الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

النابلسي يمنح للداعية “خارطةً” بلغة العلم

هديل عطاالله **

“إن اتخذت قرارا قطعيا أن تؤمن بالله.. عندئذ كل شيء في الكون، والحياة، والأرض.. nabulsiسيدلك على الله، تماما كما الماء يدل على الغدير، والأقدام تدل على المسير، بينما لو كنت في “محطة ناسا الفضائية” أضخم محطة في العالم، ولو كنت على مجهر إلكتروني ترى الخلية، ولو قرأت ألف كتاب بالإعجاز، ولكنك لم تتخذ قرارا بالإيمان فلن تنتفع بكل هذا”.

حسب التصنيف المنطقي الوارد أعلاه، والذي أورده فضيلة الشيخ السوري “الدكتور محمد راتب النابلسي”، فلا بد عزيزي القارئ أنك تندرج تحت الصنف الأول، وإلا ما كنت لتهتم بالاطلاع على صفحة من هذا النمط!.

موضوعنا اليوم يهم كل داعية يسعى إلى هداية الناس للحق.. عبر لغة العقل والعلم، كي يضعهم وجها لوجه أمام عظمة بارئهم، حيث على خارطة الدعوة “طريق أقصر” و”باب أوسع” للوصول إلى الله، وذلك يتمثل في الطرح المعتمد على التفكر في آيات الله، والمستند إلى تبيان قضايا الإعجاز العلمي، ولكن كي يتسنى للدعاة ذلك فلا بد من “دليل إرشادي” يعملون في إطاره.

عبر “البريد الإلكتروني” حظيت “صحيفة فلسطين” بأجوبة تتناول محاور شيقة، من العالم الجليل الدكتور محمد النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليتي الشريعة وأصول الدين في جامعة دمشق، والخطيب المعروف في المساجد “الشاميّة”.. ومن خلال “الحوار التالي” يمكنك أن تستلهم ما يمثل أبجديات “الدعوة” وفق خطاب يتطلبه العصر بكل ما للكلمة من معنى.

ليست كـ”عود الثقاب”

لقد أصبح أمرا مفروغا منه أن يلمّ “الداعية” بقضايا الإعجاز العلمي إلماما تاما، لا سيما في العصر الحديث الذي يستلزم خطابا عقليا باتجاه الغرب، من هذه النقطة ينطلق حديثنا مع “الشيخ” الذي استهلّه بالآية الكريمة: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، موضحا مقصده: “ذكر بعض المفسرين أن لسان القوم ليس فقط اللغة التي يتكلمون بها وإنما هي لغة العصر، فلسان العرب يوم جاءهم وحي السماء كان اللغة والشعر فتحدّاهم القرآن الكريم بلغتهم، ولسان قوم موسى عليه السلام كان السحر فجاءهم بخوارق قضت على إفكهم، ولسان قوم عيسى عليه السلام كان الطب فجاءهم بخوارق يعجز عنها الطب”.

أما بخصوص معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فيصفها الشيخ النابلسي بأنها “معجزة معنوية” مستمرة إلى قيام الساعة، ألا وهي “القرآن الكريم”، حيث لا بد أن يكون فيه من الإعجاز ما يناسب كل عصر، ذلك أن المعجزات المادية كـ”عود الثقاب” الذي يتألق لمرة ثم لا يلبث أن ينطفئ، ليصبح خبرا يصدقه من يصدقه، ويكذبه من يكذبه, إلا أننا نؤمن بها لأن الله تعالى أخبرنا بها، أما المنكرون الجاحدون فلا سبيل لإقناعهم بوقوعها، بينما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم “معنوية” لأن الله تعالى جعله خاتم الأنبياء، وجعل رسالته خاتمة الرسالات، إذن لا بد من أن تكون معجزة مستمرة لتناسب كل عصر وزمان”.

تطابق عفوي وتام

وبناء على حقيقة مفادها أن لغة العصر اليوم هي العلم بالمخلوقات، يؤكد “ضيفنا” على ضرورة أن يلمّ الداعية بوجه من أوجه التحدي وهو الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.. فما هي الضوابط التي يجب ألا يشطّ عنها الباحث في الإعجاز؟.

