د. رمضان فوزي بديني (خاص بموقع مهارات الدعوة)
رعاية الإسلام للبيئة الزراعية
تعد الزراعة من أهم عناصر البيئة؛ حيث إنها تعد مصدرا هاما للغذاء والدواء؛ ولذلك امتن الله بها على الإنسان في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (عبس: 24-32).
ومن المواضع الكثيرة الأخرى التي تحدث فيها القرآن عن نعمة الزرع والإنبات قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (النمل: 60).
ونظرا لتلك الأهمية فقد أولى الإسلام البيئة الزراعية رعاية وعناية كبيرة، يمكن تلخيص أبرز مظاهرها فيما يلي:
أولا- نسب الله تعالى الزرع لنفسه:
إن الشيء يستمد شرفه وقيمته من المنسوب إليه؛ ولذلك فقد نسب الله تعالى الزرع لنفسه، لا لبني البشر؛ حيث إن دورهم يقتصر على الحرث الذي هو شق الأرض وتهيئتها للبذر؛ حيث قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (الواقعة: 63-65).
وفي هذا النسب تأكيد على أهمية الزرع الذي هو عصب الحياة؛ حتى يدرك الإنسان قيمته وأهميته فيحرص على رعايته والحفاظ عليه.
وهناك الكثير من الآيات التي نسب الله تعالى فيها الزرع والإنبات وإحياء الأرض لذاته المقدسة.
ثانيا- جعل الله الغرس والثمار جزاء لأهل الجنة:
يستمد الزرع أهيمته في الإسلام أيضا من كونه جزاء لأهل الإيمان في الجنة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قال: (سبحان الله العظيم وبحمده) غُرست له نخلة في الجنة”، (رواه الترمذي، وقال حديث حسن). وفي رواية للنسائي: “من قال سبحان الله العظيم غُرست له شجرة في الجنة”.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: “من صام يوما تطوعا غُرست له شجرة في الجنة؛ ثمرها أصغر من الرمان، وأضخم من التفاح، وعذوبته كعذوبة الشهد، وحلاوته كحلاوة العسل، يطعم الله الصائم منه يوم القيامة” (رواه الطبراني في معجمه الكبير).
فكون الغراس والشجر والنخل جزاء لأهل الجنة فيه تأكيد أيضا على شرفه وقيمته التي يجب المحافظة عليها.
ثالثا- التشجيع على إحياء الأرض الميتة:
حرص الإسلام على عدم ترك الأرض بورا دون زراعة؛ وتشجيعا لذلك حرص الرسول -صلى الله عليه وسلم- بصفته حاكما للبلاد على استزراع الأرض؛ فأصدر قرارا يعطي حق التملك لمن يحيي أرضا ميتة ليست مملوكة لأحد؛ حيث روى عُرْوَةُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ”، قَالَ مَالِك: وَالْعِرْقُ الظَّالِمُ: كُلُّ مَا احْتُفِرَ أَوْ أُخِذَ أَوْ غُرِسَ بِغَيْرِ حَقٍّ (موطأ مالك: 5/30).
وفي سياق آخر حض صلى الله عليه وسلم على عدم إمساك الأرض الصالحة دون زراعة، وأن من عجز عن زراعتها فليمنحها أخاه حتى لا تبقى بورا؛ حيث روى عَطَاء عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: “كَانَ لِرِجَالٍ فُضُولُ أَرَضِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ كَانَتْ لَهُ فَضْلُ أَرْضٍ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ” (صحيح مسلم).
رابعا – التشجيع على الزراعة والغرس وجعل ذلك من باب الصدقة:
بلغت عناية الإسلام واهتمامه بالبيئة الزراعية أن حض على الغرس والزرع، ورتب أجرا على ما يؤكل من ثمار هذا الزرع؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة.. إلا كان له به صدقة” (البخاري)؛ بل وفي رواية أخرى جعل ما يُسرق من هذا الزرع من باب الصدقة أيضا، وكذلك كل ما ينقص منه بأي طرقة من الطرق؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من مسلمٍ يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سُرق منه له صدقة، ولا يرزؤه (ينقصه) أحدٌ إلا كان له صدقة” (أخرجه مسلم)
وإدراكا منه صلى الله عليه وسلم لما يحتاجه الزرع من وقت ورعاية ربما تأخذ الكثير من الوقت.. أكد صلى الله عليه وسلم على ثواب ذلك وأجره عند الله تعالى؛ فعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: “من نصب شجرة، فصبر على حفظها، والقيام عليها حتى تثمر؛ فإن له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل” (رواه أحمد).
