الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب

عرض: محمد بركة

ما فتئ السياسيون والكتّاب والقائمون على وسائل الإعلام في الغرب يصرّون على تثبيت صورة الإسلام على أنه ثقافة عدوانية تجعل من المسلمين مصدرًا للعنف

التسامح لدى الغرب مجرد شعار يفتقر إلى التطبيق

غلاف الكتاب

والإرهاب، فما هي الحقيقة؟ وهل صحيح أن العدوانية صفة مميزة للثقافة الإسلامية، وأن التسامح صفة مميزة للثقافة الغربية؟

يحاول الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين (الرئيس العام لشئون المسجد الحرام والمسجد النبوي) الإجابة عن هذه التساؤلات في كتابه “التسامح والعدوانية.. بين الاسلام والغرب” والذي أصدرته مؤخرًا مؤسسة الوقف الإسلامي الخيرية ضمن جهودها في نشر الكتاب الإسلامي.

وقد أهدى المؤلف كتابه إلى ذكرى المستشرق النمساوي المسلم “محمد أسد”، الذي كتب عام 1934م في مقدمة كتابه القيم “الإسلام على مفترق الطرق”: “هذا السؤال يُلقى عليَّ مرة بعد مرة: لماذا اعتنقت الإسلام؟ ومـا الذي جذبك منه خاصة؟ وهنا يجب أن أعترف بأنني لا أعرف جوابًا شافيًا. لم يكن الذي جذبني تعليم خاص من التعاليم، بل ذلك البناء المجموع العجيب المتراص ـ بما لا نستطيع له تفسيرًا ـ من تلك التعاليم الأخلاقية بالإضافة إلى منهاج الحياة العملية، ولا أستطيع اليوم أن أقول أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضًا ويشد بعضها بعضًا فليس هنالك شيء لا حاجة إليه، وليس هنالك نقص في شيء، فنتج من ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص. ولعل الشعور بأن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض «قد وضعت مواضعها» هو الذي كان له أقوى الأثر في نفسي. سعيت إلى أن أتعلم من الإسلام كل ما أقدر عليه: لقد درست القرآن الكريم وحديث الرسول عليه السلام، لقد درست لغة الإسلام، وكثيرًا مما كتب عنه، أو كتب في الرد عليه. وقد قضيت أكثر من خمس سنوات في الحجاز ونجد ـ وأكثر ذلك في المدينة ـ ليطمئن قلبي بشيء من البيئة الأصلية للدين الذي قام النبي العربي بالدعوة إليه فيها. وبما أن الحجاز ملتقى المسلمين من جميع الأقطار، فقد تمكنت من المقارنة بين أكثر وجهات النظر الدينية والاجتماعية التي تسود العالم الإسلامي في أيامنا. هذه الدراسات والمقارنات خلقت فيّ العقيدة الراسخة بأن الإسلام من وجهتيه الروحية والاجتماعية، لا يزال بالرغم من جميع العقبات التي أوجدها تأخر المسلمين، أعظم قوة نهاضة بالهمم عرفها البشر”.

يؤكد المؤلف في تقديم الكتاب أن خلال القرون الأخيرة لم يَحدث أن غزت دولة مسلمة دولة غربية، وبالعكس يشهد تاريخ الاستعمار أن العالم القديم والعالم الجديد كانا دائمًا هدف الغزو من قبل الغرب. ولمدة طويلة سابقة وحتى نهاية النصف الأول من القرن المنصرم أشعل الغرب حربين عالميتين خلال عام ونصف العام بل كان العالم الإسلامي – باستثناء أجزاء يسيرة – تحت سلطان الغرب نتيجة الغزو والحرب. وبعد انتهاء هذا السلطان الاستعماري المباشر ظلت القيادات السياسية والعسكرية والثقافية والتربوية في العالم الإسلامي – عدا ما ندر منها – قيادات علمانية.

