القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

تاريخ الصيام وأثره في الفرد والمجتمع

الدكتور مصطفى السباعي

شهر رمضان

ليس المراد من الصيام تعذيب النفس

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى في سورة البقرة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 183 – 185].

هذه الآيات الكريمة تقتضينا البحث في الموضوعات التالية:

1- معنى الصيام وكيف كان في الديانات السابقة وغيرها.

2- مزايا الصيام في الإسلام.

3- ما يتعلق بفهم الآيات المذكورة.

معنى الصيام:

الصيام في اللغة: هو الإمساك عن أي شيء، والامتناع عن الانتقال من حال إلى حال؛ فمن امتنع عن الطعام أو الكلام أو الارتحال كان في اللغة العربية صائمًا.

والصوم في الشريعة الإسلامية: هو الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطِرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.

الصيام عند الأمم:

ليس في التوراة التي بين أيدينا ما يدل على فرضية الصيام على اليهود، بل جاء فيها الترغيب فيه، ومدح من يؤديه، وقد ثبت أن موسى عليه السلام صام أربعين يومًا، واليهود في هذه الأزمنة يصومون أسبوعًا تذكارًا لخراب أورشليم (القدس) وأخذها، ويصومون يومًا من شهر آب، وينقل أن التوراة فرضت عليهم صوم يوم العاشر من الشهر السابع، وأنه يصومونه بليلته، ولعلهم كانوا يسمونه عاشوراء، ولهم أيام أخر يصومونها نهارًا[1].

وأما النصارى فليس في أناجيلهم المعترف بها اليوم نص في فريضة الصوم، وإنما فيها ذكره ومدحه، واعتباره عبادة كالنهي عن الربا، وإظهار الكآبة فيه، بل تأمر الصائم بدهن الرأس وغسل الوجه؛ حتى لا تظهر عليه أمارة الصيام فيكون مرائيًا كالفريسيين[2]، وأشهر صومهم وأقدمه الصوم الكبير الذي قبل عيد الفصح، وهو الذي صامه موسى، وكان يصومه عيسى عليه السلام والحواريون رضي الله عنهم، ثم وضع رؤساء الكنيسة ضروبًا أخرى من الصيام، وفيها خلاف بين المذاهب والطوائف، ومنها صوم عن اللحم، وصوم عن السمك، وصوم عن البيض واللبن، وكان الصوم المشروع عند الأولين منهم كصوم اليهود، يأكلون في اليوم والليلة مرة واحدة، فغيروه وصاروا يصومون من نصف الليل إلى نصف النهار.

أما عند الأمم الأخرى[3]، فإن الصوم لم يقتصر على الناحية التي فرضتها الأديان المختلفة، بل إنه قاعدة صحية درج عليها الأقدمون لحفظ أجسادهم وسلامتها؛ إذ كانوا يعُدُّون الصوم أنجع طريقة للوقاية من العدوى، وخاصة عند انتشار الأوبئة؛ لأن الصوم به تنظف الأجهزة، وتزال بواسطته الأطعمة الراكدة في الأمعاء وغيرها.

وفي مصر كان يفرض على الراغبين في الالتحاق بخدمة معابد إيزيس وأزوريس أن يصوموا سبعة أيام كاملة لا يتناولون فيها غير بضع جرعات من الماء، وكانت مدة الصوم تمتد أحيانًا إلى 42 يومًا.

وأما اليونانيون فقد فرضوا الصوم في ديانتهم على أنواع متعددة، فكان سقراط وأفلاطون يصومان عشرة أيام من كل بضعة شهور، كما كان بعض اليونانيين ينقطع عن الطعام يومين أو ثلاثة، غير أن الشعب كان يصوم في بعض المواسم استرضاءً للآلهة وطلبًا لعفوها.

أما سكان إسبارطة فلم يدخروا وسعًا في تدريب أبنائهم على الصوم؛ رغبة في أن يكونوا أقوياء أشداء يستطيعون أن يواصلوا القتال من الصبح إلى المساء دون اكتراث لما يصادفهم من الجوع والعطش.

وقد نهج الفُرس منهج اليونان في ترويض أبنائهم على الصوم منذ نعومة أظفارهم؛ ليكونوا أشد وأقوى على تحمُّل المشاقِّ.

