مخطئ من يظن أن دين الإسلام أتى لقوم دون قوم، أو لبلد دون أخرى، أو لفئة من البشر دون سائر الخليقة، والصواب الذي ينبغي أن يعلمه القاصي والداني، العربي والأعجمي، الأبيض والأسود أن قواعد الإسلام وأسسه جاءت لتبين للناس كافة المقاصد العليا من خلقهم، وأنه على الرغم من اختلاف العقائد التي أعطى الإسلام لكل إنسان حريته فيها، وفي نفس الوقت حمّله تبعات اختياره.. فإن الإسلام شجع الخلق على التعايش والتعارف في نطاق المساحات المشتركة بينهم، أعني بذلك مساحة الالتقاء الإنساني الذي يغلب عليه طابع المنافع المتبادلة والمصالح المشتركة.
ونظرة تحليلية في آيات القرآن الكريم التي تتعلق بهذا الشأن، وكذلك ما أعلنه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع.. تجعلك تعلم علم اليقين أن هذا الدين الإسلامي له الكثير من القوة والقدرة في التوجيه بنصوصه القاطعة- التي هي وحي من الله تعالى- نحو صلاح البشرية بأسرها، وتعايشها السلمي بعيدًا عن الهمجية التي نراها شرقًا وغربًا، وبعيدًا عن العنصرية التي ربما قتلت شعوبًا بكاملها بسبب ديانتها أو لونها أو جنسها.
ولقد خاطب الله رب العالمين البشر جميعا بقوله تعالى: {يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} (الحجرات: 13)، هذه الآية خاطب بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس في فتح مكة، والملاحظ في النداء {يأيها الناس} أنه لم يخص به المسلمين أو العرب، ألا يعطينا ذلك مؤشرًا للتعايش الإنساني؟ والذي يطلع على خطبة حجة الوداع يلاحظ تكرار النداء من نبي الإنسانية -صلى الله عليه وسلم- ، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر فقال: “يأيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، فأعادها مرارًا ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟». قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: فو الذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته، «فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض”.
إن الدين الإسلامي تفرد بحرمة الاعتداء بغير وجه حق على أي أحد من الناس، قال الله تعالى: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (البقرة : 190)، إلا إذا صدر الاعتداء من الآخر فينبغي على المسلمين أن يردوا هذا الاعتداء: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 194)، كذلك من قمة سماحة الإسلام وحسن تعامله مع الناس جميعا أنه أمر بأداء الأمانات والحقوق، وإقامة العدل، ولو على المسلمين أنفسهم، قال الله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} (المائدة: 8).
ومن أسمى تعاليم النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع ما رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني عن فضالة بن عبيد “رضي الله عنه” قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: «ألا أخبركم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب»، وهذه تعريفات جديدة ما كانت تخطر ببال الصحابة الأطهار قبل ذلك، وخلاصتها والهدف منها الحفاظ على المجتمع بما فيه ومن فيه، ولأن الإيمان أعلى رتبة من مرتبة الإسلام، فإن الذي اتصف بهذا الوصف جدير بأن يكون أمينًا مؤتمنًا على كل من حوله، فهو للحق نصير وظهير، أينما وجد هذا الحق، ولأي فرد يكون، وتأمل جيدًا قوله -صلى الله عليه وسلم- : «من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم»، فهل بعد هذا التعريف للمؤمن يتهم الإسلام بأنه دين يحب سفك الدماء وسلب الأموال وانتهاك الأعراض؟ لاشك أن الذي يصرح بذلك في قلبه مرض عضال تجاه الدين الإسلامي، ولا هدف له إلا بث الكراهية وإشاعتها تجاه الإسلام وأتباعه.
إنك لو نظرت بعين التدبر، وقلب حاضر، وفكر سديد، إلى ما قاله المنصفون من كتاب الغرب عن الإسلام وأهله لتأكد لديك أن الافتراء على الإسلام بين واضح، يقول «الكونت هنري دي كاستري» في كتابه «الإسلام»: «كان اليهود في الأندلس قبل الفتح الإسلامي يرزحون تحت عسف القوط، وظلوا على ذلك زمنًا طويلًا إلى أن دخل المسلمون الأندلس، فخلصوهم من هذا الاضطهاد وسمحوا لهم بحرية التجارة التي كانت محظورة عليهم من قبل، وأباحوا لهم أن يمتلكوا بعد أن كانت الملكية محرمة عليهم، ولهذا نهضوا واشتهر كثير منهم بالعلم والأدب بعد أن استنشقوا نسيم الحرية» (الكونت هنري دي كاستري: «الإسلام»: صـــ42، وانظر كتاب «سماحة الإسلام» للدكتور: أحمد محمد الحوفي صـ 82، الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة سنة 1997.).
وقال السير «توماس أرنولد» في كتابه «الدعوة إلى الإسلام»: «لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وأن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح» (توماس أرنولد: «الدعوة إلى الإسلام» صـ 51، وانظر المرجع السابق ص83).
فانظر إلى هذا التباين بين ما يدعيه بعض كتاب الغرب ومفكريه، وبين هذه الشهادة من المنصفين من الغربيين أنفسهم!!
وقد ينسب الغرب لنفسه أنه حمى حقوق الإنسان وحافظ عليها، وأصدر القرارات وسن اللوائح، وأنشأ المؤسسات المعنية بذلك، إلا أننا نقول له: إن نبي الإسلام محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نصح أمته، وهو أقرب إلى توديع الدنيا، بحسن التعامل مع الناس جميعًا، وصيانة الأموال والأعراض والدماء، وتحريم الظلم والبغي والعدوان، بل إن المتدبر لسيرته الشريفة يلمس وفاءه مع العدو قبل الولي، ولعل موقف أبي جندل وأبي بصير- رضي الله عنهما- يوم الحديبية أبلغ شاهد على ذلك، حين ردهما ورفض قبولهما في صفوف المسلمين، تنفيذًا للعهد والوعد الذي وافق على بنوده ووقع عليه بخاتمه.
والذي قرأ التاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية علم أن هذه الفتوحات لم يكن هدفها إراقة الدماء، أو إذلال الناس وإرغامهم على اعتناق الإسلام، ولم يكن هدفها التدمير والتخريب، وإنما كان هدفها منح الناس حريتهم في اختيار ما يشاءون دون إكراه من أحد، حيث كان الطغاة يرغمون الناس على موالاتهم، لدرجة وصلت إلى تقديسهم وعبادتهم، ألم يقل فرعون: {أنا ربكم الأعلى}، {ما علمت لكم من إله غيري}؟
فأعطى الإسلام تلك الحرية للناس، والدليل على ذلك أن البلاد التي تم فتحها على أيدي المسلمين لم يدخل أصحابها جميعا في الإسلام، بل كان الأمر اختياريًّا لهم، ولقد كان القادة يحثون جنودهم على حسن معاملة الناس، وكان ذلك قبل فتح أي بلد من البلدان، فقد روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة أنه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرًا ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا شيخًا، ولا امرأة..»، هذه هي أخلاق المسلمين في ميدان القتال.
والفرق شاسع والبون واسع بين هذه الأخلاق وما نراه من انحطاط وظلم وبغي وعدوان، مما يحدث في بقاع شتى من العالم، خاصة ما يحدث ضد المسلمين، والذي يتابع أحداث بورما وميانمار وكشمير وأفغانستان والشيشان وفلسطين، ومن قبل البوسنة وكوسوفو والصومال، يتأكد لديه أن ادعاءات الغرب حماية حقوق الإنسان إنما هي وهم وخداع، فالمسلم عندهم خرج من الإنسانية حتى أصبح إنقاذ الحيوان عندهم أهم وأولى من إنقاذ المسلم، فهذه سمكة من نوع نادر جنحت إلى شاطئ في الصين قامت إليها القوات البحرية وأعادتها إلى مياه المحيط، وإن زوجين من الأرانب حاصرتهما الثلوج في إحدى دول أوروبا تأتي إليهما فرقة من العمليات الخاصة لإنقاذهما، أما إبادة شعوب مسلمة بكاملها لا يتحرك لها ساكن عندهم، فهي مسألة فيها نظر وبحث، وربما عدموا وعموا فلا نظر لديهم.
إن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- بين في خطبة حجة الوداع أنه مكاثر بنا الأمم، فبأي شيء يكاثر؟ هل يكاثر بالعدد المجرد؟ أم يكاثر بالأخلاق العالية التي تجعل الرجل بألف، والرجل بأمة كاملة؟
إن أخلاق المسلم العالية تجعله لا يظلم، بل يحترم حقوق الآخرين، يعطي كل ذي حق حقه، يفي بالعهد والوعد، روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن مرة “رضي الله عنه” قال: حدثني رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قام فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- على ناقة حمراء مخضرمة فقال: «أتدرون أي يوم هذا؟ «قلنا: يوم النحر .. »، وذكر الحديث وفيه: «ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تسودوا وجهي، ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني، وستسألون عني، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني مستنقِذ رجالًا أو أناسًا، ومستنقَذ مني آخرون، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (مسند الإمام أحمد ج 5 صـ 412، وقال محققوه: إسناده صحيح، وهو في سنن ابن ماجة برقم 3075 من حديث عبد الله بن مسعود “رضي الله عنه” وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم 2499).
إن الإسلام حرم الاعتداء على الآخر بغير وجه حق، فما بالك بحق المسلم على أخيه، فقد روى ابن ماجة في سننه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يطوف بالكعبة وهو يقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به خيرًا»، فأين نحن من هذا القول؟ وأين المسلمون الذين يظلمون ويبغون ويقتل بعضهم بعضا في همجية تفوق همجية الأنعام المستثارة؟!
ونرجع فنقول: إذا كانت خطبة حجة الوداع تمثل أنموذجًا فريدًا للتعايش الإنساني وحماية حقوقه، فإنه ينبغي على الغرب أن يعي بحق ما معنى حقوق الإنسان؟ وكيف يحافظ ويحمي تلك الحقوق في إطار من المساواة وعدم الكيل بمكيالين، أم أن الغرب يحمي حق من يريد السباب والشتم والإساءة إلى الله ورسوله فقط بدعوى حرية الفكر؟!
إن الغرب يحتاج إلى وقفة مع النفس ليعيد حساباته عن تلك الحقوق التي أسس الإسلام لها منذ بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- .
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي الكويتية.