لكل مجتمع من مجتمعات الأرض خصائصه التي يتميَّزُ بها عن غيرِهِ من المجتمعات، وللمجتمع الإسلامي خصائص نادرة لا تُوجَدُ في مجتمع غيره، ونعني بالمجتمع الإسلامي المجتمع الذي يريد اللهُ أن يكون عليه الناس، ذلك المجتمع الذي يحمل القيم العليا التي غابت في كثير من أرجاء الأرض اليوم، ولا نقصد بذلك ما عليه المجتمع اليوم من الانحراف عن منهج الله، وإذا وجدت بعض الخصائص الحسنة في مجتمعنا الإسلاميِّ اليوم فإنما هي قليلة بالنسبة لما ينبغي أنْ يكونَ عليه المجتمعُ. وما تقوم به الصحوةُ الإسلاميَّةُ المباركة اليوم عن طريق دُعاتها وعلمائها ما هو إلا بداية انطلاقة للوصول إلى ذلك المجتمع الصالح.
إن أعظم فرق بين المجتمع الإسلامي ومجتمعات الأرض الأخرى أن المجتمع الإسلامي يستمدُّ تصوره ومنهجه من السماء، عن طريق الوحي الذي نزل على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- والذي تكفَّلَ الله بحفظِهِ إلى قيام الساعة، فإذا ما اتضح لنا هذا الأمرُ تبين لنا الفرقُ الهائل بينه وبين مجتمعات الأرض الأُخرى التي تستمدُّ تصورها للكون والحياة وقوانينها التي تحكم أمور حياتها من العقل البشريِّ الضعيفِ، الذي لا يعرف ما يدور حوله من عالم الغيب، وما يحويه عالم الشهادة من الأسرار التي تجهلها تلك العقولُ القاصرة عن تحقيق مصالحها بنفسها، إن الذي خلق هذا الكون الفسيح هو الذي يعلم ما يجري فيه، أفلا يستحق ربنا الخالق الكريم أن يوجِّه الخلق إلى ما يصلح حياتهم ليعيشوا في مجتمعات يملؤها الرضا التام من قبل السماء؟! {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} (الملك: 14).
إن البشرية يوم أن انحرفت عن منهج الله أصابها البلاء والعذاب الشديد.. هذا من حيث انحراف أمم الأرض غير المسلمة، أما المسلمون على وجه الخصوص فقد وصلوا إلى دركات من الانحطاط لم يبلغها من قبلهم ممن فرطوا في خصائص مجتمعهم.
وما يجب أن تسعى إليه أمة الإسلام اليوم عن طريق علمائها ودعاتها ومفكريها ومثقفيها هو البلوغ بهذه المجتمعات الممزقة التي أهلكتها العادات المخالفة للدين والشهوات المفرطة، والأخلاق السيئة، إلى درجات عليا من درجات الخير والصلاح؛ حتى تكون مهيأة لقيادة الأرض، ويتم ذلك من خلال غرس مبادئ وخصائص المجتمع الإسلامي، عن طريق الكلمة المؤثرة والقدوة الحسنة، والكتاب النافع، والمقالة الهادفة، والأعمال الحسنة..
إن خصائص المجتمع الإسلامي عديدة، ولسوف نذكر منها ما يسمح المقام بذكره، فمن ذلك:
1. مجتمع موحِّد (بكسر الحاء المهملة): إن أعظم خُصُوصية للمجتمع الإسلاميِّ هي التوحيد، فذلك المجتمع يعتقد أن الخالق والرازق والمدبر هو الله، فهو المستحق للعبادة والخضوع والذل والخشوع بين يديه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} سورة الأنعام: 102، فهو ليس كباقي أمم ومجتمعات الأرض الذين تفرَّقُوا وضلُّوا عن ربهم الواحد، فاعتقد كلُّ فريق منهم أن له رباً له صفات معينة، فمنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد الشمس والقمر، ومنهم من يعبد الحيوانات والبقر، ومنهم من يعبد الحشرات والقذر! فما أعظم المجتمع المسلم حينما يتخذ منهجاً يرضى عنه به ربُّ السماء الذي خلق الشجر والحجر والشمس والقمر وكل موجود، ما أعقل هذا المجتمع وقد دله عقله وشرع نبيه على عبادة رب واحد حكيم!. والمتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يقرر هذه الحقيقة في أكثر آياته فيقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف: 54-55)؛ فدعاء الله والتضرع بين يديه وترك الالتجاء إلى من دونه هو التوحيد وهو أساس العبادة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الدعاء هو العبادة” (رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه) فتحقيق التوحيد أهم خصائص المجتمع الإسلامي.
2. مجتمع موحَّد (بفتح الحاء المهملة): ونعني بهذا أن هذا المجتمع الإسلاميَّ تربطه رابطةٌ واحدةٌ هي رابطةُ الإسلام الحقِّ الذي نزل على محمد-صلى الله عليه وسلم-، وعلى هذا الأساس يكون الترابطُ في المجتمع، وقد حذَّر الله من التفرق والتمزق داخل هذا الكيان الواحد فقال -تعالى-: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 31-32)، وأمر الجماعة المسلمة في المجتمع المسلم أن يعتصموا بحبل الله الذي هو القرآن والسنة وما فيهما من الأحكام والأوامر، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103)، وفي هذه الآية يمتنُّ الله على المجتمع الإسلامي الواحد بأنه ألَّف بين قلوبهم، وله يرجع الفضل في ذلك، وقال في آية أخرى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63).. والآيات والأحاديث التي تأمر بالوحدة وتنهى عن التفرق كثيرة جداً.
ومن مظاهر الوحدة في المجتمع المسلم:
وحدة الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وتوجه إلى قبلة واحدة.. إلخ.
ووحدة الهدف وهو بلوغ رضوان الله تعالى.
ووحدة في المعاملات التي أمر الله بالقيام بها.
ووحدة في الأوطان؛ فكل بلد ذُكر فيه الله ورُفعت فيه راية “لا إله إلا الله” فهو بلد المسلم أيا كان، في حين أننا نجد مجتمعات الأرض الأخرى لا تربطهم غالباً سوى رابطة الدول التي يعيشون فيها، فإذا ما رأى الإنسان حالهم وتمزقهم وقتل بعضهم بعضاً على أتفه الأمور لوجد العجب العُجَاب! وهذا التمزق والتفرق موجود في مجتمعات المسلمين اليوم، بل أصبح ظاهرة خطيرة تأكل الأخضر واليابس، لكنه لا يعني أن ذلك المجتمع هو المجتمع الإسلامي الذي نقصده، بل المقصود ذلك المجتمع الذي يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، وقد وُجد هذا المجتمع في عصور سابقة, وتحققت فيه كثيرٌ من معاني الإسلام العظيمة، وسيعود ذلك المجتمعُ من جديد –بقدرة الله- ثم بسعي المخلصين من أبناء هذه الأمة.
3. مجتمع مُتعاون مُتراحم:
لم يعرف التاريخُ مجتمعاً مُتعاوناً مُتراحماً كالمجتمع الإسلاميِّ في عُصُورِهِ الزَّاهية، عصور الصحابة والتابعين، وتحقق هذا في عصور لاحقة في بعض بلدان الإسلام وإلى اليوم لا تزال كثير من المجتمعات الإسلامية -بحمد الله- ترحم الصغير، وتكفل المسكين واليتيم، وتقوم على أعمال البر والخير المختلفة، والمجتمع إذ يقوم على ذلك الأساس فإنما يعمل بتوجيه الله له، كما في قوله -سبحانه-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2).
ومن مظاهر هذا التعاون والتراحم:
تقدير الكبار واحترامهم وإكرامهم: وقد بين النبي-صلى الله عليه وسلم- أن من لم يرحم الصغير ويحترم الكبير فهو شاذ عن هذا المجتمع ويُعتبر عضواً فاسداً لا يصلح أن يعيش في هذا المجتمع المتراحم, فقال: “ليسَ منَّا مَن لم يرحم صغيرنا ويوقِّر كبيرنا” (رواه أحمد والترمذي, وصححه الألباني).
مساعدة المحتاج وتنفيس الكرب عنه: بالدَّين والقرض والسلم والهدية والصدقة والرهن والحوالة وما أشبه ذلك من صور المساعدة التي ترفع الهم والغم عن المكروب، وقد حث رسولُ الله على التعاون والتراحم، فقال: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة” (رواه مسلم وغيره).
4. مجتمع عفيف طاهر: لم يتمرَّغ في أوحال الدنس والقذارة الأخلاقية، فالتلطخ بالفواحش والمفاخرة والمجاهرة بذلك ليست من سمات ذلك المجتمع، وقد جعل الله -تعالى- زواجر وروادع للحيلولة بين المجتمع وبين تلك الفواحش؛ ليبقى المجتمع عفيفاً نظيفاً من كل مظاهر الفاحشة وما يؤدي إليها، فجعل حداً لمن لطخ سمعة نفسه وسمعة المجتمع الطاهرة؛ بأن حكم عليه إن زنى وهو محصن بالرجم حتى الموت، وإن كان بكراً بالجلد مائة جلدة، وما ذلك إلا لترتدع النفوس عن تدنيس الأفراد والمجتمعات.. أين هذا الطهر والتطهير والعفاف من المجتمعات الكافرة اليوم التي امتلأت بأولاد الزنى؟! وأين هذا من المجتمعات التي أصبحت تفاخر وتجاهر بالفاحشة على مستوى العالم! لقد كانت النتيجة بالنسبة لهم مؤلمة وخطيرة، فالأمراض القاتلة تلاحقهم، وشبح الموت لا يفارقهم.
والمجتمع المسلم يبتعد عن الأسباب التي تدنسه، كالنظر إلى النساء الأجنبيات الذي يعد من وسائل الفاحشة، ومن ذلك سماع الغناء الماجن، والاختلاط بين الرجال والنساء في أي مكان كان، وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى انهيار المجتمعات.
إن هذه الصفات التي ذكرت وغيرها امتثلها واتصف بها مجتمع الرسول الكريم، ذلك المجتمع الذي يُعدُّ مقياساً لنجاح كلِّ مَنْ أراد الإصلاح في الأرض، فهو المجتمع الذي حقق المُثُلَ العُليا التي تسعى الصحوةُ الإسلامية اليوم لإعادتها إلى المجتمعات التي عزفت عنها قروناً من الزمن، وإن وجدت في بعضها فليس ذلك الوجود ظاهرة اجتماعية لكل مجتمعات المسلمين اليوم، بل قد توجد تلك الصفات في بيئات نادرة أو أفراد مستقيمين، أو بيوت عامرة بالصلاح والخير يمثل البيت كثيراً من تلك الصفات، أما الناظر إلى حال المسلمين اليوم فسيجد التفريط الواضح في خصائص دينهم، وتشبه بعضهم بالمجتمعات الغربية الكافرة، مما أدى إلى الانفصام النكد بين الأمة ودينها، وقد عانت الأمة من هذا الانفصام على مدى عقود من الزمن، ذلك الانفصام كانت له نتائجه السيئة التي عانى منها ولا يزال يعاني منها المجتمع الإسلامي في كل مكان..
لقد كان من النتائج السيئة التي عانى ويعاني منها المسلمون -بسبب تنصلهم من تلك الخصائص- الذلة والمهانة وتسلط الأعداء، والتبعية المفرطة لأنظمة الغرب وأفكاره، وبعض مظاهر حياته التي تخصه، والتنكر لثوابت الدين، ورمي الماضي بالتخلف والجمود، والسخرية بشعائر الدين وسننه فضلاً عن القيام بها والاستقامة عليها، وغير ذلك..
لكننا نسأل الله العلي الكبير أن يهيئ لنا مجتمعات صالحة مصلحة، تعبد الله على علم وبصيرة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتأخذ على يد الظالم وتنصر المظلوم، وتعلي راية الإسلام..
ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين..
——-
المصدر: موقع إمام المسجد.