د. حازم علي ماهر
عودة الروح!
نستكمل اليوم حديثنا عن مشروع مالك بن نبي كأحد المشروعات الفكرية الأساسية التي من شأن تفعيلها الإسهام في استعادة عزة الأمة الإسلامية وتخلصها من وهنها، وسأبدأ باقتباس من أحد أجزاء مذكراته يعد بمثابة صرخة من صرخات جيله، يصف بها حال أمته التي كانت قد وقعت حينها في براثن احتلال عسكري غاشم، استغل تحلل حضارتها وزوالها وتهيؤ أبنائها لاستقباله بضعف واستكانة وهزيمة نفسية، مما ضاعف من صعوبة مهمة المصلحين في إنقاذها من مصيرها البائس بعد أن باتوا يحاربون على جبهتين: الأولى القابلية للاحتلال والثانية هي الاحتلال نفسه.
ومن هنا صك مصطلحه “القابلية للاستعمار”، ليلفت النظر إلى أن الأزمة ليست في المحتل (المستعمر) فقط، بل في هؤلاء المرضى الذين تشوهت أخلاقهم، وذهبت نخوتهم، وحققوا لهذا المحتل الخبيث كل ما يحلم به حتى من قبل مجيئه لاحتلال الأرض والعقل والإرادة!
فقد كتب مالك بن نبي يقول: “فأنا أنتمي إذن إلى الجيل السيئ الذي يختم طور التحلل الذي أَلمَّ بالحضارة الإسلامية ويأذن لعصر جديد يختلط فيه نوعان من (العفن): الاستعمار والقابلية للاستعمار، ولكنه عصر تنبثق منه، هنا وهناك، مؤشرات وبواكير نظام جديد لا يزال الغموض يلفه [يحيط به]. غير أن هذا النظام يصطدم حتما، عبر تناقض عنيف، بكل ما يسعى للحفاظ على استمرار الوضع السائد سواء بحكم العادة، كما هو شأن القابلية للاستعمار، أو بدافع من المصلحة كما هو حال الاستعمار.
وإذا تجسد في شخص، فإن هذا الأخير سيقع حتما في مواجهة القابلين للاستعمار وأسيادهم الذين حولوهم إلى (أهالي) سكان المستعمرات (indigènes) أي إلى مخلوقات باهتة، فاترة وهجينة، لا هي بنساء ولا برجال، لا أخلاق لها وتبدو أدوات قذرة في متناول الاستعمار، كل هذا ليخضعها لهيمنته” (مذكرات مالك بن نبي: العفن- 1932-1940م، ص 13).
هكذا كان هَمّ مالك بن نبي الأكبر، الذي دفعه إلى تساؤله الأهم: لماذا بتنا لقمة سائغة في أفواه الاستعماريين؟! وكيف تقدموا علينا وتمكنوا منَّا هكذا؟! ليسير بذلك على درب من تساءلوا من قبله هذا السؤال المؤرق: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ إلا أنه لم يجد في إجاباتهم ما يشفي غليله، ويريح قلبه، بعد أن اكتشف أنها كانت عبارة عن إجابات بلاغية وتجزيئية واختزالية وكلامية مجردة، تقف عند أعراض المرض دون أن تصل إلى حقيقته وجوهره، مما أدى إلى استمرارية حالة التيه وعدم الفعالية التي أصابت الأمة ومشروعات مصلحيها على حد سواء!
قرر مالك أن يتلمَّس طريقًا جديدًا للخروج من هذا الوضع البائس، فوجد ضالته في نهج أستاذه الأول –حسب وصفه- عبدالرحمن بن خلدون، الذي ركز على دراسة سنن قيام الحضارات وعوامل سقوطها، فاستقرأ هو الآخر هذه السنن، وتوصل إلى أن كل الحضارات الإنسانية قامت عبر استثمار عناصر ثلاثة: الإنسان والتراب والزمن، تمزج بينها –بالضرورة- فكرة دينية ما، بما في ذلك الحضارات الغربية والبوذية والإسلامية، “فالحضارة لا تنبعث -كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية” (شروط النهضة، ص: 50) وكل الحضارات قامت الفكرة (أو العقيدة) الدينية بدور حاسم في تكوينها وإمدادها بالروح اللازمة لبنائها ولريادتها، حتى إذا ضعف تأثيرها الروحي والاجتماعي، يحل العقل محل الروح، ليبدأ الطور الثاني من أطوار الحضارة، حيث تنتشر في الأرض مكونة لإمبراطورية كبيرة تظل تتمدد حتى تبدأ الغرائز في استلام الزمام من العقل وتهوي بالحضارة إلى طورها الثالث وهو طور التحلل والأُفول، والذي ينتج “إنسان ما بعد الحضارة” على حد تعبير مالك بن نبي، وهو إنسان تتحكم فيه غرائزه فيعشق الأشياء والأشخاص على حساب الأفكار.
وقد تتبع مالك -وفق هذا النهج- مسار الحضارة الإسلامية تحديدًا، فوجد أنها مرت بأطوار ثلاثة؛ بدأ أولها بنزول الوحي بكلمة “اقرأ”، وكلمة التوحيد التي ألهبت حماسة المسلم ووجهت طاقاته كلها لبناء حضارته بعد أن أشعلت في نفسه روح التزكية والتحرير والعمران ووجهت طاقاته كلها نحو إصلاح مجتمعه الإنساني، إلى أن جاءت اللحظة التي تنازع فيها المسلمون وتعاركوا في موقعة صفين (عام 37هـ=657م)، فكان هذا إيذانًا بدخول الحضارة الإسلامية في طورها الثاني؛ حيث ذهبت الريادة للعقل بدلا من الروح، فكثرت فتوحات المسلمين في الأرض بعد أن غادرت القلوب إلا قليلا، وتشكلت إمبراطورية كبيرة ظلت مهيمنة على العالم القديم حتى سقوط دولة الموحدين في المغرب (668 هـ=1269م)، ومن قبله سقوط الدولة الأيوبية في مصر (648 هـ=1250م)، ليبدأ بذلك الطور الثالث، وهو طور تحلل الحضارة الإسلامية، حين حلت الغرائز والشهوات محل العقل ليخرج لنا “إنسان ما بعد الموحدين” الذي ضعف وهان وبات قابلا للاستضعاف أمام المستكبرين الذين استغلوا وضعه البائس وفرضوا عليه هيمنتهم، ليرسف في أغلال عدوين أساسيين: عدو في داخل نفسه، وهو “القابلية للاستعمار”، وعدو آخر من خارجه، وهو الاستعمار، مما صعب المهمة على المصلحين، حيث كتب عليهم أن يتحاربوا مع هذين العدوين معا في الوقت نفسه!
هذا هو تشخيص مرض المسلمين إذًا من وجهة نظر مالك بن نبي، مشكلته هي مشكلة حضارته التي غابت وتركت له شخصية مهزوزة ومهزومة أمام تحديات المستكبرين الطامعين فيه، وهذا هو الإطار الذي تنتظم فيه كل أزمات المسلم الجزئية، الفكرية والمعنوية والمادية، فهي ليست مجرد مشكلة سياسية فقط، أو عقيدية فقط، أو اجتماعية فقط، أو أخلاقية فقط، أو اقتصادية فقط… إنها كل ذلك معًا، إنها مشكلة حضارته، “وعليه فكل تفكير في مشكلة الإنسان بالنسبة إلى حظه في الحياة، هو في أساسه تفكير في مشكلة الحضارة” (مالك بن نبي، تأملات، ص 118).
ومن هنا انطلق مالك بن نبي بمشروعه الحضاري الذي ظل يُنَظِّر له ويفسره حتى وفاته، فهو لم يفقد الأمل أبدًا، بل وفتح الباب على مصراعيه أمام الساعين إلى التخلص من وهنهم، حين طرح مفهومه “الدورة الحضارية” الذي خلص فيه إلى أن دورة الحضارة قابلة للتكرار دوما إذا ما توافرت الشروط الأولى التي أنتجتها، عكس ما قرره أستاذه ابن خلدون من أن الحضارة إذا زالت لا تعود، فأصر مالك على أن الله لا يغلق باب التوبة والأوبة حتى فيما يتعلق بالأمم والحضارات، مؤكدًا على أن الحضارة الإسلامية يمكن لها أن تنطلق من جديد لتقود الإنسانية إلى النجاة من الانهيار –الأخلاقي والمادي- الذي يتهددها بالفناء، حتى وإن كانت قد تحللت، ما دامت ستستعيد الروح نفسها التي شيدت الحضارة من قبل على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وللحديث بقية.
(ينشر بالتعاون مع موقع الباحث عن الحقيقة).