وهكذا كانت الحال في المكسيك وأمريكا الجنوبية؛ إذ دلت الآثار التي توصل إليها الباحثون على أن سكان تلك الأقطار مارسوا الصوم، وكان صومهم يسبق كل عيد من أعيادهم، غير أن مدته تختلف بحسب أهمية العيد، وقد توصل بعض الكهنة إلى الانقطاع عن الطعام نحو مائة وستين يومًا.

ومن أغرب ما روي: أن المفطرين في تلك العصور والعاجزين عن الصيام كانوا يلجؤون إلى دهاليز المعابد فيسجنون أنفسهم فيها سنة كاملة؛ تكفيرًا عن خطيئاتهم أو عجزهم!

ولكي يثبت الكاهن أنه لم يقدم على الطعام سرًّا، كان يعقل لسانه بقطعة من الخشب تخترق اللسان وتربط الشفتين منذ اليوم الأول؛ لتسهل مراقبته والتثبت من أنه لم يقدم على تناول الطعام سرًّا.

وكذلك في أمريكا الشمالية؛ فالهنود الحمر كانوا ولا يزالون إلى اليوم – رغمًا عن اختلاطهم بالسكان البيض – يقدِّسون الصوم، ويعُدُّونه من أنواع الرياضة البدنية النبيلة؛ ولذا يلجؤون إلى ترويض أبنائهم على هذا النوع من الرياضة منذ صغرهم.

وعند الهنود وخاصة منهم “اليوجا” أو فقراء الهنود، فإنهم ضربوا الرقم القياسي في تحمل الجوع بين الأمم جميعًا؛ إذ توصل بعضهم إلى صوم (50 – 60)، وليس هذا شيئًا مذكورًا أمام أرقام أخرى بلغت عند فئة منهم نحو ثلاثة شهور انقطعوا فيها عن الطعام والشراب، وقد روى “الكولونيل روشاس” في كتابه “وقف الحياة” أن فقيرًا هنديًّا بقي عشرة شهور مدفونًا في قبر ولم تنقطع الحرارة عنه، فظل حيًّا، ولم يؤثر فيه الجوع والعطش.

ويقول الكاتب بعد ذلك: إن العلم والتجرِبة والواقع تثبت كلها أن في وُسع الإنسان أن ينقطع عن الطعام عشرات الأيام، ولكنه لا يقوى على تحمل العطش أكثر من سبعة أيام.

أما عند العرب فقد جاء في البخاري عن عائشة رضي الله عنها ما يفيد أن العرب قبل الإسلام كانت تصوم يوم عاشوراء، واستنتج ابن إسحاق من تعبُّد النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء في شهر رمضان قبل البعثة أن العرب كانت تعرف الصوم وسيلة من وسائل العبادة والتفكر.

هذا نبذة موجزة جدًّا، نفهم منها أن الأمم جميعها قد جاءت شرائعها – الإلهية والوضعية – بطلب الصوم من أتباعها، وأنها كانت تمارسه وتقوم به؛ قال تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]، وهذه الآية تفيد في أصل الفرضية، لا في كيفية الصوم ولا في شهره، وإن كان قد جاء في ذلك بعض الآثار.

مزايا الصيام في الإسلام:

نستطيع -في مثل هذا الوقت الضيق- أن نتحدث بإيجاز عن مزايا الصوم الإسلامي بالمقارنة بينه وبين مثيله في الديانات والأمم الأخرى.

1- أنه ليس المراد منه تعذيب النفس وإرهاقها لاتقاء غضب الله، بل يراد به تهذيب النفس وتكميلها بالكمالات الروحية التي تقرب صاحبها من الله عز وجل.

2- أنه إعداد روحي ونفسي لتحمل مشقات الحياة وحرمانها حين يجبر الإنسان على ذلك؛ فمن يترك طعامه طائعًا مختارًا إطاعة لأمر الله عز وجل، هو أقدر من غيره على أن يترك طعامه وشرابه وملذاته كلها إطاعة لأمر الله في الجهاد، أو نزولًا عند حكم الشدائد والنكبات، وقد رأينا بأعيننا فوائد الصوم في مثل هذه الحالات، حين كنا معتقلين في قلعة راشيا (لبنان) خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تراكمت الثلوج خلال فصل الشتاء، حتى بلغ ارتفاعها 1.40 سنتيمترًا، مما قطع كل طريق للمواصلات بيننا وبين المدن والقرى التي كان طعامنا يأتينا منها، فانقطعنا عن الطعام والشراب ثمانية أيام، لم يثبت فيها على داء الجوع والعطش إلا الذين تعودوا الصيام من قبل، بينما انهارت أعصاب الآخرين، وخارت قواهم بشكل واضح مؤلم، ولا يزال بعض الذين قاسَوْا مرارة تلك الأيام أحياءً يتحدثون عن هذه الأيام السوداء في مجالسهم.

3- أنه نظام صحي مفيد، لا ينشأ عنه ضرر للذين يتحملونه، ولا ينقص به ما يحتاجه الجسم يوميًّا من المواد الغذائية الضرورية[4]، عدا ما فيه من فوائد صحية، أفاض الأطباء المؤمنون في الحديث عنها، وهم أولى مني بالخوض في هذا الموضوع.

4- أنه مقبول للنفس، ممكن التطبيق؛ فالصيام في الشتاء لا يزيد عن اثنتي عشرة ساعة، وفي الصيف ست عشرة ساعة، وهو أمر لا حرج فيه غالبًا؛ فكثيرًا ما لا يذوق الإنسان الطعام والشراب – في غير شهر الصوم – في مثل هذه المدة لأسباب مختلفة، وليس يعني هذا أن الصوم ليس فيه شعور بالجوع والعطش بتاتًا؛ إذ لو كان كذلك لفاتت كثير من فوائده المادية والمعنوية، ولكننا نقول: إنه أمرٌ ممكن غير خارج عن قدرة النفس الإنسانية.

5- أنه خير مدرسة نفسية تربوية لتربية النفس على الصبر والصدق، وهما مِلاكُ فضائل الإنسان وذروتهما، فمن صام لله احتسابًا راغبًا في ثواب الله ورضوانه، اعتاد على الصبر على المكاره، والصدق في أعماله، والبُعد عن مواطن الهلع والجزع، ومظاهر الكذب والرياء.

6- أنه تنظيم اجتماعي تبدو فيه الأمة بأروع مظاهر النظام: تصوم في وقت واحد، وتفطر في وقت واحد، وتجتمع على موائد الطعام في وقت واحد، ولو أتيح لإنسان أن يشهد من الجو مدينة صائمة ساعة الإفطار لأتيح له أن يرى أجمل منظر من مناظر التآلف الاجتماعي والتنظيم الحياتي.

7- أنه تصعيد روحي، تصفو فيه النفس من كدرتها، وترتاح فيه الطبائع من شِرَّتها، وتشعر فيه النفوس بحاجتها إلى خالقها الذي خلق لها الطعام والشراب تكرمًا منه وتفضلًا، وتتصل فيه الأرواح بخالقها خلال قيام رمضان اتصالًا يشعر فيه الإنسان بعظيم عبوديته لإلهه العظيم، وما شقِيَتْ الإنسانية إلا بنسيان الناس عبوديتهم لخالقهم وحاجتهم إليه، وما طغى الطغاة في البلاد فأكثروا فيها الفساد إلا لنسيانهم أن فوق أيديهم يدًا أقوى، وهي يد الله، وفوق سلطانهم سلطانًا أعز، وهو سلطان الله؛ فالصوم عودة بالعبودية الشرسة المتمردة إلى مكانها الطبيعي في الحياة، وبالإنسانية الطاغية الباغية إلى موقعها الحقيقي من عظمة الله.

8- وبهذه المعاني السابقة كلها كان الصوم خير إعداد مادي ومعنوي وروحي للجهاد في سبيل الله؛ أي: سبيل الحق والخير والهدى والفضيلة، وهو بعض أسرار المعجزات الكبرى في الفتوحات الإسلامية؛ فقد كان الطعام والشراب بالنسبة للجندي المسلم أقلَّ ما يعبأ به ويهتم له خلال المعركة؛ ذلك أن الصيام عوَّدَه المقدرة على البقاء فترة طويلة من الزمن بعيدًا عن ملذاته المشروعة، فكان يكتفي من الطعام بتمرات يأكلها، وبكأس من اللبن يشربه، وإذا نَفِد ما معه من تمر أعانه إخوانه، وإذا نَفِد ما معهم جميعًا استمروا في القتال حتى يقضي الله فيهم وفي أعدائهم أمره، وبذلك لا ترى في تاريخ الفتوحات الإسلامية مشكلة تموين الجيوش خلال المعارك، وهي المشكلة التي يفكر فيها قادة الجيوش المادية أول ما يفكرون؛ فهم يخشون انقطاع التموين عن جنودهم فيستسلمون، أو قلَّته فيتمردون، ثم هم لا يكتفون بذلك، بل يفكرون في الترفيه عن جنودهم بإشباع غرائزهم الجنسية ولذائذهم الحيوانية؛ ففي كل فرقة جيش عندهم فرقة من النساء للترفيه عن الجنود، ولا يضمنون اندفاع جنودهم للقتال إلا بهذا، بينما كان من فضل الصوم على الجندي المسلم أن اعتبر الطعام حاجة لا شهوة، والحاجة تقدر بقدرها، والشهوة تُعب عبًّا ويُجرى وراءها ركضًا، وكان الجندي المسلم يرى نشاطه للقتال بالترفيه عن روحه بتلاوة كتاب الله، والوقوف بين يديه، وكلنا يعلم أن الفضل في جمع القرآن أيام عثمان رضي الله عنه يعود إلى أولئك المحاربين المسلمين في أذربيجان، الذين تفقد بالليل خيامهم قائدهم حذيفة بن اليمان فوجدهم بين ساجد وقارئ للقرآن، وسمع اثنين منهما كل واحد منهما يقرأ القرآن بلهجة غير اللهجة التي سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا كان الجندي المسلم يحارب في النهار، ولا يجد ما يخفف عنه من عناء الحرب إلا أن يركع رُكَيْعات بين يدي الله، أو يقرأ آيات من كتاب الله، ولعمري لو لم يكُنْ للصوم من فضيلة غيرُ هذه لكفَتْه فائدة، ولم يكن للاستمرار في الإفطار من رذيلة غير ما يفعله الجنود الماديون لكفاه رذيلة، فما أحرانا أن نعي هذا الدرس العظيم ونحن ننادي بأننا على أبواب معركة ضارية مع إسرائيل!

مع آيات الصيام:

يستفاد من آيات الصيام أحكام كثيرة فيه، ليس مكاننا مكان سردها، بل يكون ذلك في حلقات العلم وقاعات الدراسة، ولكن لا بد لنا من ذكر ما يبدو بين الآية الأولى وبين الثانية من اختلاف في وجوب الصوم أو عدمه في رأي بعض الناس.

جاءت الآية الأولى مصرحة في أولها بفريضة الصيام: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [البقرة: 183]، وجاء في آخرها ما يوهم أن الصوم مخيَّر ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 184]، وأن من يستطيع الصيام ثم لا يريد أن يصوم فعليه فدية طعام مسكين ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، ولما كان فرض الصوم في رمضان مجمعًا عليه بين فقهاء المسلمين قاطبة، وكان من الأمور المسلَّم بها في الدين، بحيث يكفر جاحدها، كان لا بد من التوفيق بين أول هذه الآية وآخرها والآية الثانية: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، وقد سلك العلماء في ذلك مسلكين:

أولهما: وهو الذي عليه أكثر المفسرين والفقهاء: أن الصوم كان في أول الأمر غير واجب على كل إنسان، بل من شاء صام ومن شاء أفطر ودفع فدية، ثم نزلت الآية الثانية ناسخة لحكم التخيير، فارضة وجوب الصوم على كل مستطيع.

ويؤيد هذا الرأي رواية في البخاري عن عائشة رضي الله عنها تقول: “إن قريشًا كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شاء فليصُمْه، ومن شاء أفطر))”.

ثانيهما: ما عليه أكثر المحققين من أنه لا تعارض بين الآيتين، وأن الآية الأولى غير منسوخة، فمعنى قوله: ﴿ يُطِيقُونَهُ ﴾ [البقرة: 184]؛ أي: يتحملون صيامه بمشقة زائدة، وهم الشيوخ والمرضى وأمثالهم، جاء في تفسير المنار للسيد رشيد رضا رحمه الله:

قال الأستاذ الإمام: الإطاقة أدنى درجات المكنة والقدرة على الشيء، فلا تقول العرب: أطاق الشيء إلا إذا كانت قدرته عليه في نهاية الضعف، بحيث يتحمل به مشقة شديدة؛ فالمراد بالذين يطيقونه هنا الشيوخ الضعفاء، والمرضى الذين لا يرجى برء أمراضهم، ونحوهم.

