القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

خلافاتنا المستمرة تعصف بمشاريعنا الدعوية

الاستشارة:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أود أن أعرض لكم ما أواجه من صعوبات في طريق الدعوة إلى الله وأثق بأني سأجد بإذن الله من يرشدني إلى الصواب.

أنا فتاة تخرجت في الكلية، ومارست العمل الدعوي مع مؤسسة في البداية، لكن حدثت لي مشاكل، فرأيت من الحكمة أن أبتعد قليلا حتى تهدأ الأمور، وكما قالت إحدى الأخوات فالداعية كالسمكة إذا فقد الوسط الدعوي يفقد ماءه الذي هو أساس حياته، فحاولت الرجوع للعمل الدعوي، ولكن هذه المرة مع مجموعة من الأخوات يجمعنا حب هذا الدين، ومنَّ الله علي أن أكون المحرك لهذه المجموعة، لكن واجهتني صعوبات في العمل، وهي أننا نبدأ في عمل ثم ننقطع (في بعض المشاريع)، لنا اجتماع شهري نضع مخططات للأعمال الدعوية، والآن أصبح لهموم الدنيا أو للانتقادات الجارحة، أمتثل قول الله عز وجل: {فبما رحمة من الله لنت لهم}، لكن نفسي تطاوعني مرة وأنهزم أمامها مرات.

أعمالنا توسعت نوعا ما، وأصبحت هناك وجوه جديدة تحضر اجتماعاتنا (وأخشى أن تتأثر بما يحدث بيننا من الانتقادات).

أفكر أحيانا أن أوسع العمل مع مجموعات أخرى جديدة؛ لأنني أشعر أنني وصلت لطريق مسدود مع المجموعات السابقة. لكن يؤلمني أن هذه المجموعة مبدعة ومميزة في الأعمال الدعوية، أحبهم وألتمس العذر لهم لكن أحيانا يطفح الكيل، لا أعرف ماذا أفعل؟

الرد:

يقول د. رمضان فوزي بديني:

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وأهلا وسهلا بك أختي الكريمة وأسأل الله تعالى أن يجعلنا أهلا للالتحاق بركب الدعاة إلى الله تعالى، وأن يرزقنا الإخلاص في النية والبركة في العمل والسداد في القول.

بداية أختي، هيا بنا بداية نتصارح بأن العمل الجماعي التنظيمي رغم أنه ضرورة لا تنكر في الساحة الدعوية؛ فإنه لا يخلو من بعض الأمور والهنات التي قد يكون لها تأثيرها على الفرد والدعوة.

فما معنى أن يصل الداعية إلى حالة يفكر فيها أن يترك الدعوة ويبتعد عنها، رغم إيمانه بفرضية الدعوة الشرعية وضرورتها الاجتماعية؟!

وما معنى أن يجتمع قوم على طاعة الله والتنسيق للدعوة إليه وتبليغ مهمة الرسل؛ فتتحول لقاءاتهم إلى انتقادات جارحة؟!

لا بد أن ندرك أن الدعوة إلى الله حب؛ فالحب هو الركن الركين الذي تجتمع عليه قلوب الدعاة وتتلاقى عليه أرواحهم؛ فإذا فُقد هذا الركن أصبحت هذه الدعوة وظيفة روتينية تفقد ما يملؤها من حرارة الوحي وروح السماء؛ فتتحول إلى عمل أرضي هش سرعان ما تتنازعه أعاصير الاختلاف ورياح الانتقادات الجارحة!!.

معالم الاستشارة

أختي تعالي نحدد معالم مشكلتك ومراحلها على النحو التالي:

  • مارست الدعوة بعد تخرجك مع مؤسسة دعوية ثم حدثت بعض المشاكل فرأيت أنه من الحكمة أن تبتعدي قليلا.
  • لم تستطيعي تحمل البعد عن الدعوة فبدأت مع مجموعة أخرى من الأخوات اللاتي يجمعك بهن حب هذا الدين والعمل له، وكنت أنت المحرك الفعلي لهن.
  • ظهرت بعض المشاكل مع المجموعة الجديدة مثل الانقطاع عن بعض الأعمال، وواجهتكم مصاعب في اللقاء بسبب هموم الأمة أو الانتقادات الجارحة.
  • أعمالكم توسعت ودخلت معكم وجوه جديدة، وتخشين أن يتأثروا بما يحدث بينكم من انتقادات.
  • تشعرين بأنك وصلت لطريق مسدود مع هذه المجموعة وتفكرين في توسيع العمل مع مجموعات أخرى، ولكن يؤلمك أن المجموعة التي معك أصبحت مبدعة ومتميزة.

وبإعادة النظر في معالم استشارتك نجد بعض التناقضات الواضحة التي تحتاج منك إلى التوقف وإعادة النظر في موقفك من هؤلاء الأخوات؛ فكيف تكنَّ قد جمعكن حب هذا الدين والعمل له، ثم تصلن إلى طريق مسدود بسبب التناقش في أمور الدعوة؟!

ثم كيف تكونين قد وصلت بهؤلاء الأخوات إلى أن يصبحن مبدعات ومتميزات وتفكرين أن تتركيهن لمجرد الخلاف في وجهات النظر؟!

أدواء دعوية

أختاه إن من الأدواء التي يقع فيها بعض الدعاة أنه يريد ممن معه في الحقل الدعوي أن يكونوا نسخة منه! فيأتمرون بأمره هو فقط وينتهون بنهيه! وإن حدث أن أعمل بعضهم عقله وذاتيته التفكيرية الخاصة فإنه يعرض نفسه للاتهام بالتمرد والخروج على قواعد الدعوة!

اسمحي لي أن أكون أكثر صراحة معك وأخبرك بتخوفي أن تكوني من هذه النوعية من الدعاة؛ فأنت مررت بالعمل مع أكثر من مجموعة دعوية وكانت تواجهك نفس المشاكل تقريبا في كل مرة، وتريدين أن تجربي العمل مع مجموعة أخرى، رغم أنك المحرك الفعلي لهذه المجموعة، وإزاء هذا الأمر فإنني أرى أن موقفك واحد من اثنين:

أولهما أن تكون نظرتك مثالية أكثر من اللازم للأخوات؛ فأي خطأ أو سوء تفاهم منهن ترينه بمجهر مكبر وتعدينه جرما لا يغتفر.

الأمر الآخر أن المشكلة فيك أنت دون أن تشعري؛ فأنت القاسم المشترك بين هذه المجموعات مع وجود المشكلات نفسها.

وفي كلتا الحالتين فالأمر يحتاج منك إلى أن تقفي مع نفسك، وتحددي موضع الداء حتى يسهل عليك تناول الدواء المناسب؛ فإذا كانت المشكلة في نظرتك المثالية للأمور فحاولي تغييرها، واعلمي أنك تتعاملين مع بشر وأن كل البشر معرضون للخطأ وسوء التفاهم، وحاولي في هذه الحالة أن تتقبلي أخواتك بهفواتهن وليكن همك هو تقويم هذه الأمور وتوجيهها لما فيه خير الدعوة، ولا تنسي أيضا أن ما ترينه أنت خطأ ربما يكون أمرا عاديا ومقبولا ولكنك تحملين الأمور ما لا تطيق.

وإذا كانت المشكلة فيك أنت بأنك كنت السبب في هذه المشكلات فعليك التعرف على أخطائك بنفسك عن طريق رصد أسباب هذه المشكلات ودورك فيها ومحاولة علاجها، ويمكن الاستعانة بمن تثقين فيها من أخواتك بأن تدلك على هذه العيوب؛ فغالبا لا نرى الخطأ من أنفسنا كما يراه الآخرون فينا.

أختي أرجو أن تعذريني إن كنت قسوت عليك وحملتك من الأمر الكثير؛ ذلك لما رأيته منك من همة ورغبة في الإصلاح، وأنا لا أنفي الخطأ عن الآخرين إن كان هناك خطأ أصلا؛ فمن الطبيعي أن الناس مختلفون والشخصيات متباينة ووجهات النظر متنوعة، وأرى أن هذا شيء إيجابي وليس كما ترينه أنت تجريحا وانتقادات جارحة، ما دامت تعرض في جو من الحب والإخلاص والتجرد عن حظوظ النفس.

ولنا في رسولنا الكريم –صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام –رضوان الله عليهم- خير مثل وقدوة في الاختلاف وتطبيق مبادئ الشورى بصورتها الصحيحة التي تجعل من التنوع والاختلاف عامل ثراء وبناء.

علاجات نبوية

فالإسلام دين الفطرة والواقعية، راعى الاختلاف وتنوع وجهات النظر فجعل من الشورى علاجا ناجعا وحلا لكثير من المشكلات التي قد تنتج عن ذلك.

فهذا هو الرسول الكريم حينما أراد الخروج لملاقاة الأعداء في غزوة أحد وجد أكثر من وجهة نظر؛ فقوم يريدون الخروج لملاقاة العدو على حدود المدينة وآخرون يرون البقاء في المدينة والتحصن بها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيدا لهذا الرأي، ولكنه رغم أنه المؤيَّد من ربه لجأ إلى الشورى وكانت الشورى في جانب الرأي الآخر؛ فأنفذ الشورى وخرج بالجيش.. هكذا دون انتقادات جارحة أو تغير في القلوب أو تأثير على رصيد الحب الذي يعين على تجاوز كل الخلافات.

ما أحوج الدعاة إلى الرجوع لهذا الهدي النبوي لتلمس العلاج لأدوائهم وإيجاد حلول لمشكلاتهم.

أختي أشد على يديك أن تستمري في رعاية حديقتك الغناء التي شاركت في غرسها حتى بدأت تؤتي أكلها؛ فاصبري على بعض الأشواك التي تقابلك، وثقي أنك تستطيعين التغلب عليها بإذن الله بسلاح الحب في الله والتماس الأعذار واستيعاب وجهات النظر المختلفة؛ فما دامت النفوس متجردة ووجهتها خالصة لله تعالى فليكن اجتماعهم على الحب فيه وتفرقهم على الحب فيه.

أنصحك أختي أن يتوجه اهتمامكم هذه الفترة إلى إصلاح ما بينكن وتقوية روبط الأخوة والحب في الله بينكن، واكتساب مهارات الاختلاف وآدابه؛ حتى لو أدى ذلك إلى توقف بعض الأعمال الدعوية الأخرى؛ فدعوة ناتجة عن خلافات ونفوس متشاحنة ستظهر للناس شائهة شائنة. فكيف تدعون الناس إلى التحاب في الله وأنتن تشكين من الانتقادات الجارحة؟ وكيف تدعون الناس لآداب الاختلاف وأنتن تعانين من ذلك؟!

وفي نهاية حديثي لك أختي ألخص العلاج في بعض الكبسولات السريعة؛ مثل الحب في الله، واتهام النفس والتماس الأعذار للآخرين، والتجرد وإخلاص الوجهة لله، ومراعاة طبيعة النفوس وما فطرها الله عليه من اختلاف وتنوع، والصبر على التعامل معها.

وأسأل الله تعالى أن يرزقنا حسن الفهم والتبليغ عنه، وتابعينا بأخبارك وأخبار أخواتك.

 

وتضيف أ.أسماء سلام:

أختي آسيا، أهلا ومرحبا بك أختا لنا، وأحبك الله الذي أحببتنا من أجله.

أختي ما أجمل الدعوة إلى الله؛ ولأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم، كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وما أجملها عندما تكون على بصيرة، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن}.

وقد عرّفوا البصيرة بأقوال متعددة، أهمها ما قاله الراغب الأصفهاني في المفردات: “يقال لقوة القلب المدركة بصيرة”، وقد عرف البصيرة بأنها “قوة خفية أو ملكة وهبها الله للإنسان لإدراك حقائق الأشياء، أو إدراك الجوانب الخفية من الموضوعات، ولا يأتي ذلك إلا بعد الإحاطة بجميع جوانب الموضوعات”.

واعلمي أن الطريق إلى الله والتقرب إليه لا يخلو من آفات من شأنها أن تفسد الطريق على من سلكه إلا من كان حذرا.

والمشاكل مؤشر لأمرين أولهما أن الطريق صحيح؛ فقد توعد إبليس قائلا: {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}، وأذكرك وأذكر نفسي بأن الجنة حفت بالمكاره، والنار حفت بالشهوات.

والمؤشر الآخر للمشاكل أنها ناقوس خطر يدعو للبحث والتنقيب عن الحلول التي نجدها في القرآن الكريم والسنة المطهرة وأخبار الصحابة الكرام.

أختي الحبيبة أخبرت أنك كنت تعملين مع مجموعة دعوية، وتركتها مكونة مجموعة جديدة، ولم تذكري أسباب تركك للمجموعة السابقة.

وليكن حديثنا الآن عن المجموعة الحالية التي نسأل الله أن يبارك فيها وفي جهودها وأن تستمر مهما واجهت من عقبات.

من أهم النقاط التي لفتت نظري وشدت انتباهي قولك بأنك أصبحت أمام طريق مسدود!! أنصحك ألا تجعلي اليأس يتسلل إليك مدمرا ما تقومين به من أعمال طيبة، وقد تعلمنا من ديننا الحنيف أن مع العسر يسرا، وأن مع الصبر والمصابرة والاجتهاد حل المشاكل العضال.

ولعل سؤالك هذا بداية صحيحة وقد قال الله سبحانه وتعالى مساندا من بدأ في طريق الصلاح: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.

وليكن في تعاملنا مع  سؤالك عينان عين تنظر إليك وعين أخرى تنظر إلى فريق العمل الذي معك.

اعلمي أختي أن ما ينفع من طرق ووسائل للتعامل مع أشخاص ربما لا ينفع مع آخرين؛ فابحثي عن طرق متنوعة لاكتساب قلوب من حولك ليتم العمل مع مجموعة مبدعة ومتحابة؛ فالحب في الله له مداخل كثيرة من أهمها:

  • الابتسام الدائم، وصدق الحبيب -صلى الله عليه وسلم- حين قال: “تبسمك في وجه أخيك صدقة”، ورب ابتسامة كان لها تأثير ألف كلمة.
  • التهادي: فللهدية وقع على النفس؛ فالفرد أسير الاحسان.
  • التواضع: فالتواضع للآخرين ولين الجانب لهم طريق نافذ للقلوب.
  • الاحتواء: فكون رفيقة في طريقة كلمتك؛ حتى يحبك الناس.
  • رد الفضل لأصحابه، والثناء على المحسن؛ فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله، وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- الثناء على أصحابه -رضوان الله عليهم- والتعامل مع المسيء بشيء من الحكمة؛ فكان من هديه –صلى الله عليه وسلم- التعريض بقوله: “مابال أقوام يفعلون كذا وكذا”.
  • البعد عن الحديث الدائم عن النفس والعجب بالأعمال.
  • الأخذ بمبدأ الشورى والتأكيد عليه حتى يكون هناك حرص على الأعمال لأنها نابعة من الجميع.
  • فن الاستماع للآخرين؛ فقد اتُّهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- من المشركين بأنه أذن، ولم يعلموا أنها من أهم صفات القائد والداعي، حتى نزل القرآن {قل أذن خير لكم}، وقديما قالوا: “أنصف أذنيك من فيك”.

مقترحات  للارتقاء بالعمل الجماعي:

1- رفع الجانب الإيماني لديك ولدى مجموعة العمل؛ ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فمن أين تأتي المشاريع الدعوية والقدرة والاستمرارية على تنفيذها دون زاد إيماني يمثل النبع الصافي لهذه المجموعة.

2-دراسة السيرة دراسة كافية لمعرفة مواقف الصحابة ورسولنا الكريم في العمل الجماعي من معاني السمع والطاعة وآداب الخلاف وغيرها.

3- ازرعي التفاؤل والخير في نفوس المجموعة التي تتعاملين معها؛ ففي أصعب لحظات الشدة في غزوة الأحزاب كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبشر بالفتوحات العظيمة.

4- عمل خطة ولتكن سنوية للعمل الدعوي الذي تقومين به أنت والمجموعة، وليكن هناك تفويض في بعض الأعمال ومن يقوم بها، ولا تكن القيادة المطلقة لك حتى يمكن إخراج كوادر قيادية للمجتمع نافعة. فلا ضير أن تتنقل القيادة من شخص لآخر ما دامت الثوابت واضحة وخطة العمل موجودة. وبهذا تشاركك أخواتك في المسئولية وتوجدن حلولا جماعية لمشكلاتكن.

هذه أختي بعض النصائح التي أسأل الله أن ينفعكن بها، ولا تنسينا من صالح دعائك.

مواضيع ذات صلة