القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس
أكاديمية سبيلي Sabeeli Academy

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (3)

د. حازم علي ماهر

 

وهنوا وضعفوا واستكانوا!

الوهن والضعف والاستكانة كلها ألفاظ تدل على الهوان وقبول الاستضعاف من الآخرين والرضا به بحيث لا يقوم الواهن بأي سلوك مقاوم لاستغلاله، بل وقد لا يفكر في المقاومة أساسًا متلذذا بضعفه وباستعباده وقهره.

جاء في تفسير العز بن عبد السلام (1/ 287) أن “الوهن: الانكسار بالخوف، والضعف: نقص القوة، والاستكانة: الخضوع”.

والناظر إلى كثير من المسلمين الآن يجد أنهم قد خضعوا تمامًا لمن حرصوا على استضعافهم واستغلالهم، سواء على المستوى الأممي أو الوطني أو الجماعي أو الفردي، ولسان حالهم يصرخ بالقول: “يا عزيزي كلنا مستضعفون”، “احنا ماشيين جنب الحائط”، “كلنا عبد المأمور”!

فعلى المستوى الأممي ستجد أننا أصبحنا أمة تتداعى علينا الأمم –كما أنبئنا نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم- فبتنا أمة مستضعفة من سائر الأمم التي لا تكاد تتحد فيما بينها إلا علينا!

وعلى المستوى الوطني، أو على مستوى الشعوب الوطنية، تسيد المستبدون الذين رضوا بأن يكونوا مجرد وكلاء لقادة الأمم المعادية للإسلام ولنظامه الأخلاقي والمعرفي المستقل والمقاوم، بل وبعضهم سعوا إلى ذلك طواعية وأهدروا ثروات شعبوهم لهذا الغرض المهين، بينما رضت الشعوب بتلك المهانة المضاعفة، ورضخت للاستعباد المزدوج إلا من رحم الله، وهم قليل!

أما على المستوى الجماعي فقد سادت الكثير من مؤسساتنا الحكومية والأهلية حالة من الوهن والاستكانة تجاه سياسات ظالمة هيمنت على تلك المؤسسات تهدر فيها أبسط قواعد العدالة والمساواة، وتقدم معيار الولاء على معيار الكفاءة، فتقدم أهل الثقة على أهل الولاء، دون أن نلمس مقاومة حقيقية وفعالة ممن لا يجيدون التلون والتحول والنفاق، وهو أمر شاع حتى في كثير من تلك التنظيمات التي رفعت شعارات دينية إصلاحية رنانة بينما هي تئن تحت قيادات تقدم معيار الثقة والولاء لأشخاصها على حساب الولاء لرسالة تلك التنظيمات وأهدافها المعلنة!

أما على المستوى الفردي فقد رضي الأفراد بقهرهم وهدرهم في سائر مراحل حياتهم، من أول أسرهم التي ظن أربابها أن التربية الصحيحة تكون عبر القمع والإجبار على الطاعة العمياء، ثم من خلال مدارسهم وجامعاتهم التي ترسخ الأمر نفسه عبر تعليم تلقيني وتربية مريضة تقمع شخصية الدارسين وتعتبر المبدع المتسائل متمردًا لحوحًا يتعين تأديبه، حتى إذا خرجوا إلى الحياة العملية وجدوا الحال كما رأينا فإذا بهم يطيعون في استكانة، ويرضون بالدنية في دنياهم حتى يظلوا مواطنين صالحين بمعيار مجتمعاتهم المقهورة المتخلفة!

وقد ساعد على هوان الأمة ومجتمعاتها وأفرادها خطاب ديني مساند للاستبداد بأنواعه على الرغم من أن المخاطِبين (بكسر الطاء) يتحدثون عن دين جاء في حقيقته ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإذا بهم –على سبيل المثال- يبالغون في قوامة الرجل على المرأة ويصورون العلاقة فيما بينهما على أنها علاقة تبعية مطلقة على المرأة فيها أن تستكين لسيدها، وهو الأمر نفسه بخصوص المواطن الذي عليه –وفق هذا الخطاب المهين المستكين- أن يخضع للحكام خضوعًا مطلقًا ولو حال معظمهم بينه وبين الحرية التي هي مناط مسئولية الإنسان ومقصد من مقاصد رسالة الإسلام، أو حرموه من قيم دينية أساسية في الحكم، كالعدل والشورى وسيادة الشريعة الإسلامية على ما عداها من الشرائع، بل وحتى لو أظهروا الفساد في البر والبحر، وفي الجو كذلك!

هذه السلسة من الهوان أوجز النبي صلى الله عليه وسلم في بيان سببها الرئيس، حين عزا الوهن الذي سيصيب الأمة إلى “حب الدنيا وكراهية الموت”، وهو الركيزة الأساسية لكل رضا بالدونية؛ الحرص الزائد على الدنيا من حيث هي دنيا، والمبالغة في الخوف من مغادرتها المطلقة، والذي يدفع بصاحبه إلى الرضوخ والتنازل عن عزة نفسه وأهله ومجتمعه الصغير والكبير وأمته والإنسانية جميعها!

وإذا ساد الخوف -أو الجبن والهلع- الأخلاق، فقد الإنسان قدرته على قيادة نفسه، وسلمها لكل متسلط مستبد تتحكم فيها وتتلاعب بها وترميها إلى حيث شاءت، بينما هو تكفيه “حياة” ذليلة يحرص عليها ويعض عليها بالنواجذ، ولو قامت على إهدار كرامته وحقوقه وحرياته.

وقد أبدع د. مصطفى حجازي (في كتابه: التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، ص 196) في التعبير عن أثر علاقة القهر “بما تتضمنه من قمع وإرهاب وتضليل”، على صورة الذات عند الإنسان المقهور، والتي تتلخص في شعوره بشعور ممض ومثير للذعر بانعدام القيمة، بهدر الإنسانية، بإحساس بالاختناق نظراً لاستحالة التعبير عن الذات وتوكيدها من خلال صرخة احتجاج أو نداء. مما يصيبه بجرح نرجسي جذري. كما أن هذه الصورة تفجر على صعيد آخر عقدة “خصاء” شديدة, إنها صورة الإنسان العاجز [المنكسر]، رغم ما يتوسله من أقنعة وأدوات تمويه ليغطي بها عريه الوجودي.

فالهزيمة النفسية التي يخلفها قهر الإنسان وهدر إنسانيته تودي به إلى مزيد من الاستسلام والاستكانة لهذا القهر والهدر الذي يزيد من تمكين أعدائه منه ومن مصيره، فكرًا وسلوكًا، فيقبل مع الوقت هذا الحال ويرضى به، ويعيش في طاعة المتسلط عليه كالميت بين يد مغسله؛ لا اعتراض ولا حراك ولا مدافعة، فيصدق فيه قول المتنبي: “ومن يهن يسهل الهوان عليه، وما لجرح بميت إيلام”!

فهل من سبيل للخروج من حالة الوهن التي نمر بها؟

الخروج من الوهن

الحقيقة أنه ينبغي التأكيد أولا على بديهية يتناساها البعض في هذا الإطار، وهي أن الأمة والجماعات والمؤسسات تتشكل جميعها من أفراد، ومن ثم فإنه لا بد من أن يرتكز الإصلاح على الفرد (الإنسان)، وألا يغفل ذلك أبدًا أو يتهاون به؛ فصلاح الإنسان هو الطريق الطبيعي لإصلاح الإنسانية، وليس الأمة الإسلامية وحدها.

والأمر الآخر الذي ينبغي الانتباه له، أن صلاح الإنسان يتوقف أولا على مدى سلامة رؤيته لنفسه ولواقعه المحيط به، ولقد رأينا كيف باتت صورة الإنسان المسلم المقهور في نظر ذاته مشوهة وسلبية، أورثته عجزًا وانكسارًا وإحباطًا وقنوطًا، وهو أمر ينبغي معالجته أولاً قبل أي حديث عن صورته في نظر الآخرين، أي أننا يتحتم علينا أن نسير عكس التيار السائد الذي ركز جهده على صورة المسلمين لدى غيرهم، لاسيما المعادين منهم!

