عرض: نادية سعد معوض **
صدر عن سلسلة “عالم المعرفة” الكويتية الترجمة العربية لكتاب “الغرب والإسلام.. الدين والفكر السياسي في التاريخ العالمي” لمؤلفه أنتوني بلاك، وفيه
يقدم المؤلف دراسة مقارنة للفكر السياسي بين ثلاث منظومات منفصلة للفكر السياسي الغربي والفكر السياسي الإسلامي بصورة أساسية، وعلى نحوٍ أقل يتناول الفكر السياسي البيزنطي، بهدف الكشف عن العوامل والأسباب التي ساهمت في حدوث التشابه والتباعد فيما بينها وزمن حدوث ذلك، والطرق التي حدث فيها هذا التطور، الذي جعل العالم على الصورة التي أصبح عليها الآن، بغية تقديم تفسير لهذا التباعد الذي ساهمت فيه الأنساق الفكرية القديمة والوسطى، مما يدفع إلى تفحص الكيفية التي كان ينظر فيها إلى مواضيع الحكم الملكي والشعب والعدالة وذلك على أساس تحقيبي.
بينما يؤكد الدكتور فؤاد عبد المطلب مترجم الكتاب أن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة بين المهاجرين والأنصار حول موضوع تولي السلطة أو الخلافة معبرًا عن هذا الواقع حين تركز الحوار حول تحديد الشخص الذي تتحقق فيه الصفات والكفاءات التي تجعله حاكمًا مقبولاً ومطاعًا عند المسلمين.
كما يرى عبد المطلب في تقديمه أن نظرة تحليلية إلى حوار السقيفة الذي يعتمد المحاججة والإقناع من شأنها أن تظهر المنطلق الإنساني في حل مسألة انتقال السلطة وتأسيس الخلافة. وقد برزت قضية انتقال السلطة بوصفها عاملاً مهمًّا من عوامل الحفاظ على استقرار المجتمع وتماسكه والاستمرار في بناء الدولة الجديدة والحفاظ عليها أثناء الخلافة الإسلامية الراشدة.
ويؤكد المترجم أن الخلفاء الراشدين حاولوا وضع رؤاهم عن الحكم قيد التطبيق العملي بوحي من القرآن والسنة، ولم تكن رؤية أبي بكر الصديق في القيادة محفوظة في أقواله البليغة فحسب -مثل “فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني”، و”أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم”- ولكنها تبين أيضًا أن أبا بكر لم يكن يسعى إلى منصب إن لم يكن يعارض ذلك، لكنه يبرز بوصفه المرشح الأفضل القادر على تجاوز المنافسات الشخصية والعائلية والعشائرية التي أخذت بالظهور، ولو بصورة جانبية في المجتمع الإسلامي الفتي. وسيظهر بعد ذلك المثال القيادي لأبي بكر في تقديمه نموذجًا للتواضع والتوافق والصلاح والتركيز على أعمال البر والإحسان والخير العام.
صراع سياسي
ويوضح مؤلف الكتاب أنتوني بلاك بأن هذا الكتاب جزء من مشروع لكتابة تاريخ عالمي للفكر السياسي، وهو يمثل خطوة البداية فيه. كما يشير بلاك إلى حقيقة هامة تتمثل في أن الصراع الأيديولوجي بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية يعود إلى أسباب سياسية، فقد كان حتى العام 1050م ثمة قواسم مشتركة كثيرة بين أوربا المسيحية والإسلام والعالم البيزنطي. ويذهب المؤلف إلى القول بأن هذه الثقافات الثلاث تتطلب دراسة مقارنة نظرًا لكونها تتقاسم مجموعة من التركات المشتركة بسبب تجاورهم ماديًّا، إلى جانب بعض الحوار الذي كان قائمًا فيما بينها، إضافة إلى العلاقات التجارية.
ينطلق المؤلف في دراسته المقارنة من الوضع الذي شكلته كل من الإمبراطوريات الثلاث؛ البيزنطية، والغرب، والعالم الإسلامي، باعتبارها ثلاث مناطق ثقافية متباعدة، ولكنها متجاورة، وقد كان الإسلام هو آخر الحركات المحورية التي انفتحت على العالم بوعي ذاتي اجتماعي جديد، وكان الحكم فيها يقع بين الحكم الملكي القديم وتفكيك الدولة، في حين أن الغرب بدأ بالتمايز تدريجيًّا على مستوى الثقافة والمنظومة السياسية عن الإمبراطورية الرومانية الشرقية، بعد نقل العاصمة إلى القسطنطينية والغزوات الجرمانية في القرن الخامس الميلادي حين فقدت المنطقة الثقافية المسيحية البيزنطية مصر وسوريا وفلسطين لمصلحة العرب.
كما يركز المؤلف في هذا الكتاب على الفترة الممتدة من ظهور الإسلام حتى العام 1450م، نظرًا لأنها الفترة التي ساهمت في تكوين الفكر السياسي لكل من الغرب والعالم الإسلامي. وإذا كان الفكر السياسي المسيحي الشرقي قد تشكل قبل الإسلام، فإن الفكر السياسي الغربي قد ظهر قبل وقت طويل من ظهور الإسلام، بسبب ارتباطه المبكر على نحو متكامل مع المسيحية المبكرة والإمبراطورية الرومانية المتأخرة.
