الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

زمرة القلب الواحد ونور الأخوة الإيمانية الصادقة

د. يوسف السند

تتنوع التغييرات والتحولات في حياة المسلمين بشكل عام وحياة الدعاة بشكل خاص، لما يعانيه الدعاة الصادقون المخلصون من رغبة صادقة في التغيير نحو الأفضل والأحسن لذواتهم وواقعهم؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي

الأخوة

الأخوة الصادقة أساس الدعوات الناجحة

مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)} (فصلت).

لذا وجب النصح والتناصح للتخلص من شوائب قد تعلق بالقلوب فتكون راناً مع الزمن يورث غفلة وقسوة وخشونة في التعامل والألفاظ والظنون يربأ عنها عوام المسلمين، فضلاً عن الدعاة العاملين الصادقين، فإذا كانت المؤسسات تنادي للعمل بروح الفريق الواحد، فقد نادى علماؤنا ومربونا منذ القدم بضرورة المحافظة على زمرة القلب الواحد، ونقلوا أنوار زمرة القلب الواحد.

الكفوف بالكفوف

فاشهدوا عهودنا

الثبات في الصفوف

والمضاء والفنا

زمرة الخير هم العدة في البلاء والزينة في الرخاء، إخوان صدق وثلة إيمان وموكب رائد واعد، تنهض بهم الأمم، وتعتمد عليهم المجتمعات والأوطان، تحلّوا بالصبر واليقين فكانوا قادة في الدنيا وأئمة في الدين وهم بالله ولله ومع الله.

مع الله في سبحات الفكر

مع الله في لمحات البصر

مع الله حال احتدام الخطر

مع الله في الرهط والمؤتمر

مع الله في حب أهل التقى

مع الله في كره من قد فجر

إنها أخوّة العقيدة التي يكفي تمثلها في فئة قليلة، تورثها بالتعليم إلى خلف يواصل إحياءها.

وإنها أخوّة العمل التي تتخطى الألوان والأقوام، وتمزج العاملين معاً.

أخوّة لا تعرف الفراغ بل هي تهجم على مظان العمل ومقر الإنجاز والإنتاج والدعوة والتجميع، أخوّة سلمت من الظنون والتجسس والغيبة؛ فانتظمت زمرة رائدة واعدة مقتبسة من الفضيل بن عياض حين قال حكمة: «من أراد أن يسلم من الغيبة فليسد على نفسه باب الظنون، فمن سلم من الظن؛ سلم من التجسس، ومن سلم من التجسس؛ سلم من الغيبة».

وهذا ما قرره الأستاذ حسن الهضيبي يرحمه الله حيث قال: «وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلماً حقاً إلا إذا أصبحت عقيدته جزءاً لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه، فيكون عادلاً مع الناس جميعاً، ويحذر نوازع الهوى أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه، فلا يذكر إخوانه بسوء ولا يغتابهم، ولا يلمزهم، فإن أكثر الشرور تنشأ عن مثل ذلك».

ويقول يرحمه الله تعالى: «إذا ظهرت الغيبة ارتفعت الأخوّة في الله..».

وإننا لنحتاج إلى أنوار الطاعات والقربات حتى نهزم داء الهوى العاصف بأخوّتنا التي هي مصدر عزنا وقوتنا.

يقول أبوبكر الحكيم الوراق يرحمه الله تعالى: «إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم القلب ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخُلق، وإذا ساء الخُلق أبغضه الخَلْق».

وكم نحس بذلك إذا أغوانا الشيطان وأغرانا الهوى فتطاول بعضنا على بعض بلفظ خشن وبسوء أدب لم نعرفه أيام الابتداء الزاهرة، وبسوء ظن لُبّس علينا فيه تحت ذريعة الحرية في النقد تارة ومصلحة الدعوة تارة أخرى، وإذا دققت فلا ترى جمال النقد ولا عذوبة الحرية ولا مصلحة الدعوة، إنما تجاذب إغواء وإغراء وتلبيس إبليس!

يقول محمد أحمد الراشد حفظه الله: هي سلاسل مقيدة موثقة، كما أنها سلاسل متتابعة متوالدة، تلك العيوب الثالمة الثالبة، تشل صاحبها عن حيوية في الخير وحراك، وتشده إلى أرض الجمود.

ولا يفك قيود هذه السلاسل وتلك الأغلال إلا سمو روحيٌّ عميق، وإقبال على الطاعات، وتوبة نصوح من الذنوب، ووقفة مع النفس وتكميلها بالمحاسبة الجادة، وإجبارها بالمجاهدة للصعود إلى مراقي الفلاح منشداً:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها فهو التقى

واصنع كماشٍ فوق أرض

الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

الأخوة شعار الدعوات

ويؤكد الراشد في «الرقائق»: الأخوّة شعار دعوتنا.

التسبيح في دقائق الأسحار الغالية، والتعامل الأخوي الإيماني؛ ركيزتان متلازمتان تقوم عليهما الجماعة المسلمة، وعينان نضاختان تسكبان خيراً للدعاة لا ينضب.

والشاعر إقبال يسير مع زمرة القلب الواحد فيضفي شعاعاً نورانياً أخوياً يؤكد فيه وحدة القلب مع وحدة اللفظ:

نحن من نعمائه حلف إخاء***  قلبنا والروح واللفظ سواء

ونحن في مؤسستنا الدعوية لنحتاج هذه القيم والأنوار زاداً ودعماً لتعزيز معايير التميز والقلب الواحد والفريق الواحد، التي وصفها إقبال:

كل فرد بأخيه ائتلفا

مثل در في سموط ألفا

لفهم في عيشهم معترك

كل فرد بأخيه ممسك

من جذاب تتوالى الأنجم

كوكب من كوكب مستحكم

ونختم جولتنا مع التابعي مالك بن دينار يرحمه الله تعالى الذي يعتبر الأخوّة روح الدنيا فيقول: “لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان، والتهجد بالقرآن، وبيت خال يُذكر الله فيه”.

——

* المصدر: مجلة المجتمع (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة