القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

حول الجذور الفكرية لأزمتنا الأخلاقية (7)

د. حازم علي ماهر

التفكير والهجرة!

ركزت فكرة المقال السابق على حث الإنسان المسلم على أن يقرأ -مستعينًا بالله- كتابي المولى سبحانه؛ المسطور والمنظور، وأن يتدبر فيهما عسى أن يهتدي إلى طريق العزة ليتحرر من وهنه الذي أفقده قوته وريادته الحضارية التي استمرت عشرة قرون على أقل تقدير.

وقد أشار المقال السابق كذلك إلى ضرورة البدء بإعادة قراءة قصة خلق الإنسان ومقام الدنيا بالنسبة إلى الآخرة، عسى أن يتخلص من غفلته التي أوقعته في براثن حب الدنيا الزائلة والاكتفاء بزينتها على حساب الآخرة وجنتها الخالدة؛ حيث كره الموت وتحاشاه، بل وهرب من مجرد التفكير فيه، وقد فعل ذلك وهو يتلو قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19)!

لكن الأهم الآن ليس الدعوة إلى التفكير في الموت –على أهميته- بل الإلحاح على التفكير في الحياة، بالتأمل فيها وفي سنن الله التي تحكمها وتحدد مسارها، وفي حكمته عز وجل في التعامل مع خلقه باختلاف ألوانهم وألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم، فضلا عن النظر في الآفاق، ليس فقط للتأمل في بديع صنعه سبحانه، ولكن لإدراك الواقع الذي نعيشه في الأرض بعد أن ندرك حجمها بالغ الضآلة في الكون!

وسيكتشف المسلم، المتأمل بعمق في واقعيه: العام والخاص، أن مهمته في العمل على التخلق بخلق العزة لن تكون سهلة بالتأكيد، حيث سيلمس أن مجاهدته لشهواته لن تكفي وحدها لتحقيق هدفه العزيز، وسيدرك أن عليه أن يواجه شهوات الآخرين وجشعهم كذلك؛ لا سيما المستكبرين منهم، الذين استحوذت عليهم شياطينهم، وباتوا أسرى لغرائزهم ولسوء أخلاقهم، فإذا بهم يطمعون فيه وفي ثروات أمته، أو يحقدون عليه لسبق انتصاره عليهم تاريخيًا –حضاريًا وثقافيًا وعسكريًا واقتصاديًا- فيتسلطون عليه ويحاولون هدم مصدر عزته وانتصاره الذي سبق أن انتشله من القاع وصعد به إلى عنان السماء، وهو دينه (الإسلام) الذي يُعد الملاذ الأخير لإنقاذ نفسه من براثن الوهن والاستكانة لاستكبارهم وعلوهم في الأرض.

وسيفاجأ المسلم المعاصر بما سبقت الإشارة إليه -بخصوص واقع العالم الإسلامي العام- من أن هناك من المسلمين من باعوا أنفسهم لهؤلاء المتسلطين وجعلوا منها أداة لتحقيق أحلامهم في استمرار هيمنتهم على المسلمين واستقرارها عبر فرضهم لسياسات الإفقار والتجهيل والتوهين الجسدي والمعنوي، وسيتألم بما سيجده في واقعه الخاص من حال يرثى له؛ فهو إما فقير فقرًا مدقعًا، أو غَني غِنىً فاحشًا، أو هو بين هذين الحالين يقف حائرًا، لا يستطيع أن يصل إلى حلول ناجعة تأخذ بيديه في مواجهة الفتن التي أوشكت على اقتلاعه من جذوره، ولم يسعفه في ذلك ما يطرحه عليه الخطاب السياسي (وهو مصطلح يشمل حاليًا -من وجهة نظري- الخطابات الدينية والثقافية والإعلامية؛ فكلها في حقيقتها خطابات يملي أغلبها السياسيون أو تستهدف رضاهم وتحاشي غضبهم) من حلول للخروج من عنق الزجاجة واستعادة العزة والقوة، والتي تركز –في معظمها- على أنه هو وحده المسؤول عن تخلفه، وكأنهم يأمرونه بالتفرغ لجلد ذاته وبالبكاء والندم على ما ضيعه وفاته، وهو خطاب يعبر عن سياسات ظالمة وَلَّدَت بدورها خطابًا مناقضًا لخطابها، يُكفِّر المجتمع ككل، ويدعو إلى هجرة المجتمعات (الجاهلية!) لبناء الدولة الإسلامية التي ستعيد له عزته!

