رحاب خالد
“الفطرة” كلمة عربية تعني الخِلقة أو الصِبغة التي خلق الله عليها الإنسان. وهي الخط الدقيق الكاشف للصواب والخطأ، وحتمًا كل إنسان قد جاءته تلك اللحظات الفاصلة عندما يدرك أمرًا ما ويميز الصواب عن الخطأ؛ إذ لا يمكن ألا يأتيك ذلك الشعور المغروز المُهيمن على مشاعرك.
ولا يرد انحرافات النفس إلا الفطرة المتوافقة مع منهاج الشرع الحنيف. {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)؛ لذلك كان الأمر الإلهي {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}؛ لأنه العاصم والملاذ من مستنقع الشهوات والمهالك.
قال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله-: “إن في القلب شعثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وعليه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلقًا لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلبًا شديدًا لا يقف دون أن يكون هو وحده المطلوب، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته ودوام ذكره والإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدًا”.
ومن أهم وأشمل هدايات الفطرة: هو الإقرار بالخالق وعبادته واللجوء عليه عند مواجهة النوازل، فيدرك الإنسان أن ثمة قوة عليا بمقدورها إنقاذه من المصائب. وهذا ما يؤكده قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ}. {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}؛ فتلك النزعة الكامنة داخل الإنسان تجعله يدرك أن له ربًا خلقه ويريد التقرب منه، ومن ثم فهو يلجأ إليه عند الشدائد.
كيف يتعامل المُلحِدون مع تلك النزعة؟
قد يغُالِب الملحد نفسه كثيرًا لإنكارها والسعي وراء تجاهلها أو تفسيرها تفسيرًا ماديًا بحتًا؛ كالقول أنها مُكتسبة من المجتمع والبيئة الناشئ بها. ولكن تظل الفطرة تراوده وتؤرق منامه، لا يستطيع التخلص منها؛ فيبحث عن أسبابها، كالزعم أنها خرافات لا صحة لها، أو أنها من مجتمعات توارثتها الأجيال، أو من التربية في مرحلة الطفولة. فيزعم ريتشارد دوكنز في كتابه “وهم الإله”:
“إن منتج التدين والإيمان ناشئ عن نزعة الطفل في تصديق والديه في كل ما يقولانه”.
يتصارع الملحدون لكبح تلك النزعة من فطرة العبادة واللجوء إلى الخالق بإنكارها أو التهكم منها، وأحيانا سبّها. فلماذا يُصرون على الجدال حول ذلك الأمر وهو غير موجود برأيهم؟! وبالطبع، هم لا يؤمنون بالجزاء والعقاب؛ فلا فائدة ستعود عليهم من ذلك الأمر.
ومنهم من أقر بها ولكن ذلك لم يرُدّه عن إلحاده، فماذا فعل؟
أسسوا دورًا تُسمى «كنائس الملاحدة»، فتجد عشرات الأشخاص متجمعين لسماع أناشيد موسيقية، ثم إلى عظات بشكل يشبه العظات التي تُقام في الكنيسة يوم الأحد.
وقد بدأ تلك الفكرة ألبرت أينشتاين وأنصاره من الملحدين للتجمع يوم الأحد، ووفقًا له: “فالدين كله ليس سيئًا”، وليس هناك ما يمنع الاستفادة من إيجابياته!
الغاية من الوجود
ومن هدايات الفطرة أيضًا: فهم الغاية من الوجود في الحياة. وقد حدد القرآن الغاية والهدف من الوجود؛ فالعبادة -من استقرار لمعنى العبودية والاستسلام للنفس وعبادة الله بكل الجوارح والتوجه بها له عز وجل- هي غاية الوجود.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات 56).
فالعبد يتقرب إلى الله بالعبادة بمحبة خالصة لينال مرضاته ولطفه؛ كنتاج للفطرة الكامنة التي وضعها الله بنفوسنا {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186) تلك هي العلاقة بين العبد وربه؛ نحن نتعبد ونسأله، وهو يجيب ويهدينا إلى لطائف قدره.
والإيمان بالحياة الآخرة -من موت وبعث وحساب- هو نتاج لرحلة الحياة التي حييناها، فنحيا ونموت ونُبعث من جديد بلا فناء.
فالغاية من الوجود طبقًا للمنهج الإسلامي هي معرفة الله وعبادته، وهي أسمى ما يمكن أن يصل إليه أي إنسان، وهي الغاية التي ليس بعدها غاية. وقد يشعر الإنسان باللامعنى إن غاب عن حكمة وجوده؛ فيقع فى الضياع التام، مثلما عبر عن ذلك شاعر المهجر إيليا أبو ماضي:
جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت
ولقد أبصرت قدّامي طريقًا؛ فمشيت
وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري!
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجود؟
هل أنا حرّ طليق أم أسير في قيود؟
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مَقُود؟
أتمنّى أنّني أدري ولكن…
لست أدري!
الحياة بلا معنى
يقول الملحد وودي آلن عند سؤاله عن غاية الحياة: “كلّ شيء سبق لك أن حقّقتَه مصيره إلى زوال محتوم، الأرض ستزول، والشمس ستنفجر، والكون سينتهي، وكلّ أعمال شكسبير ومايكل أنجيلو وبيتهوفن ستختفي في يوم ما مهما قدّرناها وأسبغنا عليها من عظمة ورفعة. إنّ من الصعب إقناع الناس بأي شيء إيجابيّ حول هذا الأمر”.
وقال أيضًا: “أشعر أن الحياة تجربة محبطة، مؤلمة، كارثية، وليس لها أي معنى، وإن الطريقة الوحيدة التي تستطيع من خلالها أن تكون سعيدًا هي أن تكذب على نفسك وتخدعها”، وقال: “فالحياة في الحقيقة ليس لها أي معنى، فنحن نحيا في كون عشوائيّ بلا معنى”.
فالفطرة هي المؤرِّق الدائم لأي منكر لوجود الله، والأمر لا يحتاج فيلسوفًا أو عالمًا ليدرك وجود الله، بل نحن جميعًا مفطورون على معرفة أن هناك خالقًا لهذا الكون. واضطراب الإنسان ببُعده عن الإيمان، وراحته باتباع فطرته شيء لا يمكن إنكاره في العلوم الحديثة، كعلم الإنثروبولوجيا.
علاقة الإلحاد بالانتحار
هناك عشرات الأبحاث سنويًا تدرس قضية الاكتئاب عند الملحد ومترتباته الاجتماعية، من أُولى هذه الدراسات: دراسة مرعبة للبروفسور الاسترالي José Manoel Bertolote، عضو ومشرف مسؤول في منظمة الصحة العالمية، ويعمل حاليًا في Australian Institute for Suicide Research and Prevention. ، تناولت دراساته ظاهرة الانتحار من مختلف الأبعاد؛ كالجنس والعمر والجغرافيا والدين.
وهذه دراسة أخرى بعنوان : Religious Affiliation and suicide attempt، وهي دراسة أجراها باحثون أمريكيون، وتعتبر الأولى من نوعها عام 2004، وتهدف لدراسة علاقة الانتحار بالدين.
أُجريت الدراسة بعناية فائقة، وتم اختيار عدد كبير من الأشخاص الذين حاولوا الانتحار أو انتحروا بالفعل، ومن خلال سؤال أقاربهم وأصدقائهم، ودراسة الواقع الديني والاجتماعي لهم، تبين أن أكثر المنتحرين هم الملحدون (واللادينيون)، فقد جاؤوا على رأس قائمة الذين قتلوا أنفسهم ليتخلَّصوا من حياتهم وتعاستهم.
وقد أثبتت هذه الدراسة المنشورة في مجلة طب النفس الأمريكية وجود تأثير قوي للتعاليم الدينية في الحد من ظاهرة الانتحار، وأثبتت كذلك أن الزواج له تأثير قوي في علاج الانتحار، وكذا إنجاب الأطفال وتحقيق السعادة والاستقرار والعلاقات الاجتماعية.
خاتمة
إن جحود الفطرة، وما يترتب عليها من جهل غاية الوجود في الحياة، يجعل الإنسان بين غمامة الاكتئاب والشعور بالانهزامية، يقاوم ويكبت فطرته المولود بها بإنكاره للخالق؛ فمصيره العدم، ولا معنى لحياته، ولا ينتظر جزاء في الآخرة التي لا يؤمن بها.
فلا هدف يعيش من أجله، ولا يفهم أسباب وجوده في الحياة؛ فيصبح كالسجين، ولكنه سجين داخل نفسه. ولا شيء يهدي النفس ويطمئنها من جديد غير الإيمان والرجوع للفطرة، فلا يمكن أن يحيا حياة مطمئنة بدونها.
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30).
—–
* المصدر: موقع “تبيان”.