د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
لقد امتن الله عز وجل على بني آدم أن خلقهم في أحسن تقويم، وسخر لهم ما في السماوات والأرض جميعا منه، ولكن شاءت إرادته وحكمته أن يوجد مَن بهم بعض
الإصابات أو الإعاقات، سواء أكانت إعاقة ولد بها أم أصابته في تقلبات الحياة وصروف الدهر.
والمعوق أيا كانت إعاقته وسببها يناله ضرران؛ ضرر مادي محسوس وضرر معنوي ونفسي. وقد كتب الله عز وجل العدل على ذاته العلية، وهذا العدل يقتضي أن يعوض كل ذي نقص عن نقصه؛ فمن أصيب في جانب تفوق في آخر.
فكم من كفيف تميز بقوة الذاكرة والحفظ، وكم من معوق اليد تميز بقدم ذات مهارات خاصة، وهكذا يعوض الله الجانب المادي المحسوس في الدنيا، وفي الآخرة وعد الله عز وجل من صبر على البلاء بالثواب الجزيل والأجر العميم؛ فقد تكرر في القرآن الكريم الأمر بتبشير الصابرين والثناء عليهم، حتى قال عز وجل: {إِنَّمَا يُوفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر: 10).
أما الضرر النفسي والمعنوي فقد حفلت آيات القرآن –فضلا عن السنة النبوية- ببعض الملامح التي فيها تطبيب للنفوس وتضميد للجراح المعنوية للمعوق.
وفي السطور التالية نعرض لبعض ما ورد في القرآن الكريم من هذه الملامح التي تنزل على قلب المكلوم فتكون بردا وسلاما، وعلى نفس الملهوف فتؤنس وحشتها وتزيل همها وغمها.
تفويض الأمر لله
النفس تطمئن وتهدأ إذا أيقنت أن ما أصابها إنما هو بعلم الله، وأن ما بها من نعم فمن الله؛ ولذلك أخبر الله تعالى قائلا: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (النحل: 53).
يقول الطبري في هذه الآية: “ما يكن بكم فـي أبدانكم أيها الناس من عافـية وصحة وسلامة وفـي أموالكم من نماء؛ فالله المنعم عليكم بذلك لا غيره؛ لأن ذلك إليه وبيده.
{ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ} يقول: إذا أصابكم فـي أبدانكم سَقَم ومرض وعلة عارضة وشدّة من عيش، {فإلَـيْهِ تَـجْأَرُونَ} يقول: فإلـى الله تصرخون بـالدعاء وتستغيثون به، لـيكشف ذلك عنكم”.
فالله عز وجل يخبر أهل البلاء أن النعم التي يتمتع بها غيرهم والتي حرموا هم منها.. كل ذلك من الله وبعمله لحكمة يعلمها، وأن ما أصابهم من ضر سبب حتى يلجئوا إلى ربهم ويبتهلوا إليه بالدعاء أن يرفع عنهم البلاء، وبذلك يكون في بلائهم الخير الباطن الذي لا يدركه إلا من وفقه الله تعالى لفهم حِكَمه تعالى الباطنة؛ ولذلك يقول تعالى في آية أخرى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}؛ فالإنسان بطبعه تنسيه كثرة النعم والعافية، ويقربه البلاء من ربه ويذكره به.
وفي موضع آخر يقول الله عز وجل مضمدا جراح من ابتلي بأذى أو أصابه مكروه: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد: 22، 23).
فما دام الأمر من عند الله وبعلمه سبحانه فلا نملك إلا الاطمئنان والثقة في موعود الله والصبر على بلائه، ولصاحب الظلال كلام معبر حول هذا المعنى؛ إذ يقول: “إن الإنسان يجزع ويستطار وتستخفه الأحداث حين ينفصل بذاته عن هذا الوجود، ويتعامل مع الأحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده الصغير، فأما حين يستقر في تصوره وشعوره أنه هو والأحداث التي تمر به، وتمر بغيره، والأرض كلها.. ذرات في جسم كبير هو هذا الوجود، وأن هذه الذرات كائنة في موضعها في التصميم الكامل الدقيق، لازم بعضها لبعض، وأن ذلك كله مقدر مرسوم معلوم في علم الله المكنون حين يستقر هذا في تصوره وشعوره؛ فإنه يحس بالراحة والطمأنينة لمواقع القدر كلها على السواء؛ فلا يأسى على فائت أسى يضعضعه ويزلزله، ولا يفرح بحاصل فرحا يستخفه ويذهله، ولكن يمضي مع قدر الله في طواعية وفي رضا.. رضا العارف المدرك أن ما هو كائن هو الذي ينبغي أن يكون”.