وجاء الكتاب في ثمانية فصول تضمنت بيان مفهوم التسامح في الإسلام وأنه وحسن الخلق من أهم ما يميز الشخصية المسلمة، مشيرًا إلى علاقة المسلم بالكون والطبيعة، وانسجامه معهما وفق قانون التسبيح العام، مؤكدًا أن الإنسان إنما خلق لعبادة الله تعالى وعمارة الأرض، كما يشير الكتاب إلى أهم العقبات التي تقف في طريق فهم الغرب للإسلام.

كما تناول المؤلف مفهوم الوسطية والاعتدال، وكيف كان للإسلام السبق في إلغاء الطبقية والتمييز العنصري وقبول التعددية الثقافية، منوهًا إلى أن علاقاته الدولية – على خلاف غيره من الديانات والنظريات – مبنية على قوانين وقواعد شرعية لا يمكن أن يتجاوزها لرغبات توسعية أو انتقامية.

ويجلي الكتاب زيف شعار التسامح الذي يدندن به أساطين الثقافة الغربية وصانعو القرار فيها بذكر نماذج من الحوادث والوقائع التي توضح أن التسامح لدى الغرب إنما هو مجرد شعار يفتقر إلى كثير من الظهور في الواقع.

كما يتناول الكتاب أحداث 11 سبتمبر 2001 بالتحليل والمناقشة، ويشكك المؤلف في نسبة العمل إلى من أشارت إليهم الأجهزة الغربية ويحلل منطلقات الغرب للدفع بوقوع هذا الحادث الإجرامي مستدلاً بأحداث ووقائع وتصريحات القادة الأمريكيين أنفسهم، وبعض ما أعلنته وسائل الإعلام الغربية.

وكما بيّن المؤلف فإن الكتّاب الغربيين والسياسيين والقائمين على وسائل الإعلام في الغرب يصرون على تثبيت صورة الإسلام على أنه ثقافة عدوانية تجعل من المسلمين مصدرًا للعنف والإرهاب.

ولإيضاح تصور الإسلام في قضية التسامح والعدوانية يشير المؤلف إلى أنه لم يكن هناك مفر من المقارنة بالثقافة المعاصرة وبالذات الثقافة الغربية، موضحًا أنه حيث تجري هذه المقارنة فلا بد من الفصل بين الإسلام كما هو في حقيقته وبين المسلمين على اختلاف عصورهم وأقطارهم، ليس ذلك فقط لأن الإسلام واحد وتصورات وسلوكيات المسلمين مختلفة متعددة؛ بل لأنه لا أحد يَدعي أن حياة المسلمين في الوقت الحاضر تجرى مطابقة للإسلام تصورًا ومنهجًا للحياة.

في تناوله لموضوعه يستعرض المؤلف جذور التسامح في الإسلام، مشيرًا إلى أنه لا يوجد كتاب دين أو تربية في أي ثقافة ـ غير الإسلام ـ يعطي مساحة للمعاني المذكورة حول التسامح مثلما أعطاها الإسلام.. فالتسامح بمعنى عدم العدوان قيمة مطلقة، فريضة على كل مسلم، إذ يعني ذلك العدل، والعدل مطلوب من كل واحد لكل أحد في كل حال.

ويشير المؤلف إلى أن اليونسكو في تحديدها للتسامح، حددته بشكل قريب من التصور الإسلامي، ولذلك فإن فكرة الإسلام عن التسامح كانت واضحة للمنصفين من مفكري الغرب، حيث تقرر اليونسكو “أنه يتفق تمامًا مع احترام حقوق الإنسان، القول بأن الأخذ بالتسامح لا يعني التسامح تجاه الظلم الاجتماعي، أو تنازل الإنسان عن معتقداته، أو التغاضي عن بعضها، إنه يعني أن تكون للإنسان الحرية في التزام ما يعتقده، وقبول حرية الآخر في الالتزام بما يعتقده، إنه يعني قبول حقيقة أن البشر بحكم الطبيعة يختلفون في صورهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، ولهم الحق في أن يعيشوا في سلام وأن يكونوا كما هم. التسامح يعني تسليم الإنسان بأن عقائده يجب ألا تُفرض على الآخر”.

