحدث الله أمرا”[13].
عاد النبي صلى الله عليه وسلم بعد بضعة شهور في ديسمبر، وقد حقق جملة عظيمة من الأهداف الكبرى، أولها إفزاع الروم البيزنطيين الذين أيقنوا منذ تلك اللحظة أن دولة قوية قادمة تلوح على حدودهم الجنوبية، وأنه لا شك سيأتي يوم قريب ويدخل فيه هؤلاء العرب المسلمون إلى عمق المناطق الرومية في بلاد الشام، والأمر الآخر أصبح جيش المسلمين جاهزا منذ تلك اللحظة لتحقيق الأهداف العسكرية التي تخدم أهدافه، جيش لم يعد مناطقيا ولا جهويا ولا قبائليا، ولن تقف أمامه إلا قوى الطبيعة من البحار أو الأنهار أو الأمراض.
* مأخوذ بتصرف من “ميدان الجزيرة”.