وفي دراسته للاختلافات الأصلية بين الثقافات الثلاث، يشير أولاً إلى أن المسيحية المبكرة لم يكن لديها برنامج سياسي بأي معنى عادي؛ لكونها كانت تتوقع العودة الفورية للمسيح المنتظر، لكي يصحح جميع الأخطاء، إضافة إلى أن المسيح تفادى السياسة، ولذلك رفض المسيحيون الأوائل الارتباط السياسي، كما أنهم تركوا تطبيق المبادئ الأخلاقية لتوجيه الروح القدس، لكن الأهم كان اعتبار الكنيسة مجتمعًا منظمًا ومقدسًا منفصلاً عن الدولة، في حين قبل المسيحيون بشرعية النظام العام والسلطة الرسمية.
وعلى خلاف موقف الكنيسة قام الإسلام المبكر بتنظيم السلوك الشخصي والاجتماعي بالتفصيل على أساس شرعي سماوي، يستند إلى القرآن والحديث، وقد كان مركز الإسلام هو الشريعة، في حين بدأ المسلمون الأوائل مهمتهم العالمية بالفتح والحكم والتأسيس لنوع جديد من الحكم، يستند إلى الوحي، وبذلك احتلت الشريعة والخليفة وعلماء الدين مكان الدولة والكنيسة في الغرب، الأمر الذي جعل للكهنة المسيحيين والعلماء المسلمين مهامًّا مختلفة، لكن الدولة الإسلامية قامت بتشريع قوانين غير دينية مما لا يتعارض مع الشريعة، ومع ذلك كان الدور الاجتماعي للدين في أوربا غير معروف.
الغرب والإسلام
يوضح المؤلف التبدل الذي طرأ على وجهتي النظر المسيحية والإسلامية مع مرور الزمن حول السلطة السياسية، والعلاقة بين الدين والسياسة، مما جعل كلاًّ من الكنيسة البابوية والخلافة الإسلامية تتبنى -بحسب رأي المؤلف- الحكم الملكي المقدس، الذي امتد إلى الحكومات الملكية الجديدة في أوربا الغربية والشرقية. وكما كان هناك تعايش في العالم البيزنطي والعالم الإسلامي بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية، كان هناك أيضًا تعايش بين المجالات الدينية والسياسية وسلطاتها الخاصة، ولكن بعد القرن الرابع عشر الميلادي ظهر اختلاف كبير بين المسيحية الشرقية والمسيحية الغربية. خلال تلك الفترة توجه الإسلام باتجاه الفصل بين العاملين الديني والسياسي إلى حد ما، وبينما كانت الأفكار الإسلامية نحو الأمة تتجه إلى الرُّوحانية أكثر فأكثر، كانت المسيحية في مواجهة مع السلطة.
على صعيد آخر يرى المؤلف أن الدولة الإسلامية الوراثية شهدت ظهور ميل إلى توظيف الدين من أجل تحقيق الدعم الشعبي، وهو ما لجأ إليه السلاطين العثمانيون، الأمر الذي جعل الدين يقوم بدور مهم في الحياة السياسية. وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين برز ميل عند المفكرين المسلمين في مواجهة الهيمنة العسكرية والاقتصادية الأوربية لتطوير نوع من النظم السياسية، فأخذوا يناصرون حكم القانون والديمقراطية الدستورية؛ فظهر توجه جديد لدى المصلحين السياسيين في الإمبراطورية العثمانية للعمل بصورة مستقلة عن القيادة الدينية، إلا أن المشكلة التي واجهت الجميع كانت الكيفية التي يمكن أن يتم فيها التوفيق بين تطبيق المعايير الديمقراطية ومعايير الإسلام الأصلية.
ويؤكد المؤلف أن برامج هؤلاء المصلحين الدينيين كانت تتطلع إلى الماضي واستعادة روح المجتمع الإسلامي الأول، في حين أن المسيحيين المؤمنين وجدوا في العصر الألفي مخططًا لتحقيق مشاعية الكنيسة المبكرة، ولذلك اعتقد الطرفان الإسلامي والمسيحي أن العنف ضروري لتحقيق هذا الهدف. وكما شاع في الإسلام مفهوم الحرب المقدسة لنشر الدعوة -بحسب رأي المؤلف- فإن مسيحيين كثيرين قبلوا مبدأ استخدام القوة والحرب المقدسة.
ويتقصى المؤلف أصول السلطة القضائية المفروضة في الإسلام والغاية منها، حيث كان هاجس المسلمين دائمًا هو الخلافة عكس الأوربيين الذين كان هاجسهم الدولة، بسبب اختلاف الأفكار التي اعتمدوا عليها. وبعد أن يَعرض لأفكار القديس أوغسطين في هذا المجال يؤكد أن المفكرين الأوربيين منحوا تراثهم الكلاسيكي نظرة مختلفة عن تلك التي منحها الفلاسفة والمشرِّعون المسلمون. كذلك يقيم مقارنة بين أطروحات ابن رشد ومارسيلوس أوف حول أصول الدولة، ومفهوم الاجتماع، إضافة إلى دراسة مسئوليات كل من الدولة والخلافة، ومفاهيم الأمة والقوة والحق والفكر السياسي عند ابن خلدون ومكيافيلي وماركس.
ويُعد “كتاب الغرب والإسلام” بفصوله الثمانية لمؤلفه أنتوني بلاك -الأستاذ الفخري لتاريخ الفكر السياسي في جامعة دندي في إسكتلندا ببريطانيا- دراسة جيدة، ومقارنة تاريخية في الفكر السياسي؛ إذ يتفحص المقاربات الغربية والإسلامية لعلم السياسة والقواسم المشتركة بينها، بالإضافة إلى مواطن التفرع والاختلاف.
—-
المصدر: نوافذ/الإسلام اليوم