د. محمد عزب (خاص بموقع مهارات الدعوة)
شهادة المرء للغير له أو عليه، ونصيحته تقع في الإسلام موقعا شريفا ساميا، فلقد أولى الشرع الإسلامي للشهادة مكانة
عظيمة، وأرسى معالمها، وجعل الحرمان منها أحد العقوبات الزاجرة قال الله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] بل لفظ “الشهادة” هي التي وصف الله بها أعظم شهادة يمكن أن تكون، حين يطلب الخصم شهادة على صدق التوحيد، قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، وليست شهادة المرء التي يتعين أن تكون موافقة للصواب والسداد هي فقط تلك التي تكون في ساحات التقاضي عند وجود الخصوم، بل الشهادة أعظم من هذا وأشمل، بل يُسمَّى من ينزل منزلة تالية للأنبياء والصديقين بالشهيد.
تأخذنا كتب المتون والسير إلى بعض أيام النبي صلى الله عليه وسلم، نرى من خلال سطورها كيف وقعت الشهادة منه هو صلى الله عليه، لم تكن حياته صلى الله عليه وسلم رافلة في النعيم مترفة، بل حياة من يحمل هموم أمة بأسرها، وهو في معيشته كهم واحد منهم، يعيش على مثل ما يعيشون عليه، أو أقلّ، يضرب المثل والقدوة في تحمل تقلبات الحياة وصروفها، وهذا ما لحظه كتاب غربيون، يقول صاحب قصة الحضارة في شأنه: “لم يكن ينفق على أسرته إلا القليل من المال رغم ما كان يرد إليه من الفيء وغيره من الموارد، أما ما كان ينفقه على نفسه فقد كان أقل من القليل”..
قد أصابه صلى الله عليه الجوع ذات مرة، فخرج باحثا عن الطعام، فصادفه نفر من أصحابه أصابهم ما أصاب النبي، فانطلقوا بأمره إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان، فأطعمهم من بستانه، طعاما طيبا جاء على جوع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد الطعام: “هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة؛ ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد” كان خادمهم هو أبو الهيثم بنفسه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: “هل لك خادم؟” قال: لا، قال: “فإذا أتانا سبي؛ فأتنا”، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين ليس معهما ثالث فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهما، فقال: يا نبي الله اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن المستشار مؤتمن، خذ هذا؛ فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفا” [الترمذي، وصححه الألباني].
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكافئ أبا الهيثم؛ فوعده بخادم إذا أصاب فيئًا، ثم لما جاءه السبي، خيّره في اختيار من يشاء من الرقيق، لكن أبا الهيثم استشار النبي في الاختيار، فصدّر النبي مشورته بما يجب أن يحتذيه كل إنسان فيما يشير به، فبيّن صلى الله عليه لأبي الهيثم أولًا: أن المستشار مؤتمن، فمن استشار في أمر، فقد أمن المستشار عليه، فكل كلامه يجب أن ينضبط بموجب الأمانة، وأيُّ كذب أو تدليس أو تورية عُدَّ من كتمان الشهادة، وهو باب من تضييع الأمانة “إن المستشار مؤتمن” مؤتمن على قوله، وعلى ما يشير به؛كان الأمر تجارة أو زواجًا أو إقدامًا أو إحجامًا، فما دام في موضع المستشار، فلابد أن يضبط كلامه بضوابط الشهادة التي يكون الجنوح أو التدليس فيها نوع من الخيانة.
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا سببًا للترجيح بين الناس: “فإني رأيته يصلي”.
فاشهدوا له بالصلاح
لقد كان من حظّ هذا العبد أن وصفه النبي صلى الله عليه سلم بأنه يصلي، فهو يصلى الصلاة التي يتمثَّل فيها قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وهكذا في كل مجتمع تصير فيه الصلاة زاجرة عن المنكر؛ فإنها تصلح أن تكون معيارا للمفاضلة بين الناس، والحكم على صلاحهم واستقامتهم.
أما إن فقدت الصلاة في نفوس الناس هذه اللازمة، وتخلف أثرها عن واقعهم، فربما كانت هناك معايير أخر ليست الصلاة هي الفاصلة، كما روي عن عمر أن رجلا شهد عنده للرجل بالعدالة، فقال له: “…هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا. قال: فعاملك بالدرهم والدينار الذى يستدل بهما على الورع؟ قال: لا. قال: فصاحبك فى السفر الذى يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: فلست تعرفه,ثم قال للرجل: ائتنى بمن يعرفك” [منار السبيل وصححه الألباني]
ثم ذكّر النبي أبا الهيثم أن يقوم بموجب الإنسانية مع هذا الخادم المسترقِّ: “استوص به معروفا”، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق))
وهكذا.. جسّد الموقف يوما من أيام النبوة، والصحب الكرام، ووضع قاعدة المشورة بين الخلق؛ فهي من باب الأمانة والشهادة والنصيحة التي لا يجوز المين فيها بحال. كما أن الصلاة حين يكون الناس فيها صادقين في إيقاعها وإقامتها فإنها تكون من موجبات الفضل، والترجيح بين الخلق، وإخلاص المرء فيها باب مبارك، استدعى تزكية النبي ووصايته بصاحبها معروفا، نال من ورائه الحرية بعد أن كان رقيقا.
أمّا أم الهيثم فأبت إلا أن تكون في هذا اليوم الخالد مثالا للزوج الصالح، والمرأة المؤمنة، حيث نصحت زوجها أن يصل لأقصى درجات المعروف في طاعة النبي، والمبالغة في الاستجابة له، فقال النبي فيها وفي زوجها: “إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي”.
فطوبى لأبي الهيثم أن طلب النبي طعامة حين أصابه الجوع، وطوبى له أن كانت زوجه الصالحة تأمره بأقصى درجات البر بأمر النبي، وطوبى لهما أن كانا من بطانة خير الخلق بصنيعهما، وطوبى لهما أن أعتقا عبدا، شهد له النبي بقوله ((فإني رأيته يصلي))
ثم طوبى لمن رزق حلالا، وأنفق حلالا، وراقب الله في صلاته التي يكون فيها فكاكه يوم لا ينفع المرء فيه إلا ما قدم.