كانت فكرة الإسلام عن التسامح من الوضوح بحيث لم تخف على المنصفين من مفكري الغرب. على سبيل المثال يقول ديلاسي أوليري “إن التاريخ أوضح ـ بما فيه الكفاية ـ أن أسطورة المسلمين الذين انساحوا في العالم ينشرون الإسلام بحد السيف؛ واحدة من أسخف الخرافات التي ظل المؤرخون (الغربيون) يرددونها”. ويقول تريتون: “إن صورة المسلمين المحاربين الذين يتقدمون بالسيف في يد والقرآن في يد صورة بالغة الزيف”. ويقول ليونارد: “إني أجد نفسي مجبرًا على الاعتراف بأن محمدًا يرفض ولا يقبل العنف في الدين”. ويقول جوستاف لوبون: “كانت الطريق التي يجب على الخلفاء أن يسلكوها واضحة فعرفوا كيف يحجمون عن حمل أحد بالقوة على ترك دينه.. وأعلنوا في كل مكان أنهم يحترمون عقائد الشعوب وأعرافها وعاداتها”.

ويقول م.ن. روي: “الخلفية التاريخية للإسلام والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها طبعته بطابع التسامح، الذي قد يظهر للعين غير المدركة لا يتفق مع روح التعصب، التي اعتدنا تقليديًا أن نربطها بالإسلام ولكن (لا إله إلا الله) وحدها تخلق التسامح”. وتقول المستشرقة الإيطالية ليورا فيسيا فاجليري: “ليس من المبالغة أن نؤكد بإصرار أن الإسلام لم يكتف بالدعوة إلى التسامح الديني بل جعل ذلك جزءًا من قانونه الممارس دائمًا”.

ويقول الكاتب البريطاني الشهيرهـ. ج . ويلز: “إن أعظم ما اجتذب قلوب غالبية الناس عندما جاء محمد بدين الإسلام، هو فكرة الإله (الله) ـ الذي يعنى بالوعي الذي فطرت عليه قلوبهم ـ الحق، وبقبولهم المخلص للإسلام ومنهاجه انفتح أمامهم ـ في عالم كان مملوءًا بعدم اليقين والزيف والانقسامات المتعصبة ـ باب واسع للأخوة البشرية العظيمة والمتنامية، وإلى فردوس لا يحتل فيه القديسون والقساوسة والملوك المكان الأعلى، وإنما تتحقق فيه المساواة بين أتباع الدين، بدون رمزية غامضة، أو طقوس ظلامية، أو ترانيم قسيسين، قدم محمد تلك النظم الأخلاقية إلى قلوب البشرية، الإسلام أوجد مجتمعًا تحرر من القسوة والاضطهاد الاجتماعي إلى درجة لم يبلغها أي مجتمع من قبل”.. ويقول: “إن الإسلام انتشر وساد لأنه قدم للإنسان أفضل نظام سياسي واجتماعي يمكن أن يمنحه الزمان، هذا النظام الذي يمثل أوسع وأنقى وأنظف فكرة سياسية أمكن حتى الآن أن تطبق عملاً على الأرض”.

وفي إطار استعراضه لقضية التسامح والعدوانية يشير المؤلف إلى أن سماحة الإسلام ويسره اقترنت بحكم ما تقتضيه طبيعة الأمور بسمته العامة الوسطية والاعتدال والبعد عن الغلو والتطرف والتشدد والإسراف، ولذلك لم يكن غريبًا أن يتكرر في القرآن الثناء على الوسطية والاعتدال، والنعي على تجاوز الحد وما يتولد عنه من تعصب وبغي وعدوان، وأن يتكرر ذلك في أكثر من ثمانين موضعًا يعبر فيها عن تجاوز الحد والخروج عن الوسطية والاعتدال بألفاظ الغلو والإسراف والطغيان والاعتداء.

ويقرر المؤلف أن السر في أن التسامح طبع سلوك المسلمين بقدر التزامهم لمنهج الإسلام في كل العصور وفي كل الأقطار، هو ما يفسر أن انحراف بعض المسلمين عن منهج الاعتدال والتوازن شًكّل أول إخفاق للمسلمين في تاريخ الإسلام وكان عاملاً مهمًا في خلق ما واجهه المسلمون من مشاكل فيما بعد وعلى مدى الزمن.

