محمد بن عبد السلام الأنصاري
لا ريب أن الدعوة إلى الله تعالى وإلى دينه القويم من أرفع المراتب، وأسنى المقامات، وكل مسلم صادق أمنيته أن يكون موصوفًا بالداعي إلى الله؛ لينضم إلى ركب الخلص المصطفين من عباده؛ حيث لا أحسن متحدثًا أو متكلمًا أو مرشدًا من الداعي إلى الله تعالى، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وعن الحسن البصري -رحمه الله- أنه تلا هذه الآية: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ فقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خِيَرَة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله.
ووسيلة الدعوة الأولى إلى الله تعالى هي القول باللسان، وتبليغ الشرع بفنون المنطق وبديع البيان، واستخدام هذه الوسيلة يتفاوت فيها الدعاة تفاوتًا عظيمًا، فمنهم من أوتي البيان وبلاغة القول، حتى ليملك السامعين بحسن نظمه وترتيب قوله، وقوة حجته، وحضور بديهته، ومنهم من دون ذلك بمراتب، حتى ليوجد من يوصف بالحصر والعي واللكنة، وذلك محض فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولكن الوسيلة التي لا يسع الدعاة عدم القيام بها، وهي أعظم من القول أثرًا، وأنفذ قدرًا.. هي أن يدعو المسلم بفعله قبل قوله؛ لأن الفعل في نظر الخلق أصدق لهجة، وأبين حجة، وأظهر صدقًا.
ولذلك كان صدق الأفعال من أبين ما يدلل على صدق الداعية في قوله؛ لأن الأفعال هي أصدق برهان في إيمان ما يدعو إليه الإنسان، وأجلى ما يؤثر في المدعو عند دعوته بالقول.
وقد كان صدق الفعل هو أحد دلائل صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعوته بقوله؛ لأن قريشًا لو وجدت سبيلا في طعن صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله، وأنه يخالف قوله فعله، لما توانت في إشهاره، ولجعلته سبيلًا في الطعن في رسالته.
وقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- قريشًا يقرون بصدق قوله المطابق لفعله، ولا يجدون جوابًا حينما جمعهم على الصفا وقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: “أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلًا ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أوَ كنتم مصدقي؟! فقالوا جميعًا: ما جربنا عليك كذبًا”، وفي رواية: “ما جربنا عليك إلا صدقًا” .
ومن ذلك أيضًا ما لحظه عبد الله بن سلام اليهودي قبل إسلامه، حيث أدرك صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل دعوته بلسانه وسماع قوله، فقد ورد في الحديث الصحيح، أن عبد الله بن سلام قال: “لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – انْجَفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَكُنْتُ فِيمَنِ انْجَفَلَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: ” أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ”.
فالدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالة الإسلام غير مقتصرة على إلقاء الخطب، وتنميق القول والتفنن فيه، بل المسلم مطالب بأن يدعو إلى الإسلام بفعله أولا: بحسن أخلاقه، وإحسانه إلى المدعوين، وإظهار محاسن الإسلام، من بشاشة الوجه، وصدق الأقوال، والعفو عن الزلل، والصفح عن الجهال، والوفاء بالعهود والعقود، وصدق المعاملة، وبذل المعروف، والإنفاق في وجوه الخير، وتخفيف معاناة الفقراء والمعوزين … وغير ذلك من أبواب الخير الكثيرة المعلومة؛ لأن الناس لمَّا يرون المسلم متلبسًا بهذه الأخلاق الكريمة والخلال الحميدة، سيعجبون به بلا ريب، وسيعلمون بأن الحامل له على فعل هذه الأفعال العظيمة إنما هو دينه، والدين الذي يأمر بهذه الأخلاق العالية لا شك بأنه دين صحيح من رب العالمين.
وأكثر ما دعا غير المسلمين للدخول في الإسلام هو هذه الأخلاق العالية والفضائل السامية التي تمثَّلها المسلمون في حياتهم، وعاملوا بها غيرهم، يؤكد ذلك انتشار الإسلام في أقاصي العالم، وخاصة في شرق آسيا، ولم يعهد أن المسلمين قد دخلوا تلك البلاد محاربين فاتحين، كما حصل في البلدان المجاورة لعواصم الإسلام في بداية انتشار الإسلام.
والداعي بقوله، وبفنون بديع بيانه، عندما لا يعبأ بأفعاله ولا يلجمها، حتى لا تخالف قوله وبما يدعو إليه، هو في الحقيقة صادٌّ عن سبيل الله، فاتنٌ لعباد الله في الدخول في دين الله؛ لأن دلالة حاله صارخة في وجه كل مريد للدخول في الدين، بأن هذا الداعي لو كان صادقًا فيما يدعو إليه، لكان أولى الناس استجابة لما يدعو إليه هو نفسه التي بين جنبيه، ولما تجرأ في مظاهرة مخالفة قوله، بل الوصف الصادق لذلك الداعي عند كل العقلاء أنه كذاب متلاعب.
ولذلك ورد الوعيد الشديد فيمن يأمر بالمعروف ولا يأتيه، وينهى عن المنكر ويأتيه، فقد ذم الله -عز وجل- الذين مَن هذه صفتهم وإن كان معهم أصل الإيمان، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44].
وفي صحيح البخاري عن أسامة -رضي الله عنه- أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلانُ مَا شَأْنُكَ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ “.
ولا يُفهم من هذا الوعيد أن الداعية لا يدعو إلا بما يطبقه فعلًا، لأنه من المتفق عليه أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عندما تتوفر شروطه وأسبابه منكر في حد ذاته، فكيف إذا اجتمع مع هذا المنكر إتيان المنكر أو مخالفة المعروف؟! فلا شك أنه أعظم منكرًا.
وخلاصة القول:
أن المسلم يجب أن يستحضر في ذهنه أن الدعوة غير مقتصرة ومنحصرة في إلقاء الكلم على الحاضرين، أو تنميق الخطب على المجتمعين، وإنما الدعوة الفاعلة المؤثرة أن يلتزم المسلم بتعاليم دينه أينما حل وارتحل، وأن يدعوا بأفعاله، بحسن تعامله مع المدعوين، وأن يقدم النموذج الأسمى الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم الصادق الملتزم بشعائر دينه، وبذلك سيكون سببًا لهداية خلق وإن لم يحسن البيان، أو كان عيي اللسان.
_______
المصدر: موقع الإسلام.