خالد رُوشه
الداعية إلى الله طبيب للقلوب، يعرف الأمراض، ويشخصها، ويصف الدواء لهم..
ولا شك أن للقلوب أمراضا مختلفة، وأن نوع الدواء سيختلف باختلافها، وأنه لا يمكن لدواء واحد أن يكون علاجا واحدا لكل مرض..
وقلوب الناس عادة تستكين مع المعالج الصادق النقي التقي، الذي طالت خبرته، وعمقت دراسته، وزاد اهتمامه بها، فبحث لها عن أساليب مختلفة لعلاجها، حتى وصل معها لأفضل حال.
والناس عادة مختلفون، في أفكارهم، وثقافتهم، وبيئتهم، وعاداتهم، وقدرتهم على تشرب الأفكار.
ولا يمكن بحال أن يهمل الداعية إلى الله هذه الاختلافات والتباينات، فيختزل أسلوبه الدعوي في لون واحد مكرور معروف، وقد تمله الأسماع، وترفضه النفوس، وتسأم منه الطباع.
لقد كان صلى الله عليه وسلم -وهو معلم البشرية جمعاء- ينوع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس بل ويأمر أتباعه من الدعاة إلى الله بمخاطبة الناس على قدر عقولهم، وكان يضبط ذاك الخطاب بضابط الحكمة، ويفعله بما يناسب ظروف وأحوال المخاطبين..
ولعلنا نلحظ أن الأسلوب الغالب على كثير من المتحدثين وناقلي الرسالة الإسلامية للناس سواء على المنابر أو في المحاضرات أو في البرامج المختلفة، هو أسلوب الوعظ والتذكير.
ولا شك أن للوعظ مكانا مؤثرا في قلوب السامعين، كما أن للتذكير أثره الجميل في تنبيه النفوس وإيقاظها، لكن المشكلة ههنا أن يعتمد هذا الأسلوب في شتى مجالات الحديث الدعوي.
إنني أتفهم أن يعظ المتحدث الناس بشأن الموت أو تكاثر المعاصي عليهم وتسويف التوبة، أو ما شابه ذلك، لكنني أستغرب من استعمال آخر للوعظ وهو يتكلم عن موضوع مثل عرض منهج دعوي ما أو بيان قانون إسلامي ما، أو عرض قضية تحتاج إلى إعمال عقل وفهم وتدبر.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه من عظيم تأثير في قلوب الناس بوعظه، كان لا يكثر على أصحابه منه، فنرى عبد الله بن مسعود كما أخرجه البخاري يقول : “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا”، ولذلك فقد راعى الصحابي الجليل بنفسه ذلك فكان يعد ذلك سببا لقلة تذكيره للناس ووعظه لهم فيقول “إني أخبر بمكانكم فما يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهية أن أُملكم” كما في الصحيحين.
الأمر الآخر ههنا.. أن كثيرا من هؤلاء الوعاظ يحسبون أن الوعظ لا يكون إلا برفع الصوت وإظهار الغضب، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته وهو ثابت في صحيح مسلم، نعم وحقا وصدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وفعله، لكن لا شك أن هذا إنما كان فيما يناسب رفع الصوت فيه واحمرار العين فيه واشتداد الغضب فيه من المواقف والموضوعات وفيما يناسب ذلك من أماكن تجمع الناس وكثرتهم، وظروف سماعهم، وغير ذلك مما يناسبه الموقف والخطاب، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحكم الناس وأرحم الناس وأعلم الناس.
إنني كثيرا ما أتابع من العلماء والدعاة، من يخاطبون الناس بهدوء بالغ، لكنني أستشعر منهم سكينة مباركة، وإقناعا فائقا للمستمعين، يفوق تأثير كثير من الصائحين أضعافا مضاعفة.
بل إن كثيرا من الناس يعتبرون أساليب الخطابة، وإن كانت مناسبة للحث والدفع والمبادرة، فهي قليلة التأثير فيما يخص التدريس والتفهيم، بل هي أساليب تعبوية للتذكير وإيقاظ النفوس ودفعها نحو عمل ما.
التربويون يعتبرون التأثير الخطابي تأثيرا مؤقتا غير دائم، وكم نرى المصلين في أيام الجمعة يخرجون إلى بيوتهم وأسواقهم بعدما يكونون قد استمعوا لخطبة عصماء، بكت منها عيونهم، لكنهم يعودون إلى معاشهم وقد نسي كثير منهم غالبها.
لست ههنا أقلل أبدا من الأسلوب التأثيري الرقائقي الوعظي، فإن له آثارا إيجابية كثيرة، وكم أيقظ من قلوب غافلة، لكنني أسعى نحو حسن توظيفه، وحسن الاستفادة منه، وهو ما اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، في كثير من المواقف.
إن خطاب العقل يختلف عن خطاب العاطفة، والخبير هو الذي يستطيع أن يمزج بينهما مزجا ناجحا، فيوظف كلا في مكانه ووقته ومناسبته، فيصل إلى أفضل درجات التأثير.
إنك ترى خصوم الإسلام وأعداء الدعوة الإسلامية، يدأبون ليل نهار على الطعن في الثوابت، ويسعون لزحزحة الناس عن قيمهم الإيمانية، وترى كيف يخاطبونهم خطابا يمس عقولهم، ويؤثر في قلوبهم، ويستعينون في سبيل ذلك بأساليب علمية وبحثية مختلفة، لبث قناعاتهم المنحرفة، فيحرصون على مضمون الخطاب قبل أسلوبه، ثم يهتمون بأسلوب العرض، ومناسبة ذلك، ويدرسون نوعية المخاطب، وربما أداروا حلقات نقاش حول موضوع ما ليبرروا رؤاهم الخسيسة ويمرروا أفكارهم الخبيثة، وللأسف فإن بعض أساليبهم قد وجدت آذانا من بين أبناء الإسلام.
إن واجبا علينا أن نكون على مستوى هذه الحرب الضروس، حرب الأفكار، والقيم والثقافات، التي نتعرض لها عالميا، ويتعرض لها ديننا وقيمنا ومبادئنا، ولن يكون ذلك إلا بتقويم ومتابعة لأساليبنا وطرقنا ووسائلنا المختلفة، وبما لا يمس ثوابتنا المباركة.
—————————–
المصدر: موقع المسلم.