أعظم ما يكتسبه المؤمن بعد إيمانه بالله ورسوله خلق حسن، فالأخلاق مكانها في الإسلام معروف ومشهور، فـ((أفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً))”رواه الخمسة وصححه الألباني”، و((ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق))”رواه الترمذي وصححه الألباني”، بل حسن الخلق هو ثمرة دعوة الإسلام كما صح من حديث أبي هريرة عن سيد الخلق – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) هذا بالنسبة لعموم المسلمين، أما بالنسبة للدعاة فليس حسن الخلق مجرد فضيلة ومكرمة فحسب؛ وإنما هو شرط للنجاح والتوفيق، وسبب لإقبال الناس عليهم وعلى دعوتهم، ويمكن القول: إن حسن الخلق هو واحد من أهم مؤهلات الدعاة، وبدونها لا يمكن سلوك سبيل الدعوة بحال، ومن دعا إلى الله بغير أخلاق كان ضرره على الدعوة أكبر من نفعه لها.
والداعية مدعو للتحلي بكل خلق جميل، ولكن هناك أخلاق مقدمة ينبغي الاعتناء بها، والتركيز عليها، ويمكن تقسيم هذه الأخلاق إلى قسمين:
الأول: أخلاق التحلي بها مما يكسب ثقة الناس واحترامهم، وإذعانهم له.
الثاني: أخلاق يحتاجها الداعي في نفسه، وتعينه على الانتفاع بدعوته.
فالقسم الأول يقصد به الأخلاق المحبوبة للناس بأصل الفطرة، ويعود نفعها على كل من يتعامل مع الداعية كالصدق والأمانة، والإحسان إلى الناس، وإغاثة الملهوفين، ونجدة المستغيثين وأمثال ذلك.
وهذه هي أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة، وهي علامات التوفيق، وعدم الخذلان؛ كما استدلت على ذلك الرشيدة الفاضلة أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – حين قال لها النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((لقد خشيت على نفسي)) قالت: “كلا و الله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم…” الحديث.
فهذه الأخلاق هي التي تقبل بقلوب الناس وعقولهم على الداعية حتى يستأمنه الناس على أموالهم وأسرارهم وودائعهم، ولقد كان أشهر وصف لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة هو “الصادق الأمين”، وما أكرمه من وصف.
وسمعة الداعي تسبق إلى الناس فيستفتح بها قلوبهم لقبول دعوته.
والقسم الثاني: أخلاق تلزم الداعي في نفسه، وتعينه على دعوته:
ولولا أن العلم صفة لكان أولاها، ولكنا نتحدث عن الأخلاق … فأولها بلا منازع:
أولا- الصدق مع الله:
أعني الإخلاص، وهو أس القبول وركنه، وهو حامل على عدم المحاباة في الدين والمداهنة، أو المزايدة عليه، فالله هو المقصود، والنتائج عليه وحده، وكم من عمل حسن كبير صغرته النية، وكم من عمل صغير عظمته النية، فالإخلاص والصدق نافع للعبد في دنياه وكذلك في أخراه: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (المائدة: 119).
ثانيا- الصبر:
وهو نوعان: صبر في مجاهدة النفس، وصبر على أذى المدعوين.
فالداعية أكثر الناس عرضة للأذى، ومعارضة الخلق، وعنادهم ومحاربتهم “واعتبر بالأنبياء والمرسلين فهم أكثر الناس بلاء”، فطريق الدعوة كله مشقات وصعوبات، وتحديات وتضحيات، وكل هذا يحتاج إلى صبر ومصابرة، وفاقد الصبر هو أضعف الناس على مواجهة الحوادث، وأبعدهم عن تحصيل المآرب، وتحقيق الأهداف، وبلوغ الآمال؛ وقد أشار القرآن إلى مثل هذا الأمر منذ بداية الطريق مع أول سور القرآن: {يَاأَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}؛ فكأنه يقول له: “طريق الدعوة كله عقبات فوطن نفسك من أول الأمر على الصبر، وكذلك قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17)، فمن دعا إلى المعروف، وأمر به، ونهى عن المنكر؛ لابد وأن يلحقه الأذى ويصيبه، وليس له عزاء إلا الصبر قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، وقال: {وَالعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
والخلاصة أنه لا يقدر على تحمل إساءات الناس إلا من تجمل بالصبر، وتحلى بالحلم واللين والرحمة، وتخلى عن الجهل والجفاء والغلظة: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصِّلت: 35).
ثالثا- الشفقة والرحمة:
وهو خلق يقتضي اللين والبشاشة وهما وسيلة لتأليف القلوب، وجذب النفوس.
ولا ينبغي للداعية أن ينظر إلى المدعوين على أنهم أصحاب معاص وقروف فيتعالى عليهم، وإنما يرحمهم ويشفق عليهم من عاقبة ما هم فيه، فهو يبذل وسعه، ويستفرغ طاقته في نجاتهم بعطف الأب الشفوق، وبرحمة الأم الحنون التي تخشى على ولدها من العقاب، بل هو أولى فهو يخشى عليهم النار، وما أجمل ما صور النبي – صلى الله عليه وسلم – به حال الداعية من الرحمة والشفقة على المدعوين ورحمته بهم، وحب النجاة لهم؛ كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم قال -عليه الصلاة والسلام-: “إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم، وأنتم تقحمون فيها”.
إن غاية الدعاة ليست إهلاك الناس لنصر الحق، وإنما نصرة الحق بدعوة الناس إليه، حتى إن كل نفس تموت على غير الإسلام تعود بالهم والحزن على الداعية لأنها أفلتت من دعوته، ووقعت في قبضة إبليس، وهذا الحزن الذي كاد يقتل النبي – عليه الصلاة والسلام – حتى نهاه الله عن ذلك فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 3)، يعني قاتلها من الحزن عليهم … ثم قال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفًا} (الكهف: 6)، ثم قال له: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8).
وتأمل قوله – عليه الصلاة والسلام – لملك الجبال حين عرض عليه أن يطبق الأخشبين على الذين آذوه وأدموه، وسخروا منه واستهزؤوا به فقال: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً))”متفق عليه”.
رابعاً- التواضع وخفض الجناح:
وهو خلق لازم لمن أراد التوفيق، فإن المتكبر مصروف عن الهدى، محروم من الرشد، محال بينه وبين التوفيق، والناس مجبولون على حب من أحسن إليهم، وبغض من تكبر عليهم، ولذلك قال الله لنبيه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ)الشعراء:215.
وقد روى مسلم عن أنس – صلى الله عليه وسلم – أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك، فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها) فما منعه ضعف عقلها من أن يسير معها حتى يقضي لها حاجتها.
وروى مسلم أيضاً عن أنس قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيها، فربما جاءوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها.
إن هذه الأخلاق هي عدة الداعية، وسلاحه في معركته في دعوته، وهناك أخلاق أخرى يحتاجها الدعاة.. بل كل خلق كريم طيب فهم أولى الناس به، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، والله الهادي إلى سواء السبيل.
——
المصدر: مجلة البيان.