القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

دعوة لصنع المعروف

إسلام ويب

كلمات نبوية مباركة ووصية تحوي الكثير من المعاني والإشارات، تلك التي وصى النبي بها أصحابه واتباع دينه، وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا تحقرَنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلِق”.

إماطة الأذى من صنائع المعروف

إنها دعوة لصنع المعروف وفعل الخير مهما قل، فإن العبد يسعى في عظيم المعروف فإن عجز عن كبيره فلا يحتقرن صغيره أن يفعله، فإن عجز فلا أقل من أن يصنع من ابتسامته معروفا يقدمه لمن يخاطبه، أو يتحدث معه، أو يخالطه، أو لكل من حوله.

إن أول ما يتبادر لذهن السامع من هذا الحديث أن يسعى في اكتساب المعروف وصنعه، فهي دعوة لصنع المعروف ابتداءً، أي معروف وكل معروف. فإن “شيئا” هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم فتشمل كل معروف.

فاحرص على فعل المعروف: فإن الأيام تمضي والصالحات تبقى، والآجال تنتهي ولكن الآثار الطيبة باقية، والإنسان يموت وتتوقف أعماله، ولكن ثواب أعمال البر الذي فعله قبل موته ما زالت تتدفق عليه حسناتها إلى يوم القيامة.

اصنع الخير ولا تتوقف عن المعروف؛ ففي يوم القيامة سينبهر أناس من ثواب أعمالهم الكبيرة في الدنيا، بل سيذهلهم ثواب أعمال ظنوها صغيرة لكنها كانت عند الله عظيمة، فأثابهم عليها ثوابا لم يتخيلوه، وجزاهم عليها جزاء لم يتوقعوه.

احرص على فعل الخير فإن الله تعالى لن ينسى خيرا قدمته، ولا هما فرجته، ولا دينا قضيته، ولا عينا كادت أن تبكي هما وحزنا فأسعدتها.

احرص على فعل الخير، ونشر الخير، والتحدث بالخير، ونية الخير؛ فإن هذا دلالة إيمان كما قال عليه الصلاة والسلام: “لا يشبع المؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة”.

احرص على فعل الخير واطرق أبوابه، فإن الله لا يفتح أبواب الخير إلا لمن طرقها (كما يقول الطنطاوي)، فمن أقبل أقبل الله عليه، ومن أعرض أعرض الله عنه.

احرص على فعل الخير وأنت قادر، فربما يأتي وقت لا تقدر عليه:

احرص على عمل المعروف مجتهدا *** فإن ذلك أرجى كل منتظر

 وليس من حالة تبقى كهيئتها *** فاغنم زمان الصفا خوفا من الكدر

وكما قال بعضهم:

إذا هبت رياحــك فاغـتنمها ***  فإن لكــل خافــقـة سكون

 ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فما تدري السكون متى يكون

افعل الخير حيث سنحت فرصة، وعود نفسك عليه ولا تترد، فعمل الخير طبع يكتسب، وعادة تُتعلم، وكما أن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، فهنا كذلك.

لا تحقرن من المعروف شيئا

إياك أن تحتقر شيئا من المعروف وإن قل؛ فمن عجز عن عظيم الخير وكبير المعروف فلا يعجزن عن يسيره، هكذا وصى الرسول عليه الصلاة والسلام، حتى يشيع الخير بين الناس وينتشر المعروف.

لا تحقرن من المعروف شيئا وإن كنت مقصرا، وإن كنت مفرطا، وإن كنت مذنبا، وإن كنت عاصيا. فإن امرأة بغيا سقت كلبا فغفر الله لها. قال عليه الصلاة والسلام: “بينما كلبٌ يطيفُ برَكِيَّةٍ قد كاد يقتلُه العطشُ، إذ رأَتْه بَغِيٌّ من بغايا بني إسرائيلَ. فنزعتْ موقَها، فاستقَتْ له به، فسقَتْه إياه، فغُفِر لها به” (متفق عليه واللفظ لمسلم).

لا تحقرن من المعروف شيئا” وإن كان يسيرا، وإن كان قليلا، وإن كان بسيطا، ولو ريالا، ولو درهما؛ فإن الله يجعله بالقصد الصالح كثيرا. قال عليه الصلاة والسلام: “سبق درهم مائة ألف درهم”.

لا تحقرن من المعروف شيئا ولو رغيفا، ولو لقمة، ولو تمرة، بل ولو شق تمرة. فإن “من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا الطيب وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل” (رواه البخاري)، وقال صلى الله عليه وسلم قال: “فاتقوا النار ولو بشق تمرة”.

لا تحقرن من المعروف شيئا ولو صلاة ركعة، ولو تلاوة آية، فإن رجلا أحب سورة الإخلاص فقال عليه الصلاة والسلام: “حبك إياها أدخلك الجنة”.

لا تحقرن من المعروف شيئا ولو تسبيحة لو كلمة طيبة ولو دعوة، ولو دمعة. “عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله”، “والكلمة الطيبة صدقة”.

لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تزيل من الطريق غصن شوك أو حجرا يؤذي الناس.. فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ، وجَد غُصنَ شَوكٍ على الطريقِ فأخَّرَه، فشَكَر اللهُ له فغَفَر له”. وقطع رجل شجرة من الطريق فرآه النبي يتقلب في الجنة.. “لقد رأيت رجلا يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس”(رواه مسلم).

إن قوله عليه السلام: “إماطة اﻷذى عن الطريق صدقة” ليس توجيها عابرا؛ بل يؤسس للشعور بالمسؤولية، وحسن الصلة بالناس، فمن أزال غصن شوك رأفة بهم، ﻻ يتصور إيذاؤهم بأي أمر! وإذا كان هذا في تأخير غصن شوك فكيف بمن أزال ضغائن القلوب وأحقادها، فكيف بمن يزيل هموم الناس ويخفف عنهم آلامهم؟

لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تسقي حيوانا أو تطعم حيوانا، أو تزرع زرعا يأكل منه طائر؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بينا رجل بطريقٍ، اشتدَّ عليه العطشُ، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرِب ثم خرج، فإذا كلبٌ يلهثُ، يأكلُ الثرى من العطشِ، فقال الرجلُ: لقد بلغ هذا الكلبُ من العطشِ مثلَ الذي كان بلغ مني، فنزل البئرَ فملأ خفَه ماءً، فسقى الكلبَ، فشكر اللهُ له فغفر له. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وإن لنا في البهائمِ لأجرًا؟ فقال: في كلِّ ذاتِ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ”.

سقى الكلب فشكرَ اللهُ له فغفر له، هذا في كلب فكيف لو إنسان، فكيف لو مسلم، فكيف لو يتيما أو أرملة أو مسكينا؟ فكيف بمن يُحسِن للمسلمين، ويتفقَّد المحتاجين، ويتصدَّق على المعوزين، ويرحم المستضعفين؟

لعلها تكون المنجية

لا تتهاون في صدقة، ولا تستصغرن طاعة، ولا تحتقرن حسنة فلعلها تكون المنجية، فكلما وجدت عملا فبادر إليه وقل لعلها المنجية، ثم التي بعدها وقل لعلها هذه، والتي بعدها وقل هذه هذه. وسترى كيف تتحول حياتك إلى سباق متواصل للبذل والعطاء.

لقد اشترى سيدنا عثمان بئر رومة فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم”. وجهز جيش العسرة فقال فيه مثل ذلك، ودخل بلال الجنة بركعات كان يؤديها بعد كل وضوء، وتجاوز الله عن عبد كان يتجاوز عن الناس، وشهد النبي لرجل بالجنة لأنه كان سليم القلب تجاه المسلمين، فأنت لا تدري أي عمل لك سيكون دليلك وسبيلك إلى الجنة، فلا تتركن عملا، ولا تحتقرن عملا.

مسلمون في بلد ليس عندهم مسجد، ابن لهم مسجدا، وقل: عساها تكون المنجية.

مسلمون ليس عندهم بئر يستقون منه، احفر لهم بئرا، وقل: عساها تكون المنجية.

فقراء مرضى لا مستشفى لديهم أو لا يقدرون على تكاليف العلاج، أقم لهم مستوصفا خيريا يتعالجون فيه، وقل: عساها تكون المنجية.

يتيم فقير لا يجد مصاريف التعليم، ادفعها له لعلها تكون هذه، أرملة عندها أولاد لا تستطيع الإنفاق عليهم، تولهم واكفلهم، لعلك تدخل بهم الجنة وتكون هي المنجية.

فتاة توقف زواجها لعدم قدرة والديها على تجهيزها، فوقف حالها، جهزها وزوجها عساها تكون هذه.

أبواب الخير كثيرة

إن أبواب الخير كثيرة وطرائق المعروف وفيرة، فنفس عن المسلمين فقد قال عليه الصلاة والسلام: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه”(رواه مسلم).. وفي الحديث: “أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في المسجد شهراً”(رواه الطبراني)

ولا يعجزن فقير ولا مسكين عن فعل خير فإن من المعروف إرشاد التائه، وتأمين الخائف، ومساعدة العاجز، وقضاء حاجة، ولو أن يفرغ من دلوه في دلو أخيه، أو يصنع لأخرق، أو يحمل رجلا على دابته، أو يعينه في حمل أغراضه. فإن لم يجد فبكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وكلمة طيبة صدقة، ودعوة بظهر الغيب صدقة. فإن عجز عن كل ذلك فتبسمك في وجه أخيك صدقة. فإن لم يمكنه ذلك، قال عليه السلام، فأمسك شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.

وأخيرا..

اعلم أن فعل الخير دين سريع السداد، سعة في الرزق، ونور في الوجه، وذكر حسن، ودعوات في ظهر الغيب.

واستكثروا من سرائر الخير فإن لها رائحة تفوق كل رائحة: عبيرها الذكر الحسن، وأثرها حُسن الختام.

نسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.

مواضيع ذات صلة