ومن مؤشرات التسامح في الإسلام وفق ما يشير إليه المؤلف إلغاء الطبقية والتمييز العنصري، موضحًا أن التاريخ يكشف في مختلف العصور ومختلف الأماكن عن وجود ظاهرتين في العالم الإسلامي وهما إلغاء الطبقية في المجتمع ومنح الأديان وأتباعها الحرية في الاعتقاد والعبادة والتمتع بالحقوق المدنية بصورة لا تمنحها أي دولة حديثة للأقليات الموجودة بها.

وقد انتبه عدد من كتاب الغرب لهذه القيمة الإنسانية من قيم الإسلام وأشادوا بها، ومن ذلك ما ذهب إليه المستشرق البريطاني جيب من أن لدى الإسلام تقليدًا رائعًا من التعاون والتفاهم بين مختلف الأعراق، ولا يوجد مجتمع آخر كالإسلام كان له مثل سجله في النجاح في أن يوجد المساواة في المركز الاجتماعي، والفرص في العمل والنجاح، بين مثل هذا العدد والتنوع من الأجناس البشرية.

كما يتناول المؤلف كذلك سمة قبول التعددية الثقافية حيث إنه في الدول الحديثة تسود فكرة مبدأ السيادة، ولذا فليس من الممكن أن تمنح الدولة الحديثة الأقليات فيها ما منحه الإسلام في عصوره المختلفة من حريات وحقوق للأقليات الخاضعة لسلطان المسلمين التي تعتنق أديانًا وثقافات مخالفة، وإن كان ذلك لا يعني القول أن مثل هذه الدول تعادي التعددية غير أن قبول الإسلام ديانة وتاريخًا منح الأقليات الإثنية التي تكون تحت سلطانه تلك الحريات والحقوق؛ إنما يعد دليلاً منطقيًا على طبيعة الإسلام في صلته بالتسامح أو التعصب، ومدى قابليته للتعددية ومدى قدرته على التعايش مع الأفكار والثقافات المخالفة.

وحسب المؤلف فقد تمتعت الأقليات في ظل سلطان الإسلام بالحرية الكاملة في ممارسة دينها وعباداتها، وفي استمرارها في استخدام لغتها وعاداتها وطرق تربية أبنائها كما بقيت لها الحرية في الاستقلال بقوانينها وقضائها، واستثنيت من القانون الجنائي العام الإسلامي، وعلى صعيد العلاقات الدولية.

يذكر المؤلف أن المبدأ الذي يرتكز عليه منهج الحضارة الغربية في العلاقات الدولية لا يختلف عن المبدأ الذي يحكم سلوك قاطع الطريق أو عصابات الجريمة المنظمة، بل سلوك الحيوانات في الغابة؛ مؤكدًا أن منهج الإسلام في العلاقات الدولية يختلف عن منهج الحضارة المعاصرة اختلافًا كليًا، إذ يرفض الإسلام من البداية أن تبنى العلاقات الدولية على المصلحة الوطنية أو القوة ويفرض أن تبنى على العدل والقوة الإلزامية للاتفاقية في ضوء ما هو معروف أن الاتفاقات بين الدول هي المصدر الرئيس للقانون الدولي.

ومما يذكر أن الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين، الرئيس العام لشؤون الحرمين، عالم بصير بشؤون الفكر الإسلامي عامة وفي مجال الاقتصاد والتشريع بشكل خاص، وهو مكب على كتابة بحوث في هذا المجال على الرغم من كثرة ارتباطاته، كما أنه مهتم بالعمل الخيري والإنساني على المستوى المحلي والدولي، ومن عادة الشيخ النفور من كل مظهر فيه بروز أو تكلف، بل الغالب عليه هو إنكار الذات واستصغار ما يعمل، ولهذا لقبه البعض بـ “عالم الزهاد وزاهد العلماء”، وتتميز مؤلفاته بالأسلوب السهل السلس والعرض الشائق والعناية بإيصال رسالة الكتاب كاملة إلى القراء.

——

المصد: نوافذ/الإسلام اليوم.

مواضيع ذات صلة