الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

بيان القرآن للناس (1)

د. حسان عبدالله (خاص بموقع مهارات الدعوة)

أعلن القرآن منذ نزوله أنه بيان للناس، بيان للطريق، والمنهج، وهو بيان تقوم مقاصده على تحقيق الهداية للإنسان، هداية الخلق في ضوء رسالة الحق التي أنزل بها الرسل وكانت لطفًا من الله للخلق. والبيان كما جاء في اللغة هو الكشف عن الشيء. وهو ما يشرح به المجمل، ويوضح به المبهم من الكلام.

والبيان من الحجاج والمحاججة التي تتطلب أدلة سواء عقلية أو حسية أو فوق ذلك.

والبيان يرتبط بالطريق، والقرآن هو البيان لطريق الإنسان نحو الوصول إلى الغاية الكبرى وهي الله تعالى “وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ “، والقرآن في ذلك يوضح كليات الطريق، كما يوضح تفاصيله إذا تطلب الطريق، ويوجه إلى “الخير” كمفهوم يغطي حركة الإنسان في الكون كما يريدها الخالق، وينهى عن “المنكر” كمعنى لكل الشرور والآثام التي ترتبط بطبيعة الإنسان وجانب من جبلته؛ فيكون التحذير من ذلك وفق بيان القرآن للناس عن مسلك هذه الشرور ومآلها.

وفي الحلقات التالية نحاول أن نقف على أهم كليات “بيان القرآن للناس” ومضامينها ومقاصدها في الخلق؛ بحيث نصل في نهاية تلك الحلقات إلى بناء هرمية لهذه البيانات القرآنية، التي تمثل مراكز انبعاث لحركة المسلم الجديدة في القرن الحادي والعشرين في وسط كل تلك المدافعات الحضارية التي أخذت الفرد والمجتمع إلى أماكن بعيدة عن البيان القرآني. كما نحاول لفت نظر المسلم إلى إدماج هذه البيانات القرآنية في حركته ونشاطه، ليقف منها ليس فقط موقف المتأمل وإنما موقف البصير العامل.

البيان الأول: التوحيد

تشوهت رؤية الإنسان في علاقته بالخالق، واخترع الإنسان أشكالا متعددة جاءت من رؤية مشوهة للخلق عمومًا وللخالق بصفة خاصة، فاتخذ الإنسان من الأوثان معبودات مطلقة كبدائل للخالق، واتخذ البعض الآخر تلك الأوثان باعتبارها وسائل موصلة للخالق الذين اعتقدوا أنهم لا يمتلكون الاتصال المباشر به، وادعو أنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، أما وارثو الإبراهيمية فقد انحرفت تصوراتهم كذلك عن طبيعة الخالق، وطبيعة الرسل الذين أرسلهم ليدلوا عليه لا ليدعوا الناس إلى عبادتهم، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ} [التوبة:30]..

ويسجل القرآن سؤالا قادما من الغيب من الله تعالى لعيسى عليه السلام –وهو أعلم- ولكن يسجله ليكون محاججة وبيانا لكل تشوه في التصور، ودعوة في الوقت ذاته إلى المراجعة لمن أصيبوا بذلك المرض في الرؤية والوجدان {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ اللَّهِ}، ويجيب عليه السلام {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [116-117 المائدة]. هذا فضلًا على منكري الله جملة واعتبارهم الدهر هو الخالق {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. بالإضافة أيضًا إلى رؤية الفلاسفة التي ادعت أن الله خلق الكون، وتركه دون عناية منه، والحركة الكونية هي حركة المادة والقوانين المحركة لها فقط حتى تنقضي الحياة وفقًا لهذه القوانين.

وهكذا انحرفت الفطرة الإنسانية في تصور الخالق بين نفي وجوده كلية، وإشراك له، وانقلاب في تصوره وعلاقته بالبشر وخصوصًا بالرسل، وفي هذه الأثناء جاء القرآن الكريم لتستعيد البشرية ميزان حركتها الذي يتمثل أول ما يتمثل في تصحيح رؤيتها للإله، وضبط العلاقة المفاهيمية والوجدانية الاعتقادية معه، وكان أول بيان في القرآن هو بيان التوحيد (لا إله إلا الله)، وكانت سورة الإخلاص هي مدار البرنامج التربوي للنبي –صلى الله عليه وسلم-من دار الأرقم بن أبي الأرقم إلى دار بن الخطاب إلى وصايا السفراء إلى المعلمين وغيرهم.

جاء هذا البيان القرآني ليؤكد على معنى “الواحدية” لله تعالى في الخلق والأمر والعناية والحياة والموت والبعث والنشور والحساب والجزاء.

ويميز هذا البيان أيضًا بين طبيعتين: الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية؛ فالأولى تتمركز في مفاهيم ومضامين: الأحدية، الصمدية، وتنزيهه عن كل الارتباطات والعلاقات البشرية {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 -4]. والثانية تتمركز في عالم الشهود المرئي للإنسان، الذي منح الله للإنسان فيه القدرة على التصرف والتكيف، بما منحه من قدرة على اكتشاف قوانينه والتحكم فيها.

وعلى ذلك فهناك عالمان: عالم مادي مرئي مشهود يراه الإنسان بحواسه وهو عالم المخلوقات، وهو قائم بغيره، وليس واجبًا بذاته، وإنما مخلوق من قِبل الله تعالى، وعالم آخر هو عالم الله المتعالي الموجود بذاته {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. وفي الرؤية التوحيدية هذان الوجودان مختلفان ومتمايزان، ولا يمكن لهما أن يندمجا أو يحل أحدهما في الآخر، ولا يتحول أحدهما ليحمل صفات الآخر؛ لاختلاف الطبيعة والوظيفة والكنه والكينونة.

وبيان التوحيد –أيضًا- يحدد للإنسان مسار الطريق فيتحدد “بالغائية”؛ فوجود الإنسان ليس عبثًا، وإنما يسعى إلى الوصول إلى غاية كبرى هي الله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [النور:42].

والتوحيد يمد الإنسان برؤية كونية تتمايز مع الرؤية المادية التي لا ترى في الوجود إلا ما يشاهَد ويُحَس فقط، وما يمكن قياسه واختباره وتجربته، تجمع هذه الرؤية بين المادية والمعنوية، وتخط حدودا بينهما من العقل والحواس والوحي؛ حيث لكل منهما وظائف في بناء الرؤية الكونية للإنسان تربط بين الأرض وبين السماء، وبين المشهود المرئي والغيب، وبين الطين والروح.

كما يمنح التوحيد الإنسان يمنح رؤية شاملة كونية يرى فيها الطبيعة ذات نظام واع بذاته ومنطقي وذات هدف، و التضادات وألوان عدم الاتساق والنظام الموجودة فيها نسبية وظاهرة، وهو اعتقاد أن في ما ورائها حقيقة متناسقة وواقعية معقولة ومتصلة، ومن ناحية أخرى يجعل هذا الجهاز العظيم ذا معنى وهدف وفلسفة وجود، وبالتالي إحياء وبعث مسؤولية الإنسان. وإعلان  إله واحد مجرد من الخصائص القومية والعرقية والطبقية ومطلق يحكم كل الوجود، وأن عالم الوجود إمبراطورية ممتدة، ولها ذات واحدة تابعة لخلقه وأمره، من وجهة نظر الفلسفة وعلم الإنسان يلغي كل الحدود العرقية والتناقضات الطبقية والتفرقات الأسرية وامتيازات الدم والعرق وبالتالي الامتيازات في الحقوق؛ لأن التوحيد بإلغائه للآلهة المتعددة الصغيرة والكبيرة القومية والطبقية والعرقية، وإنكاره للأجهزة الدينية والرؤية الكونية في الشرك يحرم الشرك الاجتماعي والتعدد الطبقي والعرقي في الحياة البشرية على وجه الأرض من تبريرها الفلسفي والعلمي والديني وقاعدتها الميتافيزيقية.

والتوحيد بإلغائه هذه الآلهة المصطنعة المغرضة المضادة للبشر، لا يقوم بإلغاء الإحساس الديني في الإنسان أو الحقيقة الموجودة فيما وراء المحسوس أو إنكار الإرادة الواعية والمدبرة في الطبيعة، حتى يعري الإنسان بالرغم منه من فضائله غير المادية وحاجياته المتسامية وتساميه المعنوي ورسالته الإلهية، وينزل به إلى مستوى حيوان اقتصادي، ويقطع صلته بالأساس المعنوي للدنيا وقرابته مع روح الوجود ويجعل مبدئية النفع محل مبدئية القيمة فيه، أو ليظهر الإنسان (الذي هو على شاكلة الله) عاشقاً للكمال والجمال والحقيقة، والذي كان دائماً فيما وراء الطبيعة العادية والمنفعة المادية باحثاً عن الأبدية وقلقاً في سبيل اكتشاف سر الوجود والحصول على المطلق في صورة حيوان طالب لقوة ومكافح للاستهلاك.

أجل.. إن التوحيد يبدي الكون أكبر من الطبيعة المحسوسة للإنسان، وأكثر إدهاشاً وأشد عمقاً مما هي عليه، وأنها ليست آلة عمياء حمقاء ذات مجموعة من الحركات المتفرقة العابثة التصادفية، ليس هذا فحسب بل يبديها في صورة شخصية واعية مفكرة ذات إرادة وإحساس وجمال وتمييز، وأن الوجود ليس مجموعة متراكمة من العناصر، وليس جسداً ميتا بلا صاحب، بل هو جسد حي يرى ويشعر، وله قلب يميز بين الخير والشر والجمال والقبح والعظمة والخسة، يفهم الحب ويتأثر به، وينفعل أمام ألطف الأمواج جمالاً لروح ما، وأدق نبض لعاطفة ما، وأكثر الجذبات الباطنية لعشق ما خفا، ويبدي ردود أفعاله بحساب لا يدخل لنا في وهم، وحركة أية ذرة في خضم هذه الكائنات التي لا نهاية لها ليست من قبيل المصادفة والعبث.[1]

والتوحيد كجوهر للخبرة الدينية الإسلامية يتمثل في:

  • إدراك المسلم أن وجوده ليس عبثيًا.
  • اعتقاد المسلم أن غايته غير متطابقة مع مسايرة الهوى.
  • أن الحقيقة النهائية في نظر المسلم تتشكل من نظامين: النظام المتعالي، النظام الطبيعي.
  • أن يستمد المسلم القيم الحاكمة لوجوده الطبيعي من النظام المتعالي (الذي لا يوجد فيه إلا الإله الواحد الأوحد).
  • أن يستبعد المسلم أي مصدر آخر لاستمداد الهداية منه.
  • أن يعتقد المسلم أن مذهب المتعة والسعادة وكل النظريات النابعة من النظام الطبيعي ذاته مجرد هراء بل تدخل في باب الشرك (عند الاعتقاد فيها). [2]

 

[1] شريعتي، علي. العودة إلى الذات، ترجمة إبراهيم الدسوقي شتا، القاهرة ، الزهراء للإعلام العربي، ط2،1993، ص364 .

[2]  إسماعيل الفاروقي: التوحيد ومضامينه في الفكر والحياة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2016، ص67.

مواضيع ذات صلة