إن الخطوة العملية الواجبة تجاه هذا الخطاب السياسي –وخطاب التكفير المواجه له- هي هجرته وتجاهله تمامًا بعد تفنيد أهم أطروحاته وكشف زيفها وتهافتها، فهو ليس إلا عبارة عن أفكار -مضللة ومشوشة- تُطرح غالبًا للاستبقاء على حالة الوهن الأممي والفردي التي يعيشها المسلم، بغض النظر عن نيات أصحابها أو أوهامهم، ومن ثم ينبغي استبدال خطابات أخرى به، تحث على التفكير في إصلاح المجتمع بدلا من تكفيره أو تحميله وزر لا يسأل عنه غالبًا، وتطرح حلولا إيجابية بناءة تتفاعل مع قضاياه وهمومه المشتركة وتأخذ بيديه إلى العزة والقوة الحضارية، بدلا من هجرته والانعزال عنه ماديا وشعوريًا كما ينادي البعض بغير حق.

ولقد حاول كثير من المصلحين والمفكرين الإسهام في طرح تلك الحلول التي رأوا أن من شأن الأخذ بها استعادة العزة الحضارية والنهوض من جديد، وترك بعضهم مشروعات فكرية كاملة ترمي إلى تحقيق هذا الغرض، غير أن معظم هذه المشروعات ركزت على جوانب صراعية لا توحيدية، فإذا بها تثير نزاعًا وشقاقًا لا بين أطياف الأمة فقط، بل في داخل الإنسان نفسه، حيث صنعت مواجهات وسجالات بين ثنائيات غير متصادمة بالضرورة (وصفتها في مقال آخر بأنها: ثنائيات التيه التي جنت على أمتنا)، مثل ثنائيات: الشريعة والقانون، والقومية والإسلامية، والعلمانية والإسلامية، والأصالة والمعاصرة، والدولة المدنية والدولة الدينية… وتركت معظمها جوهر الأزمة الحضارية والأخلاقية دون معالجة حقيقية، فازدادت الأمة ضعفًا ووهنا واستكانة وتقهقرًا على يد من لا يقيمون وزنًا لتلك الثنائيات أساسًا، بل إنهم قد أسهموا هم أنفسهم في إشعال الصراع حولها لتفرق بين المواطنين وتلهيهم عن انتزاع إنسانياتهم ونهب ثرواتهم المادية والمعنوية!

ولكن من فضل الله على هذه الأمة أن أرسل لها كذلك مفكرين آخرين، مخلصين وواعين، استطاعوا أن يفلتوا من براثن تلك الصراعات الوهمية، أو غير الجوهرية على الأقل، وينظروا إلى الأزمة من منظور شامل، يدرك الأخطار والتحديات التي تواجه الأمة وتقف في طريق استعادة عزتها واستقلالها، ومن ثم يطرح أفكارًا توحيدية وفعالة لانتشالها من حالة الوهن والقابلية للاستضعاف، أفرادًا وجماعات، دولا ومؤسسات… إلخ.

ومن هؤلاء المفكرين المستقلين الذين عالجوا أزمة وهننا من منظور حضاري شامل، ينطلق من قراءة عميقة للقرآن الكريم، ومن استقراء واعٍ لعوامل نهوض الحضارات وأسباب سقوطها، ولا سيما الحضارة الإسلامية، المفكر الجزائري مالك بن نبي، والذي رأيت أنه من الضروري أن أفرد المقال المقبل لقراءة موجزة لمشروعه -الشامل المتكامل- لمواجهة الوهن!

(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).

 

مواضيع ذات صلة