عرض العقيدة أنموذجا
كتب: د. بدر الدين زواقة
تعتبر العقائد والأيديولوجيات والفلسفات بمثابة الخطوط الحمراء في مسيرة الفكر الإنساني، ذلك أنها متعلقة بالغيبيات والمتشابهات.. وما زالت تعد عوائق وتحديات في تاريخ الثقافات وإشكالات على مستوى البحوث والدراسات، وصراعات على مستوى العلاقات البشرية.
وهذا الحراك الفكري والتفاعل الثقافي نتج عنه إيجابيات نلخصها في:
1- دفع العقائد الفاسدة والرد عليها، من خلال جهود المسلمين في الرد على الملل والنِّحَل، وظهور علم الكلام ومناهج عرض العقيدة.
2- تثبيت التوحيد والعقيدة السليمة.
3- تكريم العقل ومعرفة حدوده ومجالاته وضبطه بالعلم والمعرفة.
4- ظهور معالم المنطق السليم في الاستنباط والاستدلال والتفكير والحجاج.
5- وجود قنوات الاتصال وأرضيات الحوار بين المذاهب والإيديولوجيات.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ظهرت وتكرّست سلبيات كثيرة عانى منها المسلمون وما زالوا للأسف، من خلال عوامل مباشرة وغير مباشرة (سياسية، اجتماعية، نفسية..) أدت إلى توسع السلبيات وتوظيفها لأغراض مصلحية ونفعية، من هذه السلبيات:
6- الصراع والخلاف المذموم وانقسام أمة التبليغ إلى طوائف ومذاهب.
7- الحكم على الناس وتكفيرهم وتصنيفهم.
8- الإشكال في مفهوم الطائفة المنصورة واختلاف علماء الأمة في توصيفها.
9- الصراع بين الشعوب والحكام، وما سببته من مفاهيم إيديولوجية منها:
– مبدأ الخروج على الحاكم الظالم.
– الأحقية في الولاية والإمامة.
كل هذه العوامل وغيرها أثرت سلبا على الفكر الإسلامي وعلى التعاطي الحقيقي لقضايا الأمة واهتماماتها، فذهب الكثير من المجددين والمصلحين إلى اعتماد مفاهيم جديدة في ثوبها.. قديمة في فحواها، والدعوة إلى أسس علمية منهجية منها:
* مفهوم المرجعية الفكرية والعقدية للأمة.
* أسس التقريب بين المذاهب ومنطلقاته.
* إعادة تشكيل العقل المسلم والدعوة إلى تحريره من الرؤية التقليدية النمطية.
* الدعوة الجادة للرجوع إلى المذهب الأول (أي ما كان عليه الرسول والصحابة) لانتفاء مبررات الاجتهاد في بعض القضايا.
وتجسيدا لهذه المنطلقات ومن خلال تجربتي البسيطة في التدريس والوعظ من جهة، ومن جهة أخرى اطلاعي المتواضع على الثقافة الإسلامية والتوسع في دراسة بعض المذاهب والاحتكاك بها.. ارتأيت أن أعتمد منهجًا وأدعو إليه في عرض العقائد، يوافق الأصول وينسجم مع الفروع، ويناسب الجمهور ويحقق الأهداف.
وهذا المنهج ليس جديدا بل جسّده القرآن من خلال نصوصه وآياته ومواضيعه، وكذلك المنهج النبوي غي عرض جزئيات العقيدة…
أولا: تعريف لعلم العقيدة وموضوعاتها
- العقيدة الإسلامية:
هي الإيمان الجازم بربوبية اللّه تعالى وأُلوهيته وأَسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وسائر ما ثَبَتَ من أُمور الغيب، وأصول الدِّين، وما أَجمع عليه السَّلف الصَّالح، والتسليم التام للّه تعالى في الأَمر، والحكم، والطاعة، والاتباع لرسوله صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم.
وللعقيدة أَسماء أُخرى تُرادِفُها، وتَدلُّ عليها، منها:
(التوحيد)، (السُّنَة)، (أُصُول الدَين)، (الفقه الأكبر)، (الشريعة)، (الإِيمان).
هذه أَشهر إطلاقات أَهل السُّنَّة على علم العقيدة.
* موضوعات علم العقيدة:
العقيدة اسم عَلَم على العِلْم الذي يُدرس ويَتَناول جوانب التوحيد، والإيمان، والإسلام، وأمور الغيب، والنبوات، والقدر، والأخبار، وأصول الأحكام القطعية، وما يلزم عنها من مسائل، كالولاء والبراء، والواجب تجاه الصحابة، وأمهات المؤمنين -رضوان الله عليهم أجمعين- وما أجمع عليه علماء الأمة في المسائل المتعلقة بالفكر الإسلامي.
والعقيدة الإسلامية هي عبارة عن تصورات معرفية يجب على المسلم أن يسلّم بها بعلم حيث لا يُعذر الجاهل في مسائل الاعتقاد -كما ذهب أهل العلم- لكن الهدف الأساس وهو اعتبار المنهج العملي والممارسة الفعلية لهذه المسائل والتصورات هو ما ركز عليها القرآن من خلال ربط الإيمان بالعمل وكذلك توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم. فالعقيدة الصحيحة والسليمة هي أعمال قلبية وجسمية أكثر من أن تكون نظريات فكرية.
ثانيا: أهمية العقيدة بالنسبة للفرد والمجتمع والأمة
1- بالنسبة للفرد:
تعتبر العقيدة روح الإنسان ومبرر وجوده وهي الصبغة الإلهية لأبعاده المكونة له وعناصره (الروح، العقل، النفس، البدن) بحيث تتفاعل هذه العناصر مع العقيدة من خلال أثرها الواضح:
على المستوى القلبي: بيّن القرآن أثر العقيدة والإيمان على القلب الذي هو أحد وأهم صور التفاعل معه، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } [الفتح: 4].. قال صاحب الظلال: “والمقصود بها تهدئة فورتهم، وتخفيض حميتهم، واطمئنان قلوبهم لحكم الله وحكمة رسوله”.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17].
هذا بالنسبة للعقيدة السليمة، أما العقيدة الفاسدة فأثرها بليغ وخطير، فقد وضّح القرآن ذلك حيث عدّد ونوَّعَ في أمراض القلوب الناتجة عن فساد العقيدة فذَكر:
* الصرف: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 127].
* الضِّيق: قال الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: 125].
* الطبع: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108].
* الختم: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].
* الأكنَّة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } [الأنعام: 25].
* الأقفال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
* الرّان: قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 18].
وعلى المستوى الفكري: فالعقل السليم منطلقه العقيدة السليمة، وفساد العقل مبعثه الفكر الفاسد غير الموزون، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17-18].
ذكر ابن كثير: أن “المتصفين بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة أي ذوو العقول الصحيحة والفطر السليمة”.
أما الأثر السلبي للعقيدة الفاسدة فعلى المستوى الفكري:
عدم الإبصار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ (محمد:23). ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18].
على المستوى العملي: العقيدة الإسلامية متميزة تقاس في مجملها عملا لا فكرا، فالعمل هو التجسيد الحقيقي والترجمان الفعلي للعقيدة، فقد قرن الله بين العقيدة والعمل (الإيمان والعمل) وربط بينهما ربطا محكما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96].
وقال أيضا في سياق الامتحان الحقيقي للمؤمنين: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ..}[البقرة: 143].
جاء في تفسيرها: “إن العقيدة الإسلامية لا تطيق لها في القلب شركا، ولا تقبل شعارا غير شعارها… إنها لا تقبل راسبا من رواسب الجاهلية في أي صورة من الصور جل أم صغر”.
أما أثرها الفاسد فيتجسد في التكذيب والعناد: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 75].
2- أثر العقيدة على مستوى المجتمع والأمة:
للعقيدة الإسلامية الفضل في إخراج المجتمعات من الجاهلية، ولقد لخص جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) في خطبته أمام النجاشي أثر العقيدة الإسلامية في حياتهم وتحولهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الحيوانية إلى الإنسانية…
ونلخصها فيما يلي:
1- الروابط داخل المجتمع: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102، 103].
فالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق ومظاهر الألفة والأخوة ناتجة عن تمكن الإيمان من المجتمعات.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
والصلح والإصلاح مظهران حقيقيان للإيمان والتقوى.
2- البركة والأمن والغنى: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأعراف: 96].
وقال أيضا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } [المائدة: 66].
“هكذا يتبين أن ليس هناك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة، وطريق آخر لصلاح الحياة في الدنيا، إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة، فإذا تنكب هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة.. هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق النهج الإلهي في الحياة الدنيا”.
3- النجاة والغلبة والتمكين: قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور: 55].
ثالثا: الآثار السلبية في اعتماد المنهج النظري في عرض العقائد لغير المتخصصين:
العقيدة علم من العلوم الشرعية، وهي أصل الدين، وتعتمد على منهج وموضوعات، وتوسعت دائرة المناهج في عرضها إثر التحديات التي واجهت الدعوة الإسلامية، منها:
– الخلاف السياسي وما نتج عنه من تبعات فكرية وعقدية.
– دخول الأعاجم من ذوي الخلفية السلفية والأيديولوجية اليونانية.
