الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

من مقومات الداعية الناجح.. الارتقاء الإيماني والروحاني

د. علي عمر بادحدح

إن التميز في مجال الإيمان -عقيدةً صحيحةً، ومعرفةً جازمةً، وتأثيراً قوياً- يعد بلا نزاع أهم المقومات وأولى الأولويات بالنسبة للداعية، لكي يكون 1373459896الداعية عظيم الإيمان بالله، شديد الخوف منه، صادق التوكل عليه، دائم المراقبة له، كثير الإنابة إليه، لسانه رطب بذكر الله، وعقله مفكر في ملكوت الله، وقلبه مستحضر للقاء الله، مجتهد في الطاعات، مسابق إلى الخيرات، صوام بالنهار قوّام بالليل، مع تحري الإخلاص التام، وحسن الظن بالله وهذا هو عنوان الفلاح، وسمت الصلاح، ومفتاح النجاح؛ إذ هو تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله، وهي التي تجلب التوفيق من الله، فإذا بالداعية مسدد، إن عمل أجاد، وإن حكم أصاب، وإن تكلم أفاد.

وهذا الباب واسع الجوانب متعدد المستلزمات، وحسبي أن أبرز أهم هذه الجوانب:

أولا- عظمة الإيمان بالله:

أساس كل أمر هو تجريد التوحيد، والبعد عن الشرك ولا بد أن يكون الداعية صحيح الإيمان، خالص التوحيد، عنده من العلم ما يعرِّفه بالله وربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن تستقر هذه المعرفة في سويداء قلبه، وتملك عليه أقطار نفسه، وتجري مع الدماء في عروقه، وأن ينعكس ذلك على سائر أحواله فتنضبط به أفكاره وآراؤه، وتُحكم به كلماته وألفاظه، وتُقوَّم به أفعاله وأعماله.

 ويجمع ابن القيم هذا المعنى في عبارة أشمل وأعمق؛ حيث يقول في بيان المراد أنه “التزام عبوديته من الذل والخضوع والإنابة، وامتثال أمر سيده، واجتناب نهيه، ودوام الافتقار إليه، واللجأ إليه، والاستعانة به، والتوكل عليه، وعياذ العبد به ولياذه به، وألا يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفاً ورجاءً.

 وفيه أيضاً أنه عبد من جميع الوجوه: صغيراً وكبيراً، حياً وميتاً، مطيعاً وعاصياً معافى ومبتلى، بالروح والقلب واللسان والجوارح. وفيه أيضاً أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما يملك لسيده. وفيه أيضاً أنك أنت الذي مننت علي بكل ما أنا فيه من نعمة؛ فذلك كله من إنعامك على عبدك. وفيه أيضاً أني لا أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إلا بأمرك، كما لا يتصرف العبد إلا بإذن سيده، وإني لا أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فإن صح له شهود ذلك فقد قال إني عبدك حقيقة” (الفوائد: 35، 34)، ولا يتصور للداعية نجاح وتوفيق، أو تميز وقبول دون أن يكون حظه من الإيمان عظيماً “إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلاتك به واهية ومعرفتك به قليلة” (مع الله: 188).

وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي تخفى على الناس ولا يعلمها إلا علام الغيوب، إلا أن آثار ذلك تظهر بوضوح في الأقوال والأفعال فإن “عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه” (زاد المعاد: 2/87)، كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار الإيمان الصحيح المتحرك.

 ومن أبرزها:

1_ التحرر من عبودية غير الله:

الإيمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الأرض، وكل شهوات الدنيا، ويصبح حراً لا سلطان لأحد عليه إلا لله، فلا يخاف إلا الله، ولا يذل إلا لله، ولا يطلب إلا من الله، ولا يأمل إلا من الله، ولا يتوكل إلا على الله، وللإيمان تأثير كبير في أعظم أمرين يسيطران على حياة البشر وهما: الخوف على الرزق، والخوف على الحياة.

 أما الأول: فلا يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال، وكم شغل الناس حبُّ المال، وكم باع أناس مبادئهم، وخانوا أمتهم وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذَّهب بأبصارهم وسبى قلوبهم، أما المؤمن فحقائق الإيمان تملؤ قلبه فلا يتأثر بشيء من هذا لأن في قلبه قول الحق جل وعلا ] وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ[ (الذاريات: 22)، ولأنه يعلم من بيده الرزق ]فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ [(العنكبوت: 17)، وأنه لا يملك أحد من البشر من ذلك شيئاً ]إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا[ (العنكبوت: 17]، وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق في الدنيا وقيمته المحدودة، ويرتبط بقوله تعالى ]وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [(طه: 131)، وقوله ]إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ [ (ص: 54)، وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء” أخرجه الترمذي كتاب الزهد، باب ما جاء في هوان الدنيا على الله، حديث رقم (2320). ومن هذه المنطلقات الإيمانية قال الشافعي رحمه الله:

أنا إن عشت لست أعدم قوتاً        وإذا مت لست أعدم قبراً

همتـي همة الملـوك ونفسي          نفس حر ترى المذلة قهراً

وأما الثاني: فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله، وأنه لا ينجي حذر من قدر، وأن الأمة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأن الموت ليس بالإقدام وأن السلامة ليست بالإحجام بل كما قال تعالى ]أ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ[ (النساء: 78)، ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره، فبينما ترتجف القلوب وتنسكب الدموع، وتعلو التوسلات، وتقدَّم التنازلات، حرصاً على الحياة، نجد المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائلاً:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً         على أي جنب كان في الله مصرعي

ويتذكر قول علي بن أبي طالب:

أي يوميَّ من الموت أفر     يـوم لا يقـدر أو يوم قُدر

يوم لا يقدر لا أرهبـه     ومن المقدور لا ينجو الحذر

ويتذكر المؤمن حال أنس بن النضر يوم شمَّ رائحة الجنة في أحُد فمضى في شوق إلى عناق الموت، ويدرك عمق إيمان عمير بن الحمام عندما استطال – لأجل أكل تمرات – هذه الحياة، ويقف على سرّ الإيمان العظيم عندما يهتف الشهيد قائلاً: فزت ورب الكعبة، ولا ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهدَّودا بالموت هتفوا قائلين ]فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [ (طه: 72).

2- الخشية من الله:

وهي من أعظم آثار الإيمان وأبرز أوصاف المؤمنين ]الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [(الأنبياء:49)، ]الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا [ (الأحزاب: 39)، وقدوتهم في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: “إني لأخشاكم لله وأتقاكم له” أخرجه البخاري في كتاب النكاح، كتاب الترغيب للنكاح (الفتح:9/104)، “والخشية أخص من الخوف، فهي مقرون بمعرفة” تهذيب مدارج السالكين (ص:269) وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن الغافلين والعابثين لأن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله، فقهُ ذلك أنطق إبراهيم بن سفيان بالحكمة فقال: “إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها” تهذيب مدارج السالكين (ص:270) وقال الفضيل بن عياض: “من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد” نزهة الفضلاء (2/661) وهذه الخشية دافعة  للطاعة “وما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله” نزهة الفضلاء (1/513) والداعية له رتبة عليا من الإيمان “تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة تخامر نفسه أمام ذي سلطان” مع الله (ص:190).

والخشية أساس مراقبة الله ترقي بالمؤمن إلى درجة الإحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه.

 

ثانيا- الإخلاص لله:

“الإخلاص لله روح الدين ولباب العبادة وأساس أي داع إلى الله” مع الله (ص:201) وهو “في حقيقته قوة إيمانية، وصراع نفسي، يدفع صاحبه – بعد جذب وشد – إلى أن يتجرد من المصالح الشخصية، وأن يترفع عن الغايات الذاتية، وأن يقصد من عمله وجه الله لا يبغي من ورائه جزاءً ولا شكوراً” صفات الداعية النفسية (ص:12) فالمخلصون “أعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده” تهذيب مدارج السالكين (ص: 68) والإخلاص للداعية ألزم له من كل أحد وأهميته تفوق كل أمر، وهو استجابة لأمر الله ]وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [(البينة: 5]، وفي تركه خوف من الحرمان برد الأعمال ومنع التوفيق لأن الله جل وعلا قال في الحديث القدسي “أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه” أخرجه مسلم، كتاب الزهد، باب الرياء (النووي) (18/115) وفيه وقاية من عذاب الآخرة الذي توعد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من عمل بلا إخلاص عندما ذكر أول ثلاثة تسعّر بهم النار وهم قارئ وغني ومجاهد لم يقصدوا بأعمالهم وجه الله (أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة واستحق النار  (عبد الباقي) (3/1514،1513).

فلا بد والأمر كذلك من تحري الإخلاص والحذر مما يضاده فإنه “لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت” (الفوائد: 195)، “والمفروض أن الداعية العارف بالله قد بلغ من منازل الإيمان منزلة تجعل رجاءه في الله وحده يسبق كل رغبة إلى مخلوق” (مع الله: 190)، والإخلاص يجعل للكلمات حيوية مؤثرة، وللدعوة قولاً سريعاً.

 

ثالثا- حسن الصلة بالله:

والمقصود بها إقامة الفرائض، والاستكثار من النوافل، والاشتغال بالأذكار، والمداومة على الاستغفار وكثرة التلاوة القرآنية، والحرص على المناجاة الربانية، وغير ذلك من القربات والطاعات، لأن العبادة زاد يتقوى به الداعية، فالصلاة صلة بينه وبين مولاه، ولا مناص من تميزه في حرصه عليها، وتبكيره إليها، وخشوعه فيها، وتطويله لها، وشهودها مع الجماعة وله في ذلك قدوات سالفة فسعيد بن المسيب “ما فاتته الصلاة في الجماعة  أربعين سنة” (نزهة الفضلاء: 1/370)، “والربيع بن خيثم كان يقاد إلى الصلاة وبه الفالج، فلما روجع في ذلك قال: إني أسمع حي على الصلاة فإن استطعتم أن تأتوها ولو حبواً” (نزهة الفضلاء: 1/381)، ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر مع ما ورد في أدائهما خصوصاً من تعظيم الأجر، وما جاء في فواتهما من التحذير من الإثم والوزر، وقد ترخص كثيرون في ذلك فلا يهمهم التبكير، ولا يعنيهم إدراك التكبير، ولست أدري ما يقول هؤلاء إذا سمعوا مقالة إبراهيم بن زيد التيمي: “إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه” (نزهة الفضلاء: 1/468) وبماذا يعلقون إذا علموا أن سعيد بن عبد العزيز التنوخي “كان إذا فاتته صلاة الجماعة بكى” (نزهة الفضلاء: 2/611).

 والحقيقة أن الأمر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض الدعاة كثير وخطير، ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر.

والذكر عظيم المنزلة فهو “منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عُزل، وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجسام لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بوراً، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الحريق، ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منه القلوب” تهذيب مدارج السالكين (ص:463)، والذكر هو العبادة المطلوبة بلا حد يُنتهي إليه ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [(الأحزاب: 41)، وبلا وقت تختص به، ]ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى[ طه [130] وبلا حال تستثني منه ]الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ[ (آل عمران: 91)، والذاكرون هم السابقون إشارة إلى حديث أبو هريرة: “سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات” أخرجه مسلم، في كتاب الذكر والدعاء، باب الحث على ذكر الله تعالى (النووي)(17/4)، في رياض الجنة يرتعون إشارة إلى حديث أنس بن مالك: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر” أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن غريب. (انظر الترغيب والترهيب 2/ 408،407)، وبوصية المصطفى صلى الله عليه وسلم يعلمون (إشارة إلى حديث عبد الله بن بشر، أن رجلاً قال: “يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله” رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب (انظر الترغيب والترهيب 2/394)، وبمباهاة الملائكة يسعدون “إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمن جلسوا يذكرون الله، حيث قال: ولكنه أتاني جبريل وأخبرني أنَّ الله عز وجل يباهي بكم الملائكة” أخرجه مسلم، في كتاب الذكر، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر (النووي)(17/23).

والاستغفار من أعظم الأذكار وكان المصطفى عليه الصلاة السلام يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (الفتح11/101) وأخبر أمته أن “من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً، ومن كل هم فرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب” أخرجه أبو دواد في كتاب الصلاة، باب الاستغفار (1518)(2/178) ولذا فلا بد للداعية من الأذكار ليحيي الله قلبه، ولا بد له من الاستغفار ليمحو الله ذنبه.

وأعظم الذكر تلاوة القرآن التي هي من أقوى الصلات بالله التي يحتاجها الدعاة، ولها أثرها في الواقع الدعوة والحياة “ومن الصلة بالله إعزاز كتابه وإدمان تلاوته وتدبر معانيه، وعقد مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها، والواقع الذي ثوى الناس فيه لتكون هذه المقارنة حافزاً على تذكير الناس بالحق، وقيادتهم إلى الله، وتأهيلهم. وقرب الداعية من كتاب الله يجب أن يكون متعة لروحه وسكناً لفؤاده وشعاعاً لعقله، ووقوداً لحركته ومرقاة لدرجته” (مع الله: :191)، والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا سخاباً ولا صياحاً ولا حديداً” (الفوائد: 192).

والخلاصة أن التميز الإيماني من أعظم أسباب نجاح الداعية، إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ولا قوة البرهان ولا كثرة الأعوان، بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه ولا شك “أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى سبيله، لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أوضح” (مع الله: 190)، ونحن نريد روحانية إيجابية، لا انعزالية ترتكز على العبادات والأوراد بعيداً عن التفاعل مع الحياة وما فيها من هموم ومعاناة، نريد “روحانية إيجابية تحفزه للتضحية وتستهدف الشهادة وتعمق الحاجة إلى رضا الله لتغدو هاجساً يومياً يلاحق كل مواطن رضاه في عملية تدقيق ومعاناة تجعله يعيش مع عقيدته في أفكاره ومشاعره وفي علاقاته ومطامحه، فتتحول في داخل ذاته إلى هم يومي متحرك يراقب الأشياء من خلاله، ويحدد موفقه منها على أساسه” (الحركة الإسلامية هموم وقضايا: 14).

وهناك تقصير ظاهر لدى بعض الدعاة والجماعات الإسلامية في العناية بهذا الجانب المهم وكثيراً ما يكون ذلك بسبب تضخم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية وغيرها، ولذا صار يرى بعض من ينتسبون إلى الدعوة وهم مقصرون في معرفتهم وصلتهم بالله.

* المصدر: كتاب مقومات الداعية الناجح للدكتور بادحدح (بتصرف يسير).

مواضيع ذات صلة