يجيب صاحب “موسوعة الإعجاز العلمي” الزخمة بمختلف فروع العلم: “للإعجاز في القرآن الكريم ضوابط لا ينبغي للمرء أن يغفل عنها، إذ يجب أن تكون الحقيقة العلمية_ موضع البحث_ مقطوعا بصحتها، لا أن تكون نظرية لم تثبت بعد، كما لا بد من أن تكون الآية قطعية الدلالة على المعنى، وينبغي أن يكون التطابق بين الآية والحقيقة العلمية عفويا وتاما، عندها يصبح الإعجاز أداة بنّاءة في يد المسلم، أما أبحاث الإعجاز المتسرعة فيمكن أن تسيء إلى الدين من حيث أريد لها أن تحسن”.

وللمهتمين بشأن عظيم كهذا يشدد أنه يتعين علينا دائما وأبدا ألا نجعل حقائق القرآن “موضع نظر”، معربا عن أسفه أننا نصفّق للعلم حين يأتي مطابقا لآية في كتاب الله تعالى، وليس العكس!، كيف لا والقرآن وحي الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

مادة دسمة للمشكّكين

سؤال آخر يطرح نفسه: “كيف يمكن للداعية المختص بالعلم الشرعي أن يواكب العلوم العصرية، ويربطها مع ما ورد في القرآن والسنة.. إنه أمر ليس باليسير.. أليس كذلك؟!، يقدم النابلسي الإجابة على هيئة “نصيحة” لمن أراد أن يكون داعية على هذا الطراز: “ترتبط علوم القرآن الكريم في بدايتها برابط واحد، وتختلف في نهاياتها، فالباحث في الإعجاز العلمي عليه أن يكون على دراية بالعلوم ذاتها التي ينبغي لـ”مفسّر القرآن” أن يعلمها، من علم باللغة، والنحو، والصرف، وأساليب العرب، وما إلى ذلك، أضف إليها أن يكون ملما بمعلومات عامة حول آيات الله في الآفاق والنفس الإنسانية ، ومن ثم لا يضيره أن يعرض أي نتيجة يتوصل إليها على أهل الاختصاص في الفلك والطب والعلوم الأخرى، ولكن المهم أن يتثبت من الحقيقة العلمية قبل الجهر بها، وإلا أساء المفسر من حيث أراد أن يحسن.

ونحن نتعامل مع شأن مهم كهذا علينا أخذ الحيطة بأن ثمة محاذير يمكن أن تجعل من “الإعجاز” أكبر معول لهدم الإيمان، وعندها فقط يجد أعداء الدين “مداخلهم”، حيث يتفق النابلسي مع ذلك، شارحا لـ”فلسطين” خطورة الإعجاز غير المنضبط في إتاحته لفرصة أكبر في توجيه “المطاعن”: “لقد أدرك أعداؤنا أنه لا يمكن إلغاء هذا الدين العظيم لأنه من الأهمية بمكان بحيث هو كالهواء الذي يتنفسه الإنسان، ولا يمكن قطعه عنه، لذلك لجؤوا إلى أسلوب آخر وهو تفجيره من داخله، وتشويه صورته، ويندرج تحت ذلك جميع حملات التشويه التي تصدر في الإعلام بين الفينة والأخرى، ومن تلك الحملات التشكيك في القرآن الكريم لذلك نجد اليوم مئات المواقع الإلكترونية التي تحاول التشكيك في القرآن من خلال التشكيك في الإعجاز العلمي”.

لعلك تتساءل :”وما العمل في هذه الحالة؟!..أما جوابه فيتمثل في التالي: “مشكلة من هذا النوع يجدر التدقيق بمسبباتها، فهي نجمت جراء إقدام الباحث بغير دراسة معمقة على ربط نظرية غير ثابتة بنص غير قطعي الدلالة على المعنى المطلوب، ثم يظهر بعد حين زيف تلك النظرية، وبذلك يكون قدم لهذه المواقع مادة دسمة للدخول إلى القرآن الكريم”.