وأول ما علينا أن ندركه –نحن المسلمين المقهورين- لمعالجة هذه النظرة الدونية للذات، أن نتذكر دائمًا أننا ننتمي لأمة ذات حضارة عريقة سادت العالم قرونًا عديدة، علمًا وخُلقًا، وأننا نستطيع دومًا أن نعود “خير أمة أخرجت للناس”، لأننا لا نزال نمتلك كل أدوات الإقلاع الحضاري، وعلى رأسها عقيدة دينية دافعة (ورافعة) من شأنها أن تنتشل الإنسان من هوة التخلف والانحدار وتسمو به إلى الآفاق، إذا ما جرى تفعيلها في حياة الإنسان المسلم على نحو صحيح، وشريعة تهدينا دومًا للحق والوسطية والتوازن والاعتدال، وأخلاق راسخة كالجبال.

وعلينا أيضًا أن ندرك أن أجيالنا المعاصرة لم تصنع هذا القهر الذي نراه، بل استجلبته أمراض طاعنة بدأت بواكيرها مع بدء تفكيك عرى الإسلام، أي منذ قرون طويلة، ومن ثم فإنه ليس هناك مبرر لجلد الذات وتحمليها مسئولية كارثة لم تنشئها ولم تتسبب فيها، فليس ذنبها أنها أتت في هذا التوقيت الذي تخلفت فيه الأمة عن هدى الإسلام وقيمه حتى تكالب عليها أعداؤها!

ولكن علينا أن نؤمن كذلك بأنه إذا كان هذا القهر قدرًا بالنسبة لأجيالنا المعاصرة، فإن الوهن حياله ليس قدرنا ولا يصح أبدًا أن نعتقد ذلك الاعتقاد الوهمي الذي يريد أن يرسخه بعض “الموظِفين” للدين؛ فنحن مسئولون دومًا عن العمل على إزالة هذا القهر غاية وسعنا، موقنين بأن الله لن يحاسبنا إلا عما بذلناه من جهد في سبيل استعادة عزة الأمة، أفرادًا وجماعات، بغض النظر عن تحقق هذا الهدف في حياتنا أو بعد ذلك، ومن ثم فلا مبرر للوقوع في براثن اليأس والإحباط.

وقد سبق أن كتبت في موضع آخر معترضًا على هذا الإحباط الذي هيمن على مشاعرنا في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها الأمة، وأودى بنا إلى المزيد من الوهن والاستكانة ما يلي:

لماذا نحن محبطون؟!

إذا أذنبنا في حق أنفسنا فركعتان خاشعتان في جوف الليل تمحوان ذنوبنا، وإذا تسلطوا علينا فليس أمامنا سوى قول: “حسبنا الله ونعم الوكيل” مع المقاومة قدر الوسع، وإلا فهو إكراه لا نحاسب عليه، وإذا ضاق الرزق فهو القدر الذي لا يرده إلا مضاعفة العمل والدعاء لا العويل والبكاء، وإذا مرضنا فهو التكفير عن السيئات أو الرفع للدرجات الذي يقينا الدركات، وإذا أرادوا أن يطفئوا نور الله فنوره لا ينطفئ أبدا وكلمته هي العليا وليس علينا سوى أن ندعوه بأن يستعملنا لا أن يستبدلنا. ستضيق علينا الدنيا وتتسع، وفي كل ابتلاء نسعى لاجتيازه للفوز بالنعيم الخالد الذي لا حزن فيه ولا غل ولا حسد ولا تباغض ولا ظلم ولا ملل ولا خيانة. هيا بنا نواصل السعي الواعي الحثيث لأن نبقى مصلحون مهما أحاط بنا المفسدون وحاول أن يحبطنا المحبطون!”.