ثم يعقب رحمه الله تعالى قائلا: “وهذه درجة قد لا يستطيعها إلا القليلون؛ فأما سائر المؤمنين فالمطلوب منهم ألا يخرجهم الألم للضراء، ولا الفرح بالسراء عن دائرة التوجه إلى الله، وذكره بهذه وبتلك، والاعتدال في الفرح والحزن. قال عكرمة -رضي الله عنه-: (ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرا والحزن صبرا).. وهذا هو اعتدال الإسلام الميسر للأسوياء”.
إسقاط الحرج
من رحمة الله عز وجل بعباده أصحاب الإعاقات والأعذار أن رفع عنهم الإثم والحرج في عدم خروجهم للجهاد نظرا لعدم مقدرتهم على ذلك لما بهم من إعاقة.
ومن كمال حكمته تعالى أن جعل لهم عملا بديلا عن الجهاد يتناسب وحالتهم وهو النصح لله تعالى ورسوله؛ فإذا قاموا بواجبهم الدعوي ونصحوا بالطاعة والإيمان لله ورسوله على قدر استطاعتهم فإن إثم التخلف عن الجهاد يرتفع عنهم.
فقد قال تعالى بعد أن ذكر المعذِّرين من الأعراب، وقعود الذين كذبوا الله ورسوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 91).
وقال تعالى أيضا في موضع آخر بعد ذكر المخلفين من الأعراب: {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} (النور: 61)؛ فالأصل في هذا الأمر هو طاعة الله تعالى ورسوله حسب الاستطاعة والمقدرة.
بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جعل لمن حبسه العذر مثل أجر من خرج وجاهد وتعب؛ فقال –صلى الله عليه وسلم-: “لقد تركتم بالمدينة أقوامًا ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من وادٍ إلاَّ وهم معكم فيه”. قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: “حبسهم العذر”.
أولوية الحقوق النفسية
ما أعظم هذا الدين الذي يعاتب فيه الرب سبحانه وتعالى رسوله الكريم –صلى الله عليه وسلم- في أمر ربما يستصغره الكثيرون، خاصة أنه لو لم ينزل به القرآن لمرَّ دون أن يدري به أحد، لكن شاءت إرادة الله عز وجل أن يُنزل قرآنا يتلى إلى يوم الدين على رأس سورة حملت اسم الحادثة، رغم أن السورة جاءت تعالج أمور العقيدة واليوم الآخر.
إنها سورة “عبس” التي جاء مطلعها فخرا لكل من أصيب بالعمى؛ فابن أم مكتوم الذي كان أعمى جاء إِلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، والرسول -صلى الله عليه وسلم- مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام.
فعبس وجهه -صلى الله عليه وسلم- وأعرض عنه، فنزل قول الله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 1-10).
فهذا الأعمى الضعيف الذي جاء يسعى لطلب الهداية والمعرفة أفضل عند الله تعالى من كبراء القوم الذين استغنوا وابتعدوا عن طريق الحق. مع أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان مشغولا معهم بأمر الدين، وليس بأمر شخصي يخصه -صلى الله عليه وسلم- فهو كان يريد من وراء هدايتهم النفع للدين كله، لكن كل هذا في ميزان الله تعالى لا يكون على حساب ضعاف المسلمين من ذوي الإعاقات وغيرهم.
ويعلق أ.سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية قائلا: “… ثم إن الأمر أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد، ومن موضوعه المباشر. إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض، ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية.. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)..
والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية. النسب والقوة والمال وسائر القيم الأخرى لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى. والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى”.
النهي عن السخرية والاستهزاء
ربما يكون أصحاب العاهات وذوو الإعاقة مثارا للسخرية والاستهزاء، ولذلك جاء النهي القرآني قاطعا وواضحا في النهي عن هذا الأمر؛ بل وجاء تفصيليا موجها للرجال وللنساء، كل بلفظه وضمائره المعبرة عنه؛ حيث قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11).
في هذه الآية الكريمة نهي واضح عن أن يسخر قوم من قوم، ولم يكتف بهذا بل توجه بالنهي للنساء، رغم أنهن يدخلن في لفظ “قوم”، لكن لعلم الله تعالى بكثرة وقوع السخرية بين النساء خصهن بخطاب موجه لهن.
وكذلك جاء في الآية النهي عن اللمز وهو الطعن بالنقائص والعيوب وقد يكون قولا أو إشارة، ثم جاء النهي عن التنابز بالألقاب وهو أن ينادي شخص شخصا آخر بما يكرهه من الألقاب، ثم تشتد الآية الكريمة على من يقع في هذه المنهيات ولا يتوب عنه فتصفه بالظلم.
وفي هذه المنهيات سياج نفسي يقي أولي النقائص والإعاقات من أي تعد بالقول أو حتى الإشارة، وبهذا يعيش المعوق في المجتمع الإسلامي في جو من الألفة والسلامة النفسية مع المجتمع المحيط.
واستكمالا لهذا المعنى يؤكد السياق القرآني في السورة نفسها بصورة قاطعة أن ميزان التفاضل عند الله تعالى إنما هو بالتقوى والعمل الصالح؛ فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
فتحقق التقوى هو ميزان الأفضلية عند الله تعالى سواء عند صحيح الجسد أم عليله، كما أخبر –صلى الله عليه وسلم- في قوله: “إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى أعمالكم وقلوبكم” (سنن ابن ماجه).
وبهذه المعاني السامية الرفيعة التي رفع الإسلام لواءها يطمئن السليم والعليل والصحيح والسقيم، وتهدأ نفسه في ظل عدل الله تعالى الذي يقتضي المساواة المطلقة بين خلقه.
فمن فقد إحدى حواسه فإن عدل الله تعالى يقتضي أن يعوضه بميزة أخرى، وأكبر مظاهر هذا العدل تتمثل في ربط التفاضل بين الجميع بالعمل والقلب وليس بالمال والجسم.
الإعاقة الحقيقية هي إعاقة إدراك الحق
المتعارف عليه في أذهان الناس أن الصمم يعني فقدان السمع على الحقيقة وكذلك العمى فهو فقد البصر، ولكن هذه الإعاقة إعاقة دنيوية وعد الله تعالى من صبر عليها بالأجر والثواب كما أسلفنا.
لكن هناك نوعا خطيرا من الإعاقة يشترك فيه بعض من وهبهم الله بصرا حادا وسمعا قويا، ويخرج منه بعض من نراهم معاقين في الحقيقة!! تلكم هي إعاقة الفهم والعقل الناتجة عن الإعراض عن دين الله تعالى والتكذيب بآياته.
وقد أشار القرآن في العديد من الآيات القرآنية إلى هذا المعنى الدقيق الذي إن فقهه مَن أصيب بإعاقة على الحقيقة لحمد الله تعالى على ما هو فيه ما دامت الإعاقة بعيدة عن الدين والإيمان بالله تعالى.
فعند الله تعالى تختلف المقاييس حسب مقتضيات عدله المطلق وحكمته العظيمة؛ فالعمى الحقيقي هو عمى القلوب؛ فوجود عين صحيحة لا ينفي العمى، ووجود أذن سليمة لا ينفي الصمم إلا إذا كان صاحبها يرى ويسمع بها آيات الله في الأرض ويأخذ العبرة من قصص الغابرين.
كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46)، وقد قال الخطيب الشربيني في هذه الآية: “وهذا العمى هو الذي لا عمى في الحقيقة سواه وهو انطماس البصائر”.
بل إن الله تعالى قد توعد مَن تعطلت حواسه عن إدراك الآيات الموصلة للإيمان به تعالى بأن لهم جهنم؛ فقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179).
فمن عجز عن تشغيل حواسه فإن له جهنم في الآخرة، وهو في الدنيا حاله كحال الأنعام التي لا تتعدى حواسها تحقيق احتياجاتها الحسية الدنيوية من غذاء وشراب وتناسل، وهذا في حد ذاته منتهى الغفلة والعياذ بالله تعالى.
وقد وصف الله تعالى الكافرين بأبرز صفات الإعاقة المتمثلة في الصمم والبكم والعمى؛ وهو ما فيه تسلية وتسرية لمن أصيب بإحدى هذه الإعاقات على الحقيقة ويحمد الله تعالى أن جعل إعاقته في جسده وليست في دينه؛ حيث قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171).
ويقول أ.سيد قطب حول هذه الآية: “وهذه منتهى الزراية بمن يعطل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة”.
وقد قصر الله تعالى الاستجابة للهداية على الذين يسمعون لنداء الإيمان بمن فيهم من فقدوا حاسة السمع بصورة حسية، ووصف من امتنع عن الاستماع للهداية بالموت؛ حيث قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (الأنعام: 36).
وقد أكد الله تعالى هذا المعنى في موضع آخر في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45).
ووصف الله عز وجل من قصرت حواسه عن إدراك نداء الله بعدم العقل؛ الذي يشترك فيه مع كثير من دواب الأرض التي لها حواس، لكن لا تدرك بها إلا أمورا مبهمة؛ فقال عز من قائل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22، 23).
وفي آية أخرى، نفى الله تعالى صفة العقل والسمع عمن اتخذ إلهه هواه، ولم يدرك سمعه نداء ربه فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43).
بل إن من عطل حاسة سمعه أضل من الأنعام؛ حيث يقول صاحب التحرير والتنوير عن هذه الحالة: “وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام بأنهم أضل سبيلا من الأنعام. وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود؛ لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام”.
وهكذا تتواتر الآيات القرآنية التي تضع الأمور في سياقاتها الطبيعية، بما يجعل المجتمع يعيش في جو من الاستقرار النفسي والتكافل الاجتماعي فيكون كالجسد الواحد الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته.