د. يوسف القرضاوي
الدعوة إلى الله مستويان؛ فهناك الدعوة المأمور بها كل مسلم، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. فكل من اتبع رسول صلى الله عليه وسلم فهو داع إلى الله، وداع على بصيرة، ولكن حسب مقدرته، وحسب علمه، فقد يدعو إلى الله بالكلمة الطيبة، بالأسوة الحسنة، بالخلق الكريم، بحسن المعاشرة للناس والمصاحبة لهم، بأن يهدي لهم كتابًا يقرؤونه، أو يصحب الشخص ويدله على سماع محاضرة، أو يقول له: تعالَ نسمع معًا محاضرة لفلان، أو تعال نحضر خطبة الجمعة عند الخطيب الفلاني. هذا حظه من الدعوة، وهذه الدعوة مأمور بها كل مسلم.
وهناك مستوى خاص، يقوم به المؤهَّل له، يدعو عن طريق إلقاء خطبة جمعة على منبر، أو إلقاء محاضرة في جامعة، أو في نادٍ، أو في جمعية، أو في مركز ثقافي، أو بكتابة مقال في صحيفة، أو بتأليف كتاب، أو بإلقاء درس في مسجد، وهذا المستوى له شروط لا بد أن يكون هذا الداعية مستجمعا لها، فكما قلنا: إن من شروط المجتهد العلم بالقرآن، والعلم بالسنة، والعلم بالإجماع والخلاف، والعلم بأصول الفقه والقياس، والعلم باللغة العربية، والملكة الفقهية، ومعرفة أحوال الناس، فالداعية أيضًا له شروط، أول شرط من شروط الدعوة أن يكون مثقَّفًا.
الثقافة الدينية
أنا لي كتاب اسمه: (ثقافة الداعية)، ذكرتُ فيه أن الداعية لا بد أن يكون مسلَّحًا بأنواع من الثقافات: الثقافة الأولى: الثقافة الدينية، ونعني بذلك المعرفة بقدر من التفسير وعلوم القرآن، والمعرفة بقدر من الحديث وعلوم الحديث، وبقدر من الفقه وأصول الفقه، والمعرفة بالعقيدة وأصول العقيدة، والمعرفة بالسيرة النبوية، هذه ثقافة لا بد أن يكون عنده منها قدر معين، وذكرتُ في هذه الأشياء تنبيهات مهمة ينبغي أن تراجع في هذا الكتاب.
الثقافة الأدبية واللغوية:
ثم هناك الثقافة الأدبية واللغوية، أي: لا بد أن يكون عارفًا باللغة العربية، عارفًا بآدابها، متذوقًا للأدب العربي، حتى يحسن التعبير عن نفسه، ويكون كلامه سائغًا ومقبولًا، وإذا لم يكن عارفا باللغة العربية سيقع في أخطاء كثيرة، ذكرت في كتابي أمثلة لها، فهذا أيضًا أمر لا بد منه.
الثقافة التاريخية:
كذلك لا بد أن يكون لديه ثقافة تاريخية، يعرف التاريخ عامة، والتاريخ الإسلامي خاصة، بدءًا من السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، وسير الصحابة، وخير قرون الأمة، ويعرف النقاط المضيئة في التاريخ الإسلامي، لا يعرف الجوانب المظلمة من تاريخنا وينسى الجوانب المضيئة، فينبغي أن يعرف التاريخ الإسلامي من ينابيعه الصافية معرفة متوازنة.
الثقافة الإنسانية:
ثم من ناحية أخرى لا بد من ثقافة رابعة، وهي الثقافة الإنسانية، يكون عنده قدر من الإلمام بالعلوم الإنسانية، عنده شيء من علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم التربية، عنده قدر من هذه العلوم التي تتصل بأحوال الإنسان وأحوال المجتمع، وأن يعرفها من منظور إسلامي، ومن منطلق إسلامي، وفلسفة إسلامية، لا يعرفها أو يأخذها من الغربيين بما فيها من إسقاطات لا دينية أو إلحادية أو مادية، هذه هي الثقافة الرابعة.
الثقافة العلمية:
ثم هناك ثقافة خامسة، وهي أن يكون لدى الداعية قدر من الثقافة العلمية، أن يعرف شيئًا من العلوم والرياضيات، وعلم الأحياء، والفيزياء والكيمياء، وعلم الفلك، بعض هذه الأشياء لا بد منها، حتى يعرف الكون من حوله.
الثقافة الواقعية:
ثم هناك ثقافة سادسة، وهي الثقافة الواقعية، ثقافة الواقع، أن يكون عارفًا بالواقع كما هو، بلا تهوين ولا تهويل، لا يهون من الأمور العظيمة، ولا يهول في الأمور اليسيرة، يكون عادلًا مع الواقع.
هذه الثقافات لا بد منها للداعية، لا يدعو الناس وهو خالي الوفاض، ليس عنده شيء، هو فقط يحفظ كلمات كالمسجِّل فيقولها، الكلام الذي يقوله في الشرق هو ما يقوله في الغرب، وما يقوله للعرب هو ما يقوله للعجم، لا، ليس هذا هو الداعية، لا بد أن يكون عنده حصيلة قوية من الثقافة.
أن يكون الداعية مؤمنًا بما يدعو إليه:
ثم من ناحية أخرى أن يكون مؤمنًا بما يدعو إليه، فالإنسان إذا لم يكن مؤمنا بما يدعو إليه لن يكون متحمِّسًا له، وسيظهر هذا على مستمعيه، وعلى المتلقين عنه، والقارئين له إذا كان يكتب، لا بد أن يكون مؤمنًا كل الإيمان بما يدعو إليه، وإذا كان أهل الباطل يؤمنون بباطلهم، فلا بد لأهل الحق أن يؤمنوا بحقهم، إذا كان اليهودي والنصراني والوثني والشيوعي والملحد يدعون إلى مذاهبهم وفلسفاتهم وهم مؤمنون بها، وهم مستعدون للبذل في سبيلها، ويدخلون السجون من أجلها، فإن أهل الحق وأهل الدين الخاتم لا بد أن يكونوا مؤمنين بحقهم ودينهم.
أن يكون الداعية قدوة فيما يدعو إليه:
ولا بد أن يكون الداعية قدوة فيما يدعو إليه، النبي صلى الله عليه وسلم وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها حين سُئِلتْ عن خلقه، فقالت: كان خلقه القرآن(1). فينبغي أن يكون خلق الداعية القرآن، أن يكون قرآني الأخلاق، محمدي السيرة والصفات، فهذا أمر أيضًا لا بد منه.
أن يخاطب الداعية كل قوم بلسانهم:
ثم عليه أن يخاطب كل قوم بلسانهم، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4]. وأنا أقول في هذه الآية: ليس معنى بلسان قومه فقط أن يخاطب العرب بالعربية، والإنجليز بالإنجليزية، والألمان بالألمانية.. لا، ولكن أيضا أن يخاطب الخواص بلسان الخواص، والعوام بلسان العوام، يخاطب أهل القرية بلسان أهل القرية، وأهل المدينة بلسان أهل المدينة، ويخاطب الناس في أوربا بلسان أهل أوربا، لا يخاطبهم بلسان أهل الشرق.
ما معنى لسانهم؟ اللسان تعبير عن العقلية، عقلية الإنسان، فلكل قوم لسان، كما قال الإمام الشافعي: لسان اليونان غير لساننا. أي: عقليتهم غير عقليتنا، وتفكيرهم غير تفكيرنا. فلا بد أن يكون المدخل إلى عقولهم وقلوبهم غير المدخل إلى عقولنا وقلوبنا، تدخل إلى كل قوم بما يناسبهم، من الناس من تحدثهم عن الحرية والعدالة الاجتماعية، ومنهم من لا يحتاجون لذلك؛ لأن بلادهم تتمتع بالحريات، لكنهم يحتاجون إلى الدفقة الروحية، يحتاجون إلى الإيمان بالله والدار الآخرة.
فعلى الداعية أن ينظر ماذا يحتاج من يخاطبهم، بعض الدعاة يذهب إلى أوربا وأمريكا فيحمل حملة على الأضرحة، وزيارة الأولياء، والناس لا عندهم أضرحة، ولا أولياء، ولا قبور، فلا بد أن يعرف الداعية من يخاطب.
المدعوون ليسوا صنفًا واحدًا:
هذه شروط أساسية، وعلى الداعية الذي يريد أن يؤثر فيمن يدعوه أن يتحلى بهذه الشروط، وعليه أن يعلم كذلك أن المدعوين ليسوا صنفًا واحدًا، فدعوة غير المسلم ليست كدعوة المسلم، والمسلم الملتزم غير المسلم العاصي، والمسلم العاصي غير المنافق، الذي يدعي الإيمان وليس له من الإيمان شيء يذكر، هناك من المدعوين من يحتاج إلى أن تأخذه بالعزائم، وهناك من يحتاج أن تفتيه بالرخص، إذا كان المدعو مسلما قوي الإيمان فهذا يحتاج إلى العزائم، لكن المسلم ضعيف الإيمان المسرف على نفسه يحتاج إلى الرخص وإلى التيسير، المدعو الحديث العهد بالتوبة بعد أن كان طوال عمره غارقًا في المعصية، نحاول أن نرغبه أن نخفف عليه، ولا نشدد عليه، كذلك من كان حديث عهد بالإسلام.
