د. حازم علي ماهر
التوبة من الوهن وجهاد الشهوات!
نواصل اليوم حديثنا عن سبل الخروج من نكبة أخلاقية كبرى هيمنت على قلوب المسلمين تجاه استضعافهم المُركَّب، داخليا وخارجيا، وهي نكبة الوهن، وقد وصلنا في المقال السابق إلى أن الخطوة العملية الأولى التي علينا القيام بها -فرادى وجماعات- هي دراسة مدى صدقنا مع أنفسنا ومع بارئها -عز وجل- ومع الآخرين، وبعدها نتوب إلى الله سبحانه توبة نصوحًا نبدأ بها عهدًا جديدًا من حياة العزة والكرامة حتى لو اقتصر الأمر في البداية على المستوى الشخصي باعتبار أن الاعتزاز هو إحساس داخلي أساسًا حتى لو كانت البيئة المحيطة بيئة إذلال واستضعاف.
والواقع أن التوبة الفردية تأتي بقرار شخصي عازم على الإصلاح والتجديد، ولكن هناك صعوبة إجرائية تتعلق بكيفية تحقيق التوبة بالنسبة للجماعات والشعوب العربية والإسلامية، حتى إن البعض قد يظن الدعوة إليها مجرد دعوة نظرية يعرف أصحابها أنها لن تتحقق في الواقع، ولكنهم يكررونها ليلا ونهارا معذرة إلى رب الناس ولعلهم يتقون، وهو أمر مردود عليه من وجهين:
الأول: أنه لو كانت التوبة الجماعية ميئوسا منها، ويستحيل تحققها في الواقع لما أمر الله تعالى بها في آياته مرات عديدة [ورد لفظ “توبوا” في القرآن الكريم خمس مرات (بالإضافة إلى الآيات الأخرى التي ذكرته بمشتقاته وبمرادفاته المختلفة)، ومن تلك الآيات الخمس قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ…} (التحريم: 8).
والثاني: أن اجتماع المسلمين -في وقت واحد- على التوبة الجماعية من الوهن (وليس فقط التوبة الفردية من ذنوب والمعاصي كما يحدث غالبًا) أمر ليس مستحيلا، بل يمكن أن يتحقق من خلال حث الناس على التوبة في توقيت واحد معلوم، مثل ليلة السابع والعشرين من رمضان، ولكن بشرط أن تجري قبلها حملة إعلامية كبيرة عبر وسائل الفضائيات الرسالية الجادة، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، تحث الناس على التوبة في هذا التوقيت المقترح على أن تتناول هذه الحملة بيان العناصر البارزة التي على الواهنين الندم عليها والعزم على هجرانها، وهو أمر أشير إليه مرارًا في تلك السلسلة التي تعنى بتحليل أزماتنا الأخلاقية، لا سيما المقالات التي تحدثت عن الفجوة بين الإسلام والمسلمين، وعن مظاهر الوهن في حياتنا.
ولكن ماذا بعد التوبة حال تحققها على وجه يرضي الله عز وجل؟
ينبغي دائمًا أن يتبع التوبة النصوح ترك السيئات، كبيرها وصغيرها، وإذهابها بالمزيد من الحسنات، وهو أمر ليس هينًا بصدد ما نحن فيه، ويتطلب عزما وصبرا ومثابرة، ومن قبلها فكر رشيد يدرك الأولويات بعد أن يفقه النص، ويفهم الواقع، ويصالح بينهما بما يحقق مقاصد الشرع الحنيف.
ولعل السيئة الجامعة التي يتعين تركها هي سيئة “حب الدنيا وكراهية الموت” على نحو ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي سلفت الإشارة إليه، وهي في حقيقتها أم الخطايا المؤدية للاستضعاف والاستذلال، فما من وهن في القلوب إلا ووراءه إيمان ضعيف واستسلام لشهوة غالبة تقع تحت طائلة حب الدنيا على حساب الآخرة، مخالفة لما أمر به الله عز وجل، أو تدخل ضمن ما نهى عنه سبحانه، من عدم شراء الدنيا بالآخرة، وتضييع الجنة لنيل حظ من حظوظ دنيوية منهي عنها شرعًا.
وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحقيقة في قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
جاء في تفسير الإمام القرطبي لهذه الآية: “وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه، ولا دين لمن لا صلاة له […] (واتبعوا الشهوات) أي اللذات والمعاصي” (تفسير القرطبي: 11/123).
ولا أدري ما إذا كانت تلك الآية قد ألهمت مالك بن نبي حين كتب عن السقوط الحضاري، يقول: “ذلك هو منحنى السقوط، الذي تخلقه عوامل نفسية أحط من مستوى الروح، والعقل، وطالما أن الإنسان في حالة يتقبل فيها توجيهات الروح، والعقل، المؤدية إلى الحضارة ونموها، فإن هذه العوامل النفسية تختزن بطريقة ما، فيما وراء الشعور، وفي الحالة التي تنكمش فيها تأثيرات الروح والعقل، تنطلق الغرائز الدنيا من عقالها، لكي تعود بالإنسان إلى مستوى الحياة البدائية. وكذلك كان شأن المسلم، فقد بعث الدين فيه روحا محركا للحضارة، فلم يلبث بعد مرحلة قضاها في الخلافات والحروب أن عاد إلى حيث هو الآن، إنسانا بدائيا” (شروط النهضة، ص 53).
وللأسف الشديد فإن الشهوات والغرائز سادت العالم بأجمعه، لا البلاد العربية الإسلامية وحدها، وذلك بعد انعدام أثر الروح بإقصاء الدين والسخرية منه ومن الملتزمين به، فضلا عن غياب العقل الرشيد؛ فقد جرى تنحية الروح والعقل لحساب السوق وأخلاقياته، فبات كل شيء يخضع –تدريجيًا- للعرض والطلب، وينحني لاعتبارات الربح والخسارة المادييين، بما في ذلك الديانات والقيم الأخلاقية التي كانت سائدة يومًا ما.
ومن ثم فإن الخطوة الثانية من الخطوات العملية في مواجهة نكبة الوهن تتمثل في أن نجاهد من أجل إعادة الاعتبار إلى العقيدة الدينية، ودورها في تهذيب الروح، وترشيد العقل، وتسويدهما على الغرائز غير المشروعة والشهوات الممنوعة، عسى أن نخرج من مستنقع الوهن.
فلنعزم من الآن على إقامة الصلوات بقلوبنا قبل جوارحنا على النحو الذي أشار إليه الأديب الأروع مصطفى صادق الرافعي في ثنايا نقده لصلاة المسلمين في عصره (وفي عصرنا من باب أولى) في كتابه وحي القلم (ج2، ص 312):
“وأين هم الذين يصلون بحقيقة الصلاة، فيخرجون بها من النفس إلى الكون، ومن الزمن إلى الأبد، ومن الأسباب إلى مسببها، ومما في القلب إلى ما فوق القلب؟ إن هؤلاء جميعا يُصَلّون بجوارحهم وبينهم وبين أرواحهم طول الدنيا وعرضها؛ وما منهم إلا من يتصل فكره بما يغلب عليه، كما يتصل فكر اللص بيده، وفكر العاشق بعينه، وفكر الطفيلي بمعدته. فاسمها عندهم الصلاة، وحقيقتها عند الله كما ترى”!
——–
(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة)