د. زينب عبد العزيز
مَن يَود البحث عن نشأة المسيحية وكيفية انتشارها فلن يجد أمامه سوى ما أرادت الكنيسة أن يعرفه الجميع، ورغم ذلك تناثرت شذرات الحقائق في الوقت نفسه، عبر التاريخ، بحيث يمكن التوصل إلى حقيقة كونها، نشأتها وانتشارها، بفضل بعض الأمناء الذين هالهم جبروت متأصل، لا مثيل له في الحضرات.
وبالتالي، لا يمكن تحديد كنيسة أي طائفة كانت الأولى؛ فكل طائفة تزعم لنفسها أنها كانت الكنيسة الأولى الأصلية، ومن المحال معرفة التسلسل التاريخي لأي طائفة أو أيّ منها هي الكنيسة الأم أو التي ينحدر تكوينها من أيام الرسل؛ فمن الثابت تاريخياً أن الانقسام والفرق المتناحرة، والمشاحنات المتواصلة بين الكنائس وتبادل الاتهامات هو السائد.
إذ نطالع في أعمال الرسل، في رسالة بولس الأولى إلى أهل غلاطية، وبولس من المفترض أنه عاصر السيد المسيح، نراه يقول: “إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحوّلوا إنجيل المسيح، ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما، كما سبقنا فقلنا أقول الآن أيضاً إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما” (6 – 9)، وكلمة “أناثيما” تعني “ملعون”، لكن كتبة الأناجيل كتبوها بالهجاء اليوناني حتى لا يرى الأتباع أن الكنيسة تسب وتلعن وتحْرِم.. بل والأدهى من ذلك، أن نرى حتى يسوع عليه السلام، انتقائي النزعة في هذه الأناجيل، فهو يتهم الرسل الذين جاؤوا قبله ليثبت أنه الرسول الوحيد، أو ذلك ما أرادت الكنيسة له أن يقول: “فقال لهم يسوع أيضاً الحق الحق أقول لكم، إني أنا باب الخراف، جميع الذين أتوا قبلي هم سرّاق ولصوص” (يوحنا 10: 7 – 8)! أما في طبعة 1671 فلا توجد كلمة “قبلي”، أي أن الكنيسة تعمدت إثبات أن يسوع هو الوحيد الأوحد، فلا قبله ولا بعده!
ويقول ترتوليان، المؤرخ المسيحي الشهير: “إنه بفضل سبتيم سيفير (193 – 211)، عرفت المسيحية أول اعتراف رسمي، حتى وإن لم يكن هناك ما يدعو للفخر، فقد كانوا يمارسون المهن غير الشريفة كبيوت الدعارة، مقابل دفع مبلغ من المال للحاكم الإداري”.. ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي دفعت الإمبراطور سبتيم سيفير سنة 202، أن يكون أول إمبراطور يصدر قراراً ضد المسيحيين وضم اليهود في نفس القرار، ومنع الأهالي من التحول إلى إحدى هاتين الديانتين، وهنا يقول لوسيان هيلفيه: “حتى وإن كان سبتيم سيفير قد حابى المسيحيين في البداية ليكسب المعركة ضد نيجير، فقد انقلب عليهم لأنهم لم يكفوا عن إثارة الاضطرابات ويسببون القلاقل بالنسبة للسلام الداخلي وأمن الإمبراطورية، كما كان المسيحيون يحرضون الناس على عدم قبول الخدمة العسكرية”؛ أي أنها لم تكن ديانة سلام ومحبة، كما يقولون، وأن كل ما كانوا يسعون إليه حقيقة هي السيطرة والتسلط، ولعل ذلك يرجع، في نظرهم، إلى ضرورة أخذ زمام الأمور بأيديهم لعدم اكتشاف ما يقومون به من تلاعب بالحقائق والنصوص.
كيفية نشأة المسيحية
من الواضح والثابت أنه منذ بدايات نشأتها، من صُلب اليهودية ومَن كانوا يبشرون بها، بدأت المسيحية – بأقوال يسوع وحوارييه – منقسمة إلى جماعات متناحرة تتبادل الاتهامات واللعنات، ومن ناحية أخرى لا يوجد لها أي نص أصلي على الإطلاق قبل القرن الميلادي الرابع.
فقد كانت العبادات الوثنية لا تزال موجودة حتى عندما أباح قسطنطين ممارسة المسيحية سنة 313، مثلها مثل كل الوثنيات القائمة، بل كانتالوثنية قوية في بعض المناطق عندما قام تيودوز الأول بفرضها ديانة على كل الإمبراطورية سنة 380، ففي مصر ظلت بعض المعابد الفرعونية تعمل حتى القرن السادس، ويؤكد إيف موديران أنه في أفريقيا مثلاً لا يوجد أي نص مسيحي قبل فترة قسطنطين؛ أي حتى منتصف القرن الثالث، وهو ما يؤكده يوحنا الدمشقي في بحثه “نبع المعرفة” (الصادر سنة 743)، الذي تحدث فيه عن 101 هرطقة واجهت المسيحية في قرونها الأولى، والهرطقة الحادية بعد المائة يقصد بها الإسلام.
