القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

تقوية الجوانب الإيمانية والوجدانية في الدعوة

د. هند بنت مصطفى شريفي

مفاتيح القلوب

احرص على مفتاح قلب مدعوك

من طرق تقوية الجوانب الإيمانية والوجدانية في الدعوة إلى الله تعالى:

1) فتح باب التوبة أمام المدعوين، والتغاضي عن زلاتهم السابقة وقد تاب الله عليهم، وإشعارهم بأن رحمة الله وسعت كل شيء، كما أمر الله تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين، في قوله تعالى: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [1].

والسيئات إذا تبعتها الحسنات فإنها تمحوها، لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [2]، وقد قيل: التائب عمله أعظم من عمل غيره، إلا أن يكون صاحب حسنات أرفع من حسناته، فإن لم يكن، فإن للتائب الذي اجتهد في التوبة والعمل ما ليس للآخر، وبهذا يتبين أن تقديم السيئات – ولو كانت كفرا – إذا تعقبها التوبة النصوح، التي يبدل الله فيها السيئات حسنات، لم تكن تلك السيئات نقصاً، بل كمال[3]، وهذا مما يدل على رحمة الله بعباده، حين يفتح باب التوبة لأقصى حد، إذ أن العقاب ليس غاية في الإسلام، إنما هو أحد وسائل تهذيب المسلمين.

ولما كان الشعور بالذنب من أثقل ما تمنى به النفس الإنسانية، إذ يعطلها عن العمل، ويبعث فيها الريبة والشك، فتحجم وتخاف ولا تتقدم أو تتحمل المسئولية[4]، فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع هذا الثقل عن نفوس الناس[5]، فيفتح باب التوبة أمام حاطب رضي الله عنه ليلج منه.

كما يجيب طلب عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه، لما أسلم وقال له: إني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، أو مسيرا أوضعت فيه، أو مقاما لقيتك فيه، أو كلاما قلته في وجهك، أو وأنت غائب. فهو يريد الخلاص من أوزار الجاهلية وثقل الذنوب التي اقترفها ضد الإسلام، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم، ودعا له: ((اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك، واغفر له ما نال مني من عرض، في وجهي أو وأنا غائب عنه”[6].

وعلمت المرأة المخزومية التي أقيم عليها حد السرقة، أن باب التوبة مفتوح لا يمنعها منه إنسان، فقد روي أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إقامة الحد عليها: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: ((أنت اليوم من خطيئتك، كيوم ولدتك أمك”[7]، فتابت وحسنت توبتها، وتزوجت رجلاً من بني سليم، وكانت تأتي إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فترفع حاجتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم[8]، ومما ساعدها على ذلك تقبل المسلمين لها، وإعانتهم لها على الارتفاع من أثقال الخطيئة التي ارتكبتها.

بيد أن العفو من الله تعالى عن أعمال الجاهلية، مرهون بالتوبة الصادقة لله تعالى، والعزم على ثبات القلب على دين الإسلام، فقد روى الإمام البخاري أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال:”من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام[9]، أُخذ بالأول والآخر”[10].

ومسلمة الفتح المجاهدين في سبيل الله: لم يقعد بهم أنهم كانوا في أول إسلامهم من المؤلفة، أو تأخر إسلامهم، فكثيرا ما يلحق المتأخر بالسابق، ويدرك الضعيف فضل القوي، وحسب المتأخرين أن الله تعالى وعدهم الحسنى، بقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}[11].

2) ألا ييأس الداعية من استجابتهم، ويصيبه الملل والفتور من دعوتهم، فالقلوب بين يدي الرحمن يقلبها كيف يشاء عز وجل، لأن وجوه صدودهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمن قلَّت شبهه، وتأمل حجة القرآن حق تأملها، ولم يستكبر، أسلم فورا، ومن كثرت شبهه، وأعرض عن تأمل الحجة، تطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى وقت أطول، فلو كانت صوارفهم عن الحق وأسباب صدهم عنه متفقة، لتوافوا إلى القبول جملة واحدة[12].

