القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حريص عليكم..

خالد رُوشه

إنها صفة يتصف بها الكبار، أصحاب الدعوات النقية الطاهرة، الذين لا يرتجون لأنفسهم علوا في الأرض ولا فسادا.

حريص عليكم

حريص عليكم

صفة لا تنبت إلا في بيئة نفسية كريمة، تحرص على الآخر وتحسن إليه وتعدل معه وتؤثره على نفسها، فيؤمن بها الآخر ويعتقد مصداقيتها.

ولذلك نجح ذلك الداعية الأول الأكرم صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته وإقناع الناس بها وإنشاء نماذج عملاقة تحمل فكرته وترسلها عبر العالم.

“حريص عليكم” هو فعل كل داعية يرتجي الثواب من الله سبحانه، مهما تعرض لأذى أو إضرار في سبيل دعوته، في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى نبيا من أنبياء الله شجه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”، إنه نموذج واضح لما نصفه من حرص الدعاة إلى الله على الناس برغم ما يتعرضون له من أذي.

إنه يمسح الدم عن وجهه وكأنه لا يبالي بما أصابه من نزف الدم، لأن مبادئه وقيمه العليا تهوّن عليه آثار الألم والوجع.

وإذا به يعلو فوقها فيدعو الله لمن شجوه وآذوه دعوة بالمغفرة، ويبحث لهم عن عذر فيما فعلوه، كونهم لا يعلمون الحق، وبكونهم لم يصلوا إلى معان الصواب.

وما أخرجه البخاري ومسلم نموذج آخر من نماذج حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته قال صلى الله عليه وسلم: “انطلقت –يعني من الطائف– وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب –ميقات أهل نجد– فرفعت رأسي فإذا سحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد أرسل لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين –جبلان بمكة– فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا” متفق عليه.

لقد كانت فرصة لأي أحد أن يتشفى في خصمه ويظهر أمام الله انتصاره بقوة علوية، إلا أنه لكونه صادقا ولكونه نبيا ولكونه طاهر القلب نظيف السريرة محبا لمبادئه وقيمه حريصا على أمته، إذا به يرفض ذلك..!

“حريص عليكم”.. حريص على الخير لكم، وعلى الهداية لكم، وعلى حسن المآل وفضائل الأحوال، فكم من نصيحة نصحها للعالمين، فيها البركة لهم والخير لهم وسعة الرزق عليهم، وكم من موعظة وعظها صلى الله عليه وسلم فيها هداية وتذكير وتوجيه وإرشاد.

وكم من إنذار أنذره إياهم فيه حجز لهم عن الفساد، ومنع لهم عن الأذى، وكم من شر منعهم عنه بتعليمهم سبل الشيطان وكيفية حمايتهم منه، فحفظ القلوب، وربي النفوس وكوّن الأخلاق (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

حتى فيما أمر من طاعات وعبادات كان حريصا على أمته، ففي الإسراء والمعراج يسأل ربه التخفيف عن أمته ويعود مرة ومرة، ولما بلغه أن معاذا رضي الله عنه يطيل في صلاته، إذا به يعتب عليه قائلا: “أفتان أنت يا معاذ؟! فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشي فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة” متفق عليه.

وحتى في خصومته عند اشتداد عداوة العدو له كانت تعاليمه في الحروب إعجازا آخر وحرصا دائما على أعلى درجة من حقوق الخصوم ولو كانوا محاربين، فكان يقبل من عدوه رفع الأذان ليسكت عنهم، وكان يأمر بعدم قتل الشيوخ ولا النساء ولا الأطفال ولا الرهبان في صوامعهم، ولا المرضى ولا الجرحى، ولا قطع أشجار، ولا حرق بيوت ولا تخريب، ولا إفساد، بل منازلة نظيفة يرفع فيها لواء الحق، ويمنع بها الظلم والجور والشرك.

إن حرص الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى على الناس ينبغي أن يظهر على شتى المستويات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ولا يظنن بعد الدعاة إلى الله أن حرصهم على الناس هو بمجرد تعليم بعض الدروس أو تسجيل بعض الخطب أو توصيل بعض المواعظ.

إنما دور الدعاة إلى الله أوسع من ذلك وأعظم، واسمع إلى قول عبد الله بن أبي أوفى فيما أخرجه النسائي: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر ويقل اللغو ويطيل الصلاة ويقصر الخطبة ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له الحاجة”..

بل إنه في حديث آخر فيما أخرجه البخاري يقول صلى الله عليه وسلم “الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله”.

بل إن حرصه على الضعفاء يبلغ قمته إذا ما استمعنا إلى قوله الذي رواه أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن اشق على أمه”.

وبينما أعرابي ارتكب جرما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (بال في المسجد) وهمّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوه، فكيف تعامل معه ذاك النبي الأكرم، يقول الأعرابي فيما أخرجه ابن ماجه: “فقام إليّ صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي فلم يؤنب ولم يسب”، وفي رواية أنه قال: “اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا”، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول له لقد حجرت واسعا يريد رحمه الله أنها للجميع.

—-

المصدر: موقع المسلم.

مواضيع ذات صلة