نشوة طلب العلم

ومن خلال دروس الشيخ محمد النابلسي التي يجوب بها أصقاع الأرض، فقد مر بمواقف مع أناس دخلوا في دين الله وكان سبب إسلامهم آيات الإعجاز العلمي، حيث نشرت بعض الصحف في البلاد الغربية هذه الأنباء مرارا ولله الحمد- حسب قوله-، معزيا السبب في ذلك إلى أن الإعجاز العلمي يضع الإنسان وجها لوجه أمام عظمة الله تعالى، كونه اللغة التي يشترك بها الناس جميعا على اختلاف انتماءاتهم.

وتبدو مجتمعاتنا العربية بعيدة كل البعد عن ثقافة الحوار العلمي والعقلية البحثية، مما يدعونا إلى التطرق إلى الدور الذي يمكن أن يلعبه الدعاة في تعزيز ذلك في شباب المسلمين علهم يسترجعون مجد “علماء الإسلام”، بدلا من البقاء في “خانة” المنتظرين لعلماء الغرب.

يستأنف حديثه مبينا “الدور” المنوط بـ”صفوة الناس”: “بالفعل هو مأخذ ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، فالمسلمون كانوا قادة الحضارة والمدنية، وقدموا للأمة إنجازات عظيمة، ثم لما تخلّوا عن دينهم وأسلموا القيادة لغيرهم بدأ الآخرون من حيث انتهينا، وأصبحنا ننتظر منهم الاكتشافات الحديثة لنربطها بالقرآن الكريم، لكن ولله الحمد هناك صحوة بدأت بذورها في العالم الإسلامي ولاحظت ذلك خلال أسفاري حيث بدأت بعض البلاد المسلمة بتأسيس هيئات لأبحاث الإعجاز يشرف عليها المسلمون أنفسهم”.

ويوجه للدعاة رسالة ضمنية ملخصها أنهم بعد تنمية الإيمان في القلوب عليهم أن يعززوا دور العلم عند الشباب، ويركزوا على البحث والحوار العلمي، بحيث يشعر المسلم حين يطلب العلم بالنشوة ذاتها التي يشعر بها حين يؤدي عبادة من العبادات الشعائرية.

مقررات المنهج

وبالانتقال إلى آيات الله في الآفاق والأنفس التي لا تعد ولا تحصى.. فمن بين أبرز الآيات الرائعة في الكون الفسيح التي توقف عندها “العالم الدمشقي” مدهوشا من عظمة الله، هي ما يسمى بـ “الغدة الصعترية”.

ويفصّل وجه الإعجاز في تلك الغدة قائلا: “يعد جهاز المناعة من أخطر الأجهزة في الجسم البشري، وهو جيش دفاعي عالي المستوى والجاهزية، فيه فرق الاستطلاع، وفرق تصنيع السلاح، وفرق القتال، وفرق الخدمات، وفرقة المغاوير، أما بالنسبة لفرق القتال، فإن فريقا من كريات الدم البيضاء التي صنعت وتشكّلت في العظام، والتي فرزت لمهام قتالية ترسل إلى مدرسة حربية اسمها الغدة الصعترية (التيموس) في دورة تثقيفية تدريبية وبعد اجتياز الامتحان تتخرج بلقب (الخلية التائية المثقفة).

ويواصل شرحه العلمي الممتع الأشبه “بحكاية”: “في هذه المدرسة الحربية تدرس الكريات البيضاء التي أفرزت للقتال مادتين أساسيتين: التعريف بالذات والصديق، والتعريف بـ”العدو الممرض”، أما المقرر الأول فيه يعرض على هذه الخلايا مئات الألوف من البروتينات التي تدخل في بناء الجسم البشري، ثم ترمز هذه العناصر الصديقة، لتدرب الخلايا على ألا تهاجمها لأنها إن هاجمتها فمعنى ذلك أن الجسم يدمر نفسه، ويتلف بعضه”.

ويذكر أنه في المقرر الثاني يعرض على هذه الخلايا ما عرفه النوع البشري عبر الأجيال على أنه عنصر “ممرض” من خلال مناعات الأم التي تصل إلى المولود من خلال الحليب، ومن خلال التجربة الحية، إذ إن الطفل في السنوات الأولى يميل بفطرته إلى التقاط الأشياء ووضعها في فمه لتتعرف خلاياه المقاتلة على العناصر المعادية، أو أن العدوى بالأمراض تعطيه مزيدا من المعلومات عن أعدائه، ومن خلال تلك المحاضرات تتعرف الكريات البيضاء المقاتلة على العناصر المعادية التي عليها أن تهاجمها، أو تذيع نبأ وجودها، أو تساهم في إلقاء القبض عليها.

ومن خلال المجاهر الإلكترونية تبدو “الغدة الصعترية” على شكل مدرجّات رومانية تصطف الكريات البيضاء عليها لتتلقى هذه المحاضرات القيمة”.

النهاية: حرب أهلية

ولكن كيف لنا أن نتعرف على “درجة التحصيل” لدى “الكرات التلاميذ”.. إنه أول تعليق تلقائي قد يخطر بالذهن، ليزيل “ضيفنا” الغموض عنه: “بالتأكيد لابد في أي جامعة أو معهد أو مدرسة من امتحان، حيث تمر هذه الكريات فرادى في بوابات امتحانية، وتمتحن واحدة واحدة في المقررين السابقين، بالنسبة لامتحان المادة الأولى يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر صديق، فإن هاجمته أخفقت في الامتحان، ومنعت من مغادرة الغدة الصعترية، وقتلت لأنها إن خرجت إلى الدم تهاجم الجسم الذي شكلها”.

بينما في امتحان المادة الثانية، يعرض على الكرية البيضاء الممتحنة عنصر عدو ممرض، فإن أخفقت في تمييزه والرد عليه رسبت في الامتحان، ومنعت من مغادرة “الكلّية” وقتلت، لأنها إن خرجت إلى الدم غفلت عن العدو ومكنته من مهاجمة الجسم.

ويضيف معلومة جديرة بأن يعرفها الجميع أن عمل هذه الكلية الحربية (الغدة الصعترية) يستمر من بدء الولادة وحتى السنة الثالثة، وبعدها تقوم بتوريث علم مراقبة وضبط عمل الكريات البيضاء إلى الكريات البيضاء الناجحة في الامتحان، والتي سميت بعد التخرج بالخلايا التائية المثقفة لتقوم بدورها في نقل هذا العلم إلى أجيال الكريات البيضاء اللاحقة.

لكن ماذا إن بلغ الإنسان من العمر مبلغه؟!..يردف متممّا: “في السبعينيات من العمر يضعف تثقيف الكريات البيضاء المقاتلة فتبدأ بمهاجمة العناصر الصديقة، وبعض أجهزة الجسم وأعضائه، فنرى في هذا العمر أمراضا شائعة كبعض الاعتلالات الكلوية، سببها الرئيس ضعف ثقافة الجهاز المناعي الذي ينتج عنه زوال الضبط في عمل الخلايا المقاتلة وهو (خرف الجهاز المناعي)، فتصبح الخلايا المناعية المقاتلة تهاجم الجسم الذي شكلها وثقفها للدفاع عنه وتكون حالة الجسم ما يشبه الحرب الأهلية.

ختام حديثه تمثّل في آية عظيمة وهي: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، فهل ما يواجهه العالم العربي الآن هو “أزمة مزدوجة” تتمثل في الافتقار إلى علماء تتوفر بهم ثنائية العلم والإيمان معا؟!..يصوغ النابلسي حلا يبدو دقيقا وفعالا: “يقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير)، فمن أنواع القوة بل وأهمها قوة العلم، ولكن ينبغي أن يسبقه الإيمان، لأن القوة من غير إيمان تدمر صاحبها، وهذا ما يجري اليوم في الأرض بسبب تخلي المسلمين عن قيادة الركب، فعلينا أولا أن نربي الناس على العلم بالله تعالى المؤدي إلى الخشية الحقيقية، والخوف من الله تعالى ثم العلم بأمره المؤدي إلى السعادة في الدنيا والآخرة، ثم العلم بالمخلوقات المؤدي إلى صلاح الدنيا، بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي جانب من هذه الجوانب أبدا”.

** المصدر: صحيفة فلسطين.

مواضيع ذات صلة