وقد أوشك هذا اليأس من إسلام الكفار أن يصيب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على بعض المشركين، فيقنت ويدعو ويقول: اللهم العن فلانا وفلانا، حتى أنزل الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}[13][14].

وروى الإمام الترمذي رحمه الله أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: “اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية”. قال: فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128]. فتاب الله عليهم، فأسلموا فحسن إسلامهم)[15]، وعقب الإمام الذهبي رحمه الله: ( أحسنهم إسلاما الحارث)[16].

ففي الآية الكريمة يبين الله تعالى، أن الأمر كله لله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، لأنه عبد من عبيد الله، والجميع تحت عبودية ربهم يُدَبرون ولا يُدبِرون، وهؤلاء الذين دعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو استبعد فلاحهم وهدايتهم، إن شاء الله تاب عليهم، ووفقهم للدخول في الإسلام، وقد فعل تعالى، فإن أكثر أولئك هداهم الله فأسلموا، وإن شاء عذبهم فإنهم ظالمون مستحقون لعقوبة الله وعذابه[17].

فعلى الداعية ألا ييأس من استجابة المدعوين، حتى بعد ضلالهم وردتهم، فهذا عبد الله بن أبي سرح رضي الله عنه، يرتد بعد إسلامه وهجرته، ثم أتى به عثمان رضي الله عنه مستأمنا له، وتأخر النبي صلى الله عليه وسلم في العفو عنه، رجاء أن يسبق إليه أحد الجالسين معه فيقتله، فلم يشأ الله تعالى له ذلك، لما أراده له من الخير، الذي ظهر منه بعد ذلك في الفتوح الإسلامية، فبايعه وكان ممن استثناهم الله تعالى في قوله {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [18].[19]

3) فعل وتقديم كل ما من شأنه أن يرفع ويزيد مستوى الإيمان في قلوبهم، فالإيمان يزيد وينقص، كذلك أخذهم باليسر حتى تثبت العقيدة في سويداء قلوبهم، لأن تكليفهم بالشرائع وإجبارهم على فروع الدين، والعقيدة لما ترسخ بعد، قد ينفرهم منه بالجملة، ومن ذلك ما يلي:

إعطاء الإيمان الوقت الكافي كي ينمو ويثبت في قلوب أهل مكة، قبل فعل ما قد يشق على نفوسهم، خاصة وأنهم( دخلوا في الإسلام، وأكثرهم لذلك كاره)[20]. ومثال ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم بايعهم (على الإيمان والإسلام فقط، لأنه لم يرد منهم سوى ذلك،.. بخلاف بيعة المهاجرين والأنصار، فإنهم جاءوا راغبين طائعين، رضي الله عنهم أجمعين)[21]، ومن ذلك ترك تعديل بناء الكعبة، وتركها على سابق عهدها قبل الفتح.

عدم إثقال كواهلهم وهم حديثو عهد بالإسلام بأوامر ونواه كثيرة، فينسي بعضها بعضا، بل التزام الحكمة في دعوته والاكتفاء بتعليمهم أصول الدين، خاصة للمقيمين خارج المدينة، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع والد عمرو بن سلمة رضي الله عنهما حين علمه الصلاة، فعاد إلى قومه وقال لهم: ( جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآناً)[22].

تخييرهم بين فعل عبادة ما، أو تركها، إذا كان في الأمر الخيار، حتى يقبل العابد على العبادة راغباً، وينصرف عنها المنصرف آملا في الرجوع إليها إذا نشطت همته، وفرغ من مشغلته، فينادي عليهم منادي الرسول صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى مكة: “من أحب أن يفطر فليفطر، ومن أحب أن يصوم فليصم”[23].[24]

——-

[1] سورة الأنعام جزء من آية 54.

[2]سورة هود جزء من آية 114.

[3] بتصرف، الآداب الشرعية والمنح المرعية 1/ 139.

[4] ولذلك عرف بعض العلماء التوبة: أن تنسى ذنبك، وقال ابن الديبع الشيباني رحمه الله: (وهذا حق، لأن من شروط التوبة: العمل الصالح، وذكر الذنب ربما عطل عن العمل، إذا أصيب التائب بالكآبة من أجله، ويخطئ البعض فيذكرون ما كان منهم من الذنب على سبيل التسلية، وهذا خطأ فاحش، وحنين إلى تلك الذنوب في الحقيقة، والتوبة النصوح لا يبقى على صاحبها أثر من المعصية لا سرا ولا جهرا) مكفرات الذنوب وموجبات المغفرة ص 32. ويرى بعض العلماء أن تذكر الذنب بعد التوبة منه دافع لاكتساب الحسنات وإبدالها بالسيئات، يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: إنما التبديل في حق من ندم على سيئاته وجعلها نصب عينيه، فكلما ذكرها ازداد خوفا وحياء من الله، ومسارعة إلى الأعمال الصالحة المكفرة، كقوله تعالى {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم: 60]، ومن كانت هذه حاله فإنه يتجرع من مرارة الندم والأسف على ذنوبه أضعاف ما ذاق من حلاوتها عند فعلها، ويصير كل ذنب من ذنوبه سببا للأعمال الصالحة، ماحية له، فلا يستنكر بعد هذا تبديل هذه الذنوب حسنات. بتصرف، جامع العلوم والحكم ص 102.

[5] بتصرف، فلسفة التشريع الإسلامي ص 146.

[6] سبق تخريجه ص 211، وص 547.

[7] مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وقال الشيخ الساعاتي: في إسناده ابن لهيعة، وقد صرح بالتحديث، فحديثه حسن. انظر الفتح الرباني 16/ 64.

[8] سبق تخريج الحديث، وانظر فتح الباري 12/ 95 ح 6788.

[9] قال أبو العباس القسطلاني: المقصود بقوله من أساء في الإسلام، بأن ارتد عن الإسلام ومات على كفره، فكأنه لم يسلم، فيعاقب على جميع ما أسلفه، في الأول الذي عمله في الجاهلية، وفي الآخر الذي عمله من الكفر. ونقل ابن بطال عن جماعة من العلماء: أن الإساءة هنا لا تكون إلا الكفر، للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة، وركب أشد المعاصي، وهو مستمر على الإسلام، فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام. بتصرف، إرشاد الساري 14/ 392 ح 6921.

[10]صحيح البخاري كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم باب إثم من أشرك بالله وعقوبته في الدنيا والآخرة 8/ 49.

[11] بتصرف، السيرة النبوية دروس وعبر ص 156.والآية في سورة الحديد جزء من آية 10.

[12] بتصرف، إعجاز القرآن ص 55.

[13] سورة آل عمران جزء من آية 128.

[14]صحيح البخاري كتاب التفسير باب ليس لك من الأمر شيء 5/ 171.

[15]سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن باب ومن سورة آل عمران 5/ 227 ح 3004. وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 33 ح 2402.

[16] سير أعلام النبلاء 2/ 564.

[17] بتصرف، تيسير كلام الرحمن في تفسير كلام المنان 1/ 417.

[18] سورة آل عمران الآيات 86 – 89.

[19] انظر زاد المعاد 3/ 464 – 465.

[20] فتح الباري 6/ 285 ح 3189.

[21] باختصار، الفتح الرباني 21/ 163.

[22] سبق تخريجه ص 165.

[23] سبق تخريجه ص 110 وص 255.

[24] بتصرف، الدعوة إلى الكتاب والسنة على ضوء الكتاب والسنة ص 139.

——

* المصدر: موقع الألوكة.

 

مواضيع ذات صلة