إن الله عز وجل لم يخبرنا فقط أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، بل أنبأنا كذلك أنه لا يكلف نفسًا إلا ما أتاها (انظر الآية 7 من سورة الطلاق)، أي أنه سبحانه سيحاسبنا –أفرادا وجماعات وأمم- على قدر ما منحنا من إمكانيات، وما خولنا به من قدرات، بمعنى أنه لا تكليف في الشرع بما لا يطاق، حتى في الشعائر والعبادات، حيث يُرفع التكليف عن المكره بقدر ما يتعرض له من إكراه، وعن المريض بقدر مرضه، ومن ثم عن المقهور بقدر قهره، والمهدور بقدر هدر حقوقه الإنسانية، وليس أدل على ذلك من قوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] “، وقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].

ويمكن لمن شاء الاستيثاق أكثر من سعة هذا الدين، واتساع أفق الفقه الآخذ عنه، أن ينظر فيما ورد في كثير من تفاسير القرآن الكريم، وفي شروح السنة النبوية وفي كتب الفقه وأصوله، من مصطلحات ومفاهيم وقواعد أصولية تسد باب القنوط والإحباط أمام الإنسان المقهور والمضطر، وتأخذ بيده نحو الانطلاق والعطاء حتى في أحلك ظروفه، من مثل: “فقه الاستطاعة”، و”فقه الضرورة”، و”فقه الأولويات”، و”فقه الموازنات”، و”عموم البلوى”، وغيرها من أبواب واسعة للأمل والعمل المحبطين للإحباط والوهن!

أنتم الأعلون!

الواقع أن التركيز على انتشال المهزوم من السقوط في براثن الإحساس بالعجز والهوان هو منهج قرآني أساسًا؛ فقد حرص المولى عز وجل على أن يغير صورة المسلمين الذهنية أمام ذواتهم، بعد هزيمتهم في غزوة أحد –على سبيل المثال- وأمرهم بألا يهنوا ولا يجزعوا من تلك المصيبة التي أصابتهم، واستبدل بها صورة أخرى، هي صورة المؤمنين المعتزين بأنفسهم الواثقين من انتصارهم مستقبلا بشرط أن تتوافر لديهم الثقة في موعود الخالق –سبحانه- لهم بالنصر والتمكين، وملاحظة أن أعداءهم سبق أن ذاقوا من كأس الهزيمة نفسه، وهي سنة ربانية؛ سُنَّة تداول النصر بين الناس ابتلاءً وتمحيصًا لهم في أحوال متباينة ليعلم المجاهدين منهم من القاعدين، وليميز الخبيث من الطيب، وليمحق الكافرين ويملي للظالمين، (راجع من قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، إلى قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]).

وهنا يجدر التنبيه أن البعض قد عبر عن العلو الإيماني بمفهوم “الاستعلاء”، وهو تعبير غير موفق –من وجهة نظري- باعتباره قد يؤدي إلى الشعور السلبي المنافي للأخلاق الإسلامية القويمة، وهو التعالي على الناس، مما أدى (أو بالأحرى أودي) بالبعض إلى الاستكبار العنصري على بقية المسلمين بحجة أنهم أكثر منهم إيمانًا، بينما مقصود الآية هو “الاعتزاز”، وهو مفهوم إيجابي أقرب إلى حقيقة ما يأمر به الإسلام من تواضع ولين الجانب مع ثقة كبيرة في النفس المعتزة بدينها.

وقد سبق أن خاطب الله سبحانه سيدنا موسى –عليه السلام- بالخطاب نفسه حينما “أوجس في نفسه خيفة” حين ألقى سحرة فرعون عصيهم وخدعوا أبصار الناس فرأوها ثعابين، فثبت سبحانه قلب موسى ونهاه عن الخوف: “قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى” [طه: 68]، إنه الاعتزاز الإيماني نفسه الذي يعصم الإنسان من الشعور بالعجز والخوف والانكسار والمذلة والاستكانة لغير الله، ولذا عاد موسى في لحظة أصعب من تلك حين طارده فرعون وظن أصحابه أنهم مدركون بعد أن أصبح البحر أمامهم والعدو خلفهم، فإذا بموسى الواثق بنصر الله يعلنها قائلا: “كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” [الشعراء: جزء من الآية 62].

