د. علي بن عمر بادحدح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، إمام المربين، ومعلم البشرية، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وحدَّد وظيفته بقوله سبحانه في آيات متعدِّدة، منها: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الجمعة:2].
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه خير قيام، فكان جيل الصحابة خير القرون كما أخبر صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (خير القرون قرني..) وهم الذين قال الله عنهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
ومنذ أن أمر الله رسول بالدعوة والبلاغ قام صلى الله عليه وسلم بمهمته وفق منهج قويم يقوم على الأسس التالية:
1- الإيمان والتعبد: غرسُ الإيمان تحصل به طمأنينة القلب، وسكينة النفس، والتعلق بالخالق، والاستمداد منه، واللجوء إليه والتوكل عليه، يقينا بوحدانيته، وإقراراً بعظمته، وتسليماً لحكمته، وخضوعاً لقدرته، واعتقاداً بربوبيته، وكل ذلك يؤسس لعبودية الله التي تربط العبد بربه تحقيقاً لغاية وجوده {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. وشمولاً لكل حياته {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. والرسول الكريم جعل الإيمان حياً في قلوب أصحابه، وجعل العبادة صبغة حياتهم.
2- التقوى والتذكر: التقوى حالة صلة دائمة بالله، ورقابة مستمرة له، وحياء عظيم منه أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: “اتق الله حيثما كنت” (رواه أحمد والترمذي)، وبين موضعها فقال: “التقوى هاهنا وأشار إلى صدره” (رواه مسلم). وصور أثرها عندما ذكر قصة الرجل الذي احتاجت ابنة عمه، فساومها على عرضها “فلما جلس بين شعبها الأربع قالت اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقام عنها” (رواه البخاري)، وذكر بها من غفل عنها: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201]. فإذا عمرت التقوى القلب سمت أخلاقه وتهذبت سلوكياته.
3- الإخلاص والتجرد: ربط العباد بربهم من خلال الإخلاص له في كل عمل، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ} [الزمر:11]. {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]. وقال صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” رواه البخاري، وحذر صلى الله عليه وسلم من الرياء فقال: “قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء” رواه أحمد.
4- الزهد والتعلق: ربط -صلى الله عليه وسلم- الصحابة، وعلقهم بالآخرة وما عند الله، وحثهم على التجافي عن الدنيا وعدم الركون إليها، حيث يقول لهم: “أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت” (رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، وإسناده حسن)، ولما أهدي إليه -صلى الله عليه وسلم- جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال “والذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا” (رواه البخاري).
ولما دخل عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله لو اتخذت فرشا أوثر من هذا فقال: “ما لي وللدنيا وما للدنيا وما لي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها” (رواه الحاكم). وعرفهم حقيقة متعة الدنيا “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء” (رواه الترمذي).
5- العلم والتخلُّق: ربى الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة على العلم والعمل، فلم يكن يعلمهم العلم دون العمل، بل يأمرهم بالعمل ويحثهم عليه، وأساليبه في ذلك كثيرة متنوعة، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: “لقد عشت برهة من دهري وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها وما ينبغي أن يقف عنده منها كما تعلمون أنتم القرآن. ثم لقد رأيت رجالا يؤتي أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، وما ينبغي أن يقف عنده منه وينثره نثر الدقل” (رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح)، ويقول التابعي أبو عبد الرحمن السلمي: “حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم والعمل” (رواه أحمد وغيره).
6- القدوة والتقدم: كان صلى الله عليه وسلم قدوة لأصحابه في كل خير، فما من أمر إلا كان أسبقهم إليه، وما من نهي إلا كان أبعدهم عنه. وحق له أن يشهد الله له بأنه الأسوة الحسنة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]، وقال علي رضي الله عنه: “كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم” (رواه ابن عساكر).
7- الاستقلالية والإيجابية: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستقلالية وعدم التبعية فقال: “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا” (رواه الترمذي وقال حسن غريب)، وجعل الإيجابية شعاراً عاماً يوم قال: “قال الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” (رواه مسلم).
وأكد على أهمية الإصلاح عندما قرر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة مهمة في قوة وضعف المجتمعات “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” (رواه الترمذي، وقال حسن).
ويجعل المبادرة مزية كبرى فيقول صلى الله عليه وسلم “من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء” (رواه مسلم).
8- المراعاة والاستمرارية: كان -صلى الله عليه وسلم- يراعي في التهذيب والتقويم نفسية الأشخاص وقدراتهم المختلفة، فيوجه كل واحد بما يناسبه، فذاك يقول له: “لا تغضب” (رواه البخاري)، وهذا يقول له: “لا يزال لسانك رطباً بذكر الله” (رواه أحمد والترمذي) وهكذا، ثم يجعل التهذيب عملاً مستمراً صورته الاستقامة: “قل آمنت بالله ثم استقم” (رواه مسلم)، ويرغب في الديمومة فيقول عندما سئل: “أي العمل أحب إلى الله؟” قال صلى الله عليه وسلم “أدومه وإن قل” (رواه مسلم). ويجعل المتابعة ضامناً للاستمرار كما قال صلى الله عليه وسلم: “تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها” (متفق عليه)، ويقول: “سددوا وقاربوا وأبشروا” (رواه البخاري ومسلم)، ويرسم أعظم صورة للاستمرار بقوله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليفعل” (رواه أحمد)، ويذكر ذلك كله بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
9- المشاركة والتخصصية: فلم يجعل -صلى الله عليه وسلم- الدعوة حكراً على العلماء ولا العطاء مقتصراً على الأغنياء، بل قال: “بلغوا عني ولو آية” (رواه البخاري)، وقال في التبرع: “اتقوا النار ولو بشق تمرة” (رواه البخاري ومسلم) ليشعر كل أحد بإمكان الإسهام والمشاركة، ومع ذلك جعل لكل من تخصص في أمر أن يقوم فيه بالعبء الأكبر، فالعلماء واجبهم في البيان والدعوة والتعليم أعظم، وقد راعى -صلى الله عليه وسلم- ذلك التخصص، فقال: “أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأشدهم أو أصدقهم حياء عثمان -شك أبو بشر يعني يونس-، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأعلمهم بما أنزل الله علي أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح” (رواه أحمد وأهل السنن).
10- التنوع والمنهجية: لم يقتصر في التهذيب والتعليم على أسلوب واحد، بل نوّع صلى الله عليه وسلم بين الأمثال والقصص والمحاورات، فمرة يقول: “كان فيمن كان قبلكم ثلاثة نفر..” ويذكر القصة، وتارة يضرب الأمثال فيقول: “إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه” رواه البخاري ومسلم وتارة يخط خطاً مستقيماً وبجانبه خطوط مائلة ويتلو: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]. وكل هذا التنوع بمنهجية هدفها وصول المعلومة المعرفية بوضوح، وتحقق الهدف التربوي التأثيري بعمق.
والمقام يضيق عن حصر المنهج العظيم للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في التغيير والتهذيب والإصلاح.
المصدر: موقع إسلاميات.