خامسا- الحض على الغرس حتى لو لم يستفد منه الغارس:
وفي سياقات أخرى أكد صلى الله عليه وسلم على أهمية الغرس حتى لو كان الغارس متأكدا من عدم استفادته منه لتأكد إدراك الأجل له؛ بل وحتى لو تأكد من عدم استفادة أي من المخلوقات منه؛ ذلك أن الإنسان مأمور بالمبادرة والأخذ بالأسباب وليس عليه إدراك النتيجة؛ فعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها” (رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في “الأدب المفرد”).
وقد أدرك ذلك المعنى أبو الدرداء رضي الله عنه؛ حيث روي أن رجلا مر به، وهو يغرس جوزة (شجرة جوز) فقال: أتغرس هذه وأنت شيخ كبير، وهي لا تثمر إلا في كذا وكذا عاما؟! فقال أبو الدرداء: “ما عليَّ أن يكون لي أجرها، ويأكل منها غيري”.
وروى ابن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غدا! فقال عمر: “أعزم عليك لتغرسنها”؛ فقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي”.
فعمر القائد السياسي لا يريد أن يرى أرضا غير مستثمرة، وتشجيعا على ذلك شارك بنفسه في غرسها.
سادسا- تقرير حق النبات في الانتفاع به:
حرص الإسلام على التأكيد على حق النبات في الانتفاع به باعتباره عنصرا بيئيا أساسيا؛ فبعد أن ذكر الله تعالى تفضُّلَه على عباده بأنواع الزرع في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ}.. جاء أمره مباشرا في الأكل من ثمره وإخراج حقوق الفقراء والمساكين فيه؛ مؤكدا على المنهج الإسلامي بعدم الإسراف؛ حيث قال تعالى: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141).. وغيرها الكثير من الآيات القرآنية التي تنظم عملية الاستفادة من الزرع وثماره، وتقرر حق النبات في الانتفاع به وحسن استخدامه.
ومن المواضع التي حث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم على تلمس الرزق من الزرع ما رواه الزبير بن العوام رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لأن يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه.. خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه” (البخاري وأحمد وابن ماجه).
ويؤكد ذلك أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “التمسوا الرزق في خبايا الأرض” (كنز العمال وشعب الإيمان للبيهقي)؛ حيث قال المناوي في فيض القدير: “أي التمسوه في الحرث لنحو زرع وغرس فإن الأرض تخرج ما فيها من النبات الذي به قوام الحيوان” (فيض القدير: 1/692).
ومنه أيضا قوله -صلى الله عليه وسلم-: “كلوا الزيت وادهنوا به؛ فإنه يخرج من شجرة مباركة” (رواه الترمذي).
سابعا- النهي عن قطع الشجر:
حرص الإسلام على حفظ الأشجار وعدم العبث بها أو قطعها من غير وجه حق؛ بل بالغ في النهي عن ذلك؛ فقد عدَّ القرآن ذلك من باب الفساد في الأرض الذي لا يحبه الله تعالى؛ حيث قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 205).
وأخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن مَن قطع شجرة من غير وجه حق فجزاؤه في الآخرة تصويب رأسه في نار جهنم؛ حيث روى عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “من قطع سدرة صوَّب الله رأسه في النار” (سنن أبي داود)، وقال أبو داود في شرحه “يعني من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها صوب الله رأسه في النار”.
وفي هذا الحديث حماية للأشجار والبيئة النباتية بصورة عامة من القطع العبثي، إلا إذا كان القطع بغرض الاستفادة من الحطب والخشب كما مر في حديث سابق من الندب إلى ذلك.
وتبلغ روعة الإسلام في الحفاظ على البيئة في تلك الوصية الحضارية للصديق أبي بكر -رضي الله عنه- لجيوش الفتح الإسلامي المتوجهة إلى الشام قائلا لهم: “لا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة” (تاريخ الطبري).
فرغم أن المقام مقام حرب وغزو فإن الأخلاق والقيم الإسلامية حاضرة حتى في الحروب، وقد تفرد الإسلام على غيره بهذه القيم والآداب الراقية في الحفاظ على البيئة من التدمير والإهلاك حتى في الحروب.
ثامنا- توزيع الأدوار في حفظ الزرع:
بلغ حرص الإسلام على البيئة الزراعية الخاصة أن جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- حفظ المزارع من الماشية التي ربما تهلكها أو تدمرها على أصحاب المزارع نهارا، وعلى أصحاب الماشية ليلا؛ فقد روي عن حرام بن سعد بن محيصة الأنصاري، عن أبيه عن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن ما أصابت الماشية بالليل فهو على أهلها (مسند أحمد).
قال الخطابي رحمه الله: “يشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا؛ لأن في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين يحفظونها بالنهار، ويوكلون بها الحفاظ والنواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردوها مع الليل؛ فمن خالف هذه العادة كان به خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع” (معالم السنن: 3/829).