ولم يكن يوحنا الدمشقي هو أول من تحدث عن الهرطقات والفرق المتناحرة في المسيحية، إذ تقول كريستين ݒرييتو في بحثها عن “تطور المسيحية”: “إن القديس إيريني كتب سنة 185 بحثاً “ضد الهرطقات”؛ وكتب القديس هيبوليت سنة 230 يتحدث عن ثلاثة وثلاثين فرقة مسيحية مختلفة متناحرة، وكتب القديس إبيفانوس في “بيناريون” عن ثمانين هرطقة، وقد وصل عددها أيام القديس أغسطين في مطلع القرن الخامس إلى ثمانية وثمانين هرطقة”.. أما مجلس الكنائس العالمي حالياً فيضم 349 كنيسة مختلفة عقائدياً، لا تزال متناحرة خاصة في قضية “تنصير العالم”، والمقصود بها تنصير المسلمين، بمعنى على هوى أيّ منها.
وهو ما يؤكد أن المسيحية بدأت مشتتة، ونشأت فرقا متناحرة وعبادات متناقضة، وقام الباباوات بتكوينها عبر المجامع والانقسامات على مر العصور، بل يكفي أن نطالع ما كتبه القديس جيروم (347 – 420م)، حينما طلب منه البابا داماز، سنة 383م، أن يقوم بمراجعة الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، بناء على النصوص اليونانية المتاحة، إذ لا يوجد أي نص أصلي قديم للمسيحية إلا باللغة اليونانية، التي لم يكن لا يسوع ولا أي شخص من الحواريين يعرف منها شيئاً، لأن الكنيسة أبادت كل ما يكشف أصولها أو كيفية تكوينها وتكوين عقيدتها، ولم تترك سوى ما أرادت أن يعرفه الجميع.
وقد سبق أن تناولت اعترافات القديس جيروم في بحث تفصيلي يعترف فيه بذلك القديس رسمياً، فالخطاب/ المقدمة موجه للبابا داماز، يقول له: إن الأناجيل وترجماتها محرفة مليئة بالمتناقضات، وإنه قام هو بتعديلها وتبديل ما لم يقتنع هو به.. وترجمته هذه هي المعروفة باسم “الڤولجات” أي لعوام الشعب، وقد أوردْت النص اللاتيني لها وترجمته وصورته الفوتوغرافية، في ذلك المقال، لكي يفهم الحقيقة من يشاء، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تواصلت المراجعات والتغييرات والتبديلات وفقاً للمستجدات العقائدية، ثم تأتي مراجعة البابا كليمنت الثامن، الذي أقر النص النهائي للكتاب المقدس سنة 1592، ورغمها لم تتوقف طاحونة التعديلات في نص زعموا أنه منزّل من عند الله، وفرضوه بيد من حديد، حتى مجمع الفاتيكان الثاني (1965م) الذي اعترف بأن “من كتب الأناجيل أناس آخرون غير التي هي معروفة بأسمائها، لكنهم كتبوها تحت إرشاد من الروح القدس”! بل لقد وعد البابا يوحنا بولس الثاني (1920 – 2005م) بتعديل سبعين آية لتتمشى النصوص مع التعديلات التي أجراها مجمع الفاتيكان الثاني (1965م) بعد تبرئة اليهود من دم المسيح، وغيرها كثير.
تكوين الأناجيل
في حوالي القرن الثاني بدأت فكرة جمع النصوص المكونة للكتاب المقدس، ولم يبدأ الاهتمام بتحديد اكتمالها إلا في أواخر القرن الرابع، ونظراً لكمّ النصوص وتنوعها قام الأسقف أطنازيوس في الإسكندرية، سنة 367م، بعمل قائمة بالعناوين التي اختارها لتكوين العهد الجديد، وتم الاختيار من بين حوالي سبعين نصاً، وقام مجمع هيبونا سنة 393م بإقرار القائمة، ثم أعاد مجمع قرطاج سنة 397م إقرار تكوينها، وتم استبعاد ما تم استبعاده والاحتفاظ بأربعة أناجيل هي: متّى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا، إضافة إلى أعمال الرسل وبعض الرسائل، انتهاء برؤيا يوحنا، وجميعها سبعة وعشرون سفراً.
وتختلف تواريخ صياغتها مثلما تختلف كل خطوات المسيحية؛ إذ يقول الجانب الكنسي: إن إنجيل متّى كتب فيما بين سنة 70 و80م، بينما يقول المؤرخون الحاليون: إنه صيغ سنة 165م للنص الابتدائي؛ ومرقص، يقول الجانب الكنسي: إنه كتب حوالي سنة 70م، لكن مرقص يتحدث عن هزيمة بار كوخبا التي وقعت سنة 135م، لذلك يضعه المؤرخون في سنة 170م؛ ولوقا، تقول الكنيسة: إنه صيغ في حوالي سنة 80 – 90م، بينما يقول المؤرخون سنة 180م، وإنه مليء بالأخطاء التاريخية أكثر من غيره؛ ويوحنا، تقول الكنيسة: حوالي سنة 90م، بينما يقول المؤرخون: بدأت صياغته سنة 180م وانتهت في القرن الرابع، وكل أصول العهد الجديد الموجودة مكتوبة باليونانية، أي أنها ترجمات متراكمة من النص الأرامي الأصلي، لغة يسوع وحوارييه السائدة في المنطقة آنذاك، لذلك تراكمت الأخطاء والتغيرات والإضافات، وتواصلت إجمالاً حتى اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر، أما عن الأناجيل المحجوبة، لأنها تخالف القصة التي نسجتها الكنيسة، فنصوصها صيغت من القرن الثاني إلى السابع، وهو ما ينزع عنها، هي أيضاً، أية مصداقية تنزيل إلهي.