– الاختلاف الواضح في مفهوم الفرقة الناجية.
ونحتاج في عرض موضوعات العقيدة إلى اعتماد منهج القرآن باعتباره كتابا خالدا صالحا لكل زمان ومكان، وتبني المنهج النبوي، أما العرض النظري لغير المتخصصين والدارسين فيكون سببا لظهور آثار سلبية نجملها:
1- عدم التفريق بين موضوع العقيدة ومنهج عرضها: فالكثير من الباحثين والدارسين لا يفرقون بين العقيدة كأصل متفق عليه بين المسلمين ومناهج عرض العقيدة.
فالخلاف مثلا بين السلفية والأشعرية والماتريدية -حسب رأيي- هو خلاف في عرض العقيدة لا في موضوعها.
2- ظهور بدعة الحكم على الناس: وما نتج عنها من تكفير وتبديع وتضليل للمسلمين، فكل واحد له منهج يحكم من خلاله على الناس، فظهرت مصطلحات غريبة عن الأمة، منها: صاحب المنهج السليم، وأصبح تصنيف الناس باعتبارها ومن خلالها.
3- أصبح هذا العلم جافا: بعيدا عن روحانيته، مثله كمثل كل العلوم الأخرى، فيمتحن فيه في المعاهد والجامعات، ونُفاجأ بمن يأخذ نقطة ضعيفة في هذا العلم، وهو خلاف الأولى، فهذا العلم عبادة وعلاقة فطرية ووجدانية بين الإنسان وربه.
فأصبحت الأولوية لمن يحفظ، لا لمن يمارس ويعمل، وما فائدة الذي يعتقد أن لله عينا ولكنه لا يحس بمراقبته؟.
4- الخوض في ما لا ينفع الناس: كالتعرض لمسائل ليست من أولويات المعرفة ولا من حاجيات الإنسان ولا من متطلبات المجتمع.
رابعا: نحو منهج مثالي في عرض العقيدة الإسلامية
نعتقد جازمين أن ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وسلف هذه الأمة هو المنبع الصافي والمصدر النقي للمعرفة الإسلامية، من حيث الأصول والاجتهاد في الفروع.
فعرض العقيدة يختلف زمانا ومكانا بمراعاة أحوال المدعوين وحالتهم (الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية) فعرض العقيدة في المجتمعات التي تنتشر فيها مظاهر الشرك؛ يختلف عن المجتمعات التي تقدّس العقل وتقدّمه، وبين المجتمعات المتعلمة والأخرى الجاهلة.
ومن هنا فالمنهج المثالي هو عرض العقيدة كما عرضها القرآن وبسطتها السنة النبوية، باعتماد المنطلقات والمبادئ التالية:
* فهم القرآن وكيف عرض موضوعات العقيدة من خلال النظر الدقيق في الآيات والربط المنطقي بينها.
* تحليل منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في عرض مسائل العقيدة: فمنهجه صلى الله عليه وسلم وهديه في التعامل مع من يسأل عن جزئيات العقائد، كان دائما يوجهه إلى العمل، ومن أمثلة ذلك:
1- السؤال عن الساعة:
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ، قَالَ أَنَسٌ فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ).
2- السؤال عن مكان الله:
سأل الصحابة رضي الله تعالى عنهم النبي فقالوا: «يا رسول اللّه، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل اللّه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
والأمثلة كثيرة ومتنوعة واقتصرنا على هذا، فليس من العقل ولا من المنطق أن نبني عقيدة على حديث الجارية -المعروف بأين الله- ونبقى كل حياتنا نخوض في هذا الحديث مع أن النصوص الأخرى تغنينا فهما وإدراكا لأهمية العقيدة العملية.
* اعتماد الجانب العملي في عرض العقيدة:
ومن الجوانب العملية المتعلقة بالعقيدة:
– الذكر: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
– الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
– الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
– الشخصية المسلمة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون: 1-11].
– خدمة الناس: عن سالم عن أبيه (وهو عبدالله بن عمر) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة”.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّرَ على مُعسِر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”.
– الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل: 125]. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [فصلت:33].
– الجهاد: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
وغيرها من وظائف العقيدة التي ركز عليها القرآن وضمّنتها السنة المشرفة، ومن هنا ندرك أن الواجب والأولى في عرض العقائد هو اعتماد المنهج القرآني الخالد والتوجيه النبوي، وممارسة الرسالة الدعوية لسلف هذا الأمة.
أما التعرض لجزئيات العقيدة وفروعها ومتشابهها فيكون مع المتخصصين الذين لهم دور الدفاع عنها ضد الأفكار الوافدة والمعادية والمشككة.
المصدر: موقع إسلاميات.