ثم قال: وعليه قول الراغب: الطاقة اسم لمقدار ما يمكن للإنسان أن يفعله بمشقة، وذلك تشبيه بالطوق المحيط بالشيء، فقوله: ﴿ وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]؛ أي: يصعُبُ علينا مزاولتُه، وليس معناه: ولا تحمِّلْنا ما قدرة لنا به؛ اهـ.

وأما قوله تعالى: ﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 184] فليس معناه إباحة عدم الصيام، بل معناه: فائدة الصوم ومنافعه، ومن أساليب القرآن في التعبير عن الوجوب: لفظ (خير)؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 220]، ولا شك أن إصلاح شؤونهم واجب، ولم يفهم أحد من هذه الآية أن عدم إصلاحهم لا بأس به.

وعلى هذا، فالآية الأولى غير منسوخة، والآيتان متطابقتان على معنى واحد، وهو وجوب الصوم، وهذا هو الذي نرجحه؛ فإن ادِّعاء النسخ لا يكون إلا حيث يتأكد التعارض بين النصين.

الصوم رد على المفترين:

وقبل أن أختم بحثي هذا عن الصوم، أرى من الواجب أن أنبِّه إلى أن الصوم وما فيه من حرمان خلال النهار طيلة شهر كامل أكبر رد على الكُتَّاب الغربيين المتعصبين والمستشرقين اللاهوتيين والاستعماريين الذين يزعمون أن من أسباب انتشار الإسلام في فتوحاته الأولى وانتشاره اليوم في إفريقيا يرجع إلى أنه دينٌ يطلق للمسلم عِنانَ أهوائه وشهواته وملذاته، وهذا ما حببه إلى جماهير الشعوب فدخلت فيه أفواجًا، إن الدين الذي يحرم على أتباعه تناول الطعام والشراب في النهار شهرًا تامًّا، ويحرم عليهم شرب الخمر، وارتكاب الفواحش – لا يمكن أن يكون محببًا إلى شعوب لا تصبر عن الطعام والشراب ساعات، وتقوم حياتها كلها على شرب الخمور والمُسكِرات، وتعاطي الرذائل والفواحش، فإذا دانت به مثل هذه الشعوب كان عليها قبل كل شيء أن تبدل حياة اللذائذ والشهوات فيها إلى حياة التقشف والحرمان عن خبائث الطعام والشراب، ولقد رأينا الغربيين يعجبون من صيامنا حين كنا في بلادهم، ويتساءلون: أتمتنعون عن الطعام والشراب والمُسكِرات والتدخين هذه الساعات الطويلة في هذه الأيام العديدة؟ وكيف تستطيعون ذلك؟ لقد كانوا يدهشون من هذا الدِّين الذي يفرض على أتباعه هذا النوع من الحرمان، بل إن بعض أساتذة الجامعات صرحوا لي بأنه لا يمنع الغربيين من دخول الإسلام – مع كونه أقربَ إلى التفكير الحضاري الحديث – إلا هذه التعاليمُ المشددة فيه؛ من الصيام، وتحريم الزنا والخمور والقِمار ومخالطة النساء، وما عليه الأوربيون اليوم.

هذا هو الحق، ولكن المتعصبين عن ضلالة لا يُنصِفون ولا يصدقون.

———

[1] تفسير المنار: 2 / 144.

[2] المصدر السابق، ولم يتح لنا الوقت الرجوع إلى النصوص المعترف بها عندهم حول هذا الموضوع.

[3] من مقال في مجلة الهلال، عدد أغسطس 1947، كما جاء في كتاب الصوم للأستاذ واصل حلواني.

[4] انظر في العدد الفائت مقال: الصيام بين الإيمان والعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* المصدر: مجلة حضارة الإسلام، العدد السابع، السنة الرابعة، رمضان 1383هـ – فبراير 1964م.

 

مواضيع ذات صلة