د. مسعود صبري
ما زال فقه الأقليات يعاني عددا من الإشكاليات المعرفية التي لم تحسم حتى الآن، بدءا من التسمية، وانتهاء باستقلاليته بمنهج يخصه دون غيره في المرجعية الفكرية والفقهية والحضارية على حد سواء.
إشكالية التعريف
أما إشكالية التعريف فتبدأ برفض البعض تسمية فقه المسلمين في البلاد غير الإسلامية من باب الأقلية، فالإسلام يعلو ولا يعلى عليه، ثم الحديث عن الأقلية يحتاج إلى نوع من المراجعة من حيث العدد والوجود والتأثير، الذي يختلف من بلد إلى أخرى، وهل المقصود هنا أقلية عددية، أم أقلية من حيث النظام و الغلبة والتأثير أم ماذا؟
وينحو البعض نحو تسميته ( فقه الجاليات المسلمة)، وهو من باب تخفيف حدة دلالة لفظ ( الأقلية)، لكنه في الحقيقة لم يخرج عن جوهر دلالة الاسم والمصطلح. والاعتراض هنا في جوهره يصب في التسمية لا أكثر.
ويتجه آخرون إلى تسميته بـ ( فقه الاستثناء)، أو ( فقه الضرورة)، وهو إن اتجه ناحية الموضوع، لكنه لا يعبر عن خصوصية تلك الجماعة المسلمة التي تعيش في بلاد غير المسلمين.
وعلى كل، فميلاد المصطلح يأخذ أطوارا متعددة، بل يأخذ فترة من الزمن حتى يستوي المصطلح من حيث الدلالة، فينتقل من المفهوم إلى الاصطلاح، وربما يستمر فترة زمنية طويلة حتى يستوي.
إشكالية المنهج
تعود أهمية فقه الأقليات إلى كونه فقها يجب أن يقوم على الاستناد الحضاري في ظل عولمة متعددة الأطراف متنامية الأهداف، مع كون البلاد التي تعيش فيها الأقلية وسياساتها ذات تأثير على بلاد المسلمين.
ومن هنا، فإن هناك إشكالية في حدود فقه الأقليات، هل هو يتعلق بالقضايا التي تخص الأقليات دون غيرهم؟ أم أنه يدخل فيها القضايا التي تشترك الأقليات المسلمة مع غيرها من عموم المسلمين، لكن اندراجها تحت فقه الأقليات لمناسبة معينة، قد تكون مسيس الحاجة، أو عموم البلوى، أو نشأة النازلة في تلك البلاد، أو تعلق جزئيات في النازلة بتلك البلاد دون غيرها.
فمثلا: هل الحديث عن الإجهاض بسبب التشوهات له تعلق بفقه الأقليات أم لا؟ أو الإجهاض بسبب الإيدز، وهل شراء البيوت من البنك الربوي هو من باب فقه النازلة الخاصة بالأقليات، أم أنه مشترك مع بلاد المسلمين التي ليس فيها بنوك إسلامية، وربما تتشابه مع حال المسلمين في بلاد غير المسلمين؟
هل الاجتهاد في مثل هذه القضايا له تعلق بفقه الأقليات، أم أنه من سبيل النازلة العامة التي فيها اشتراك بين الأقليات وغيرها؟
والحق أنه يجب التفرقة بين القضية وبين ما يندرج تحتها من مسائل فرعية، فغالب القضايا يصلح أن تندرج تحت فقه المسلمين، أو ( فقه العزيمة)، وبين فقه الأقليات في نفس الوقت.
لكن بحث المسائل الفرعية هي التي يجب أن يفرق فيها بين ما هو خاص بنوازل الأقليات وبين ما هو عام للمسلمين في بلادهم.
ثم إن الفصل الحاد بين فقه الأقليات وغيره لا يجعل للأقليات فقها، فالمسائل التي يمكن اعتبارها خاصة للأقلية قليلة جدا، وذلك في ظل عالم امتزجت فيه الدور ولم تتمايز كما كانت من قبل، فهناك بلاد غير إسلامية ترفع فيه المآذن ويعيش المسلمون فيها آمنين أكثر من بعض البلاد التي يحارب فيها الإسلام وهي تتسمى باسم المسلمين، فتقسيم الدور إلى دار حرب ودار إسلام ما عاد موجودا كمان كان من قبل، ولا يمكن الحكم على بلاد غير المسلمين كتلة واحدة، ولا على بلاد المسلمين كتلة واحدة، بل أحيانا يوجد التباين بين المدن في الدولة الواحدة، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية.
على أنه يبقى لبلاد المسلمين خصوصية في الجملة عن غيرهم، حتى لو كان غالبه يتعلق بالشعائر التي يحافظ عليها الساسة باعتبار أنهم يحكمون بلادا إسلامية، فلابد من المحافظة على بعض الشعائر والمناسبات وغيرها، وهذا في حد ذاته نقطة قوة لبلاد المسلمين عن غيرهم، وإن لم تكن هذه هي الصورة المثلى للإسلام خاصة في بلاد المسلمين.
أما بخصوص منهج الاجتهاد، فإن فقه الاضطرار والاستثناء هو الفقه الذي يندرج تحته فقه الأقليات، لكنه لا يمثله بالكلية، ذلك أن فقه الاضطرار قد يكون في بلاد المسلمين أيضا، فيكون فقه الأقليات نوعا من فقه الاضطرار والاستثناء، لكن الأمر يختلف في تصور المسائل والأسباب مما قد يجعل لفقه الأقلية خصوصية من وجه من الوجوه يتمايز به عن غيره، ويتمايز غيره عنه.
وهذه الخصوصية أيضا قد تكون في بعض بلاد المسلمين ولا توجد في الأقليات، كما أن هناك اشتراكا بين الفقهين، وإن كان البعض يرى أن بعض المسائل شائكة في فقه الأقليات، فهناك في بلاد المسلمين مسائل لا تقل إشكالية من حيث الحاجة إلى الاجتهاد الفقهي في بلاد المسلمين، فاغتصاب المسلمات في بعض الدول الإسلامية من قبل السلطة في الدولة، وقتل الآمنين في بيوتهم بعيدا عن أي دين أو عرف، بل واختراق للقانون أيضا.
حين تكون الدولة حامية للمحرمات، مبيحة للموبقات، لا تمانع من صناعة الخمور والاتجار بها، بل وبعضها يسمح بتجارة الجنس، فأي فرق بين أقلية ودولة مسلمة؟
حين تكون تجارة الجنس تجارة منظمة في دولة مسلمة، وتعد جزءا من الدخل القومي الذي ينفق على الموظفين في قطاعات الدولة.
أو حين يكون غسيل الأموال أو الاتجار في الأسلحة أو غيرها من المحرمات الكبرى ركيزة اقتصادية في بعض الدول.
وحين تكون جيوش بعض بلاد المسلمين تحارب ضد بعض المسلمين لأجل أوزار من الأموال، أو لحسابات لا علاقة له بالشريعة من قريب أو بعيد.
حين تصرح بعض الدول بأن العدو المغتصب لبلاد المسلمين صديق يجب الحفاظ على حياته وشعبه، وفي الجانب الآخر تعادي بعض الدول التي تحاول نصرة الإسلام والمسلمين، أو تعاديها فقط لأنها تخالف سياستها، وربما كانت الأخرى المعاداة أقرب للصواب من الدول المعادية.
لقد وقع في بلاد المسلمين من النوازل في الآونة الأخيرة ما يتطلب فقها جديدا هو أشد من فقه الأقليات المسلمة، مما يعني النظر من جديد في تأسيس أصول فقهية تراعي الظروف والأحوال، وإن أعطت خصوصية لزمان أو مكان، وليتسم بأي اسم كان.
——-
* المصدر: إسلام أون (بتصرف يسير).