ومن أجل ذلك يلاحظ أن الطعن في الإسلام يزداد مع شدة التسلط على المسلمين والرغبة في السيطرة عليهم باعتباره هو العاصم لهم من الاستسلام لغير الله عز وجل، وهو ما نلمسه الآن من الهجوم عليه عبر أذرع إعلامية جبارة تبث سمومها وافتراءاتها لتشويه الإسلام في جميع أنحاء العالم، باتهامه –خلافًا للحق وللحقيقة- تارة بأنه دين إرهابي، وتارة باتهامه بأنه يظلم المرأة، وتارة بوصمه بمعاداة الحرية (ويقصدون بها غالباً الانفلات والانحلال لا التحرر من هيمنة البشر وسيادة النزعة الاستهلاكية عليهم جميعا)، وتارة أخرى بالتشكيك في الفقه الإسلامي وإظهاره بمظهر الفقه المتخلف وغير العقلاني عبر تتبع بعض الفتاوى الشاذة فيه مثلما تتتبع الخنازير القمامة وسط الحدائق الخضراء (حيث يساعدهم على ذلك بعض الفقهاء والدعاة الموظِّفين للدين، أو الذين يستدرجون للسقوط في هذا الفخ عن غير عمد)، وتارة عبر القتل المعنوي المتعمد لرموزه التاريخية والدعوية، بل ولمن يرفعون شعاراته، بالحق أو بالباطل!

هذه الأكاذيب من شأنها أن تضعف ثقة كثير من المسلمين في دينهم بسبب ضعف اطلاعهم أصلا على عظمته وجهلهم بقوته الذاتية، فتجتمع عليهم إلى جانب مصيبة فقدان ثقتهم في ذواتهم، مصيبة اهتزاز ثقتهم في دينهم الذي يمنحهم المعنى والأمل والعزة، ويدفعهم لمقاومة كل محاولات استعبادهم عبر الاعتصام بالله والتوكل عليه سبحانه، فيقعدون ويستكينون عكس ما يفعل المؤمنون حقًا {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].

ومن هنا ندرك أن إصلاح صورة المسلمين عند ذواتهم حتى يتخلصوا من الضعف والوهن والاستكانة مرتبط ارتباطًا لازمًا برسوخ إيمانهم وبثبات عقيدتهم الدينية وبالحفاظ على ثقتهم في الإسلام، وهو الأمر الذي ينبغي التفات المصلحين إليه بدلا من استدراجهم إلى هاوية جلد الذات، أو هاوية الانشغال بمسائل سطحية تنتمي إلى الماضي فإذا بهم يساهمون في إحيائها بما يلهيهم عن التصدي للقضايا الكبرى والاستجابة للتحديات المعاصرة.

والخلاصة أن الخروج من الوهن يستلزم أولا إصلاح التصورات الذهنية للواهنين المنكسرين؛ فيدركون أن القهر حدث نتيجة لتراكمات تاريخية قديمة لا ذنب لهم فيها غالبًا، بل تتحملها أجيال سابقة، ويعلمون أن ذلك لا يعفيهم من المسئولية عن العمل الجاد المخلص على التخلص من هذا القهر لا الاستسلام له، ويؤمنون أنهم غير مكلفين شرعًا إلا ببذل غاية الوسع في دفع هذا البلاء في حدود قدراتهم مع التوكل على الله وحده في ذلك، ويعون بأنهم هم الأعلون بإيمانهم وبأخلاقهم وبتاريخهم العريق، وأن الهجوم المتواتر على دينهم الآن يرجع إلى قوته وقدرته على انتشالهم من القاع وإعادتهم إلى القمة، بعد أن يستأصل الوهن من قلوبهم، ومن ثم يستردون مناعتهم وعافيتهم تمهيدًا للانطلاق إلى الأمام واثقين معتزين بأنفسهم وبقدرتهم على الإقلاع من جديد، فيلتفتون إلى سؤال العمل، وهو السؤال موضوع المقال المقبل، إن شاء الله تعالى.

_____

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

مواضيع ذات صلة