بعض الناس يأتيه من يريد أن يدخل في الإسلام، فيسأله ماذا عليَّ إن أسلمت؟ فيقول له: عليك أن تصلي الصبح ركعتين فرضًا، وركعتين سنة، وتصلي قبل الظهر أربعا سنة قبلية والظهر أربعا فرضا وبعده أربعا سنة بعدية… يا أخي قل له: عليك فقط أن تصلي ركعتين في الصبح، وأربعا في الظهر، وأربعا في العصر، وثلاثا في المغرب، وأربعا في العشاء. لا تأتي له بالسنن في أول الأمر، النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه رجل أعرابي يسأله: ما الإسلام؟ قال له: “خمس صلوات في اليوم والليلة”. فقال: هل عليَّ غيرهن؟ قال: “لا، إلا أن تطوَّعَ. وصيام شهر رمضان”. فقال: هل عليَّ غيره؟ فقال: “لا، إلا أن تطوع”. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: “لا، إلا أن تطوع”. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله، لا أزيد على هذا، ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أفلح إن صدق”(2).
وفي حديث مماثل أن أعرابيًّا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال: “تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان”. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما ولَّى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا”(3).
فأداء الفرائض هو المهم، فمن يدخل الإسلام جديدًا، تذكر له الفرائض دون النوافل، وتذكر له المحرمات القطعية فقط، وليس الأمور المشتبه فيها، كالخلافيات والمكروهات، لا ينبغي الإكثار عليه، بل أول ما نؤكده اجتناب الكبائر، فالإنسان الذي يؤدي الفرائض، ويجتنب الكبائر، نرجو إن شاء الله أن يكون من الناجين، الله تعالى يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]. والكبائر قد تكون فعل محظور، مثل الزنى، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم.. إلى آخر هذه الأمور، التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم: الموبقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “اجتنبوا السبع الموبقات”. قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: “الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات”(4).
وقد تكون الكبائر ترك مأمور، مثل ترك الصلاة، أو منع الزكاة، أو الإفطار في نهار رمضان دون عذر شرعي، أو تعمد ترك الحج والإعراض عنه، فإذا اجتنب الإنسان الكبائر بقسميها، وأدى الفرائض، فهذا نرجو- إن شاء الله – أن يكون من الناجين.
بعد ذلك حينما يرتقي الشخص، ويؤدي الفرائض، ويلتزمها، ويواظب عليها، ويكون عنده الشوق والرغبة أن يزداد قربا من الله، نبين له أن هناك أشياء غير الفرائض، هناك السنن المؤكَّدة، ففي الصلاة هناك ركعتان قبل الفجر، وركعة الوتر، وهناك ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعد الظهر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، بعد ذلك نقول له: هناك صلاة الضحى، وهناك قيام الليل.
وبالنسبة للصيام نقول له: هناك صيام آخر بعد صيام رمضان، هناك صيام يوم عرفة، أو التسع من ذي الحجة، وهي أفضل أيام السنة، وهناك صيام تاسوعاء وعاشوراء، وهناك صيام الستة أيام من شوال، وهناك صيام ثلاثة أيام من كل شهر عربي، وهناك صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع.. وهكذا.
ثم نقول له: إن الزكاة هي الفريضة، لكن هناك صدقات مندوبة، وهناك الإيثار، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]. {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8]. وهكذا يرتقي المدعوُّ شيئًا فشيئًا.
كذلك في جانب المنهيات نقول الكبائر هذه أعلى شيء، لكن هناك الصغائر المحرمة، وهناك الشبهات، “فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه”(5). وهناك المكروهات، وهناك خلاف الأولى، نترقى بالشخص شيئًا فشيئًا.
نسأل الله أن يجعلنا من الدعاة الموفَّقين، الذين يضعون الأمور في نصابها، ويخاطبون كل قوم بلسانهم.
—-
* الموضوع بتصرف من موقع الدكتور القرضاوي الشخصي على الإنترنت.
…………
(1) رواه مسلم في صلاة المسافرين (746)، وأحمد (24601)، عن عائشة.
(2) متفق عليه: رواه البخاري (46)، ومسلم (11)، كلاهما في الإيمان، عن طلحة بن عبيد الله.
(3) متفق عليه: رواه البخاري في الزكاة (1397)، ومسلم في الإيمان (14)، عن أبي هريرة.
(4) متفق عليه: رواه البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89)، عن أبي هريرة.
(5) متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، عن النعمان بن بشير.