د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
عرضنا في حلقات سابقة من هذه السلسلة لأهمية الدين بصورة عامة –والشريعة الإسلامية بصورة خاصة- للفرد لإشباع حاجته الفطرية
والإيمانية، وعرضنا أيضا لأهميته في الإصلاح المجتمعي، والارتقاء بالأخلاق والسلوك، وعرضنا لضروريته في مجال الإصلاح السياسي، وأيضا لأهميته في المعاملات الاقتصادية، باعتبارها الضمانة الكبرى في تحقيق العدالة الاقتصادية بين الأفراد وحسن تصريف الموارد..
وفي هذه الحلقة نعرض لأهمية الدين والشريعة للعلم؛ حيث لا يخفى على ذي عينين هذه الطفرة العلمية والتكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم اليوم، والتي تزداد وتيرتها يوما بعد يوم؛ بل ولحظة بعد لحظة، ولا يخفى في الوقت نفسه على أي منصف ما تعانيه مناطق كثيرة من أنواع الدمار والحروب وجولات الإهلاك والإفساد في الأرض التي لا يمكن تبرئة العلم والتكنولوجيا الحديثة من توفير الوسائل المعينة على هذا الإهلاك والدمار، وهذا ليس اتهاما للعلم في حد ذاته من حيث كونه منحة ربانية تفضل بها على عباده ليسخر لهم ما في الأرض جميعا منه؛ بل الاتهام هنا إلى بني الإنسان الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؛ ففصلوا فصلا تاما بين العلم والدين؛ حتى صار العلم قوة عمياء غير ذات ضمير ولا ضابط ولا موجه.
ومن هنا تتضح حاجة العلم الملحة إلى الدين ليوجهه ويضبطه ويرشد مسيرته في قنوات ومسارات تنفع البشرية وتوفر لها سبل السعادة والأمن والطمأنينة والرفاه في مختلف مناحي الحياة؛ فالقوة العلمية العمياء خطرها داهم ووبالها عظيم وشرها مستطير وفسادها كبير؛ فالله عز وجل حينما وصف أنبياءه قال: {أُولِي الأيْدِي وَالأَبْصَارِ} (سورة ص: 45)؛ فالأيدي التي هي رمز القوة لا بد لها من أبصار وبصائر نافذة تدلها على طريق الخير والمنفعة، ولا يقوم بهذه الوظيفة غير الدين الذي أنزله من يعلم السر وأخفى، سبحانه وتعالى.
يقول د.عبد الله دراز: “ومن الخطأ البين أن نظن أن في نشر العلوم والثقافات وحدها ضمانا للسلام والرخاء، وعوضا عن التربية والتهذيب الديني والخلقي؛ ذلك أن العلم سلاح ذو حدين: يصلح للهدم والتدمير، كما يصلح للبناء والتعمير، ولا بد في حسن استخدامه من رقيب أخلاقي يوجهه لخير الإنسانية وعمارة الأرض، لا إلى نشر الشر والفساد.. ذلكم الرقيب هو العقيدة والإيمان” (الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان: 99).
مظاهر حاجة العلم للدين
وتتمثل –من جهة أخرى- حاجة العلم إلى الدين في العديد من المظاهر نظرا لاتساع مجال الدين ليشمل عالم الغيب والشهادة، واقتصار مجال العلم على عالم الشهادة المحسوس فقط، وقد استنبط أحد الباحثين (الدكتور محمد الزحيلي) بعض هذه المظاهر، منها ما يلي:
1- معرفة الغيب: سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، في الماضي السحيق أو المستقبل؛ فالعلم مثلا يعجز عن معرفة المستقبل سواء كان بعيدا لشهور وسنوات، أم كان قريبا لساعة أو لحظات. كما أنه عاجز عن معرفة أصل الكون والحياة، ومبدأ الكون والحياة، ومبدأ الخليقة والإنسان، والغاية من الحياة ونهاية الكون والإنسان والحياة، ومصير الكون والإنسان؛ فلا يعرف العلم حقيقة الموت الذي يرى أثره بالعين المجردة، ويعجز أكثر من ذلك في معرفة ما بعد الموت والفناء، وغير ذلك من المعارف التي يقف العلم أمامها حاسرا؛ لذلك تفضل الله على عباده بها عن طريق الوحي والدين.
2- قضية الخلود في الأرض التي يطمح إليها الإنسان ويسعى جاهدا للبقاء ما أمكنه، ويبذل طاقته لحصته فيها وإبعاد الموت عنه.. فهل يمكن للعلم أن يزيد في عمر إنسان لحظة واحدة أو يوما أو يوما واحدا.
إن التقدم العلمي السريع في الطب والجراحة والأدوية يستطيع أن يوفر للإنسان حياة أفضل، وسعادة أكثر، وراحة أرحب، ولكنها تعجز عن أن تمنحه لحظة زيادة في عمره، مصداقا لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)، ولقوله –عليه الصلاة والسلام-: “إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها” (طرف من حديث رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة).
3- كما يعجز العلم بشكل ملموس في القضايا النفسية التي تشكل شطرا بارزا في حياة الإنسان في الدنيا؛ فلا يمكن للعلم أن يمنع عن الإنسان القلق، ولا يستطيع أن ينزع منه الخوف إذا تعرض لأسبابه، سواء كان الخوف من أسباب مادية، أم من أسباب معنوية كالخوف من الموت، والخوف من الحوادث. وإذا قدم العلم أحدث ما وصل إليه من وسائل المواصلات كالسيارة والطيارة والصاروخ فإنه عاجز عن ضمان السلامة فيها، وإذا تعرضت لخطر أو عطل أو حادث فالعلم أعجز ما يكون عن غرس الطمأنينة في نفس الراكب ووقايته من الخوف والاضطراب، مع انتشار الأمراض النفسية في الدول الصناعية على نطاق واسع.
كما أن العلم عاجز عما يخرج عن نطاقه ولا يخضع للحس والتجربة والمشاهدة، وأكبر مثل على ذلك روح الإنسان وعقله.. فما هي الروح وما هو العقل؟
كما أن العلم لا يتناول القضايا الإنسانية كالأخلاق التي تقوم عليها الشعوب والأمم والحضارات؛ لذلك فإن الأخلاق تعتمد على الدين الذي يدعو إلى الأخلاق الفاضلة، ويحدد مدلولها ومفهومها ومداها، ثم يكسبها صفة القدسية الدينية، وهذا كفيل بحفظها وبقائها واستمرارها (كتاب وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه: 100-102، د.محمد الزحيلي، منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، 1401هـ = 1991م)..