د. وصفي عاشور أبو زيد
الخطابة إحدى الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا
الخطيب يذكِّرهم ربهم ويعلمهم دينهم.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة، والمثل الرفيعة، والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر، فتنعش الروح ويتجدد الإيمان؛ فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقّا -في عصرنا الحاضر- أن كثيرا المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها عن إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
فلا يرقى أكثرهم أن يقرأ آية من كتاب الله ويعطيها حقها، أو يروي حديثا صحيحا بنصه عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ، أو يصوغ عبارة صحيحة من ناحية اللغة، فما أصدق ما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي: «ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجالٌ بمعنى الكلمة، لا رجالٌ في أيديهم سيوف من خشب» (وحي القلم: 1/25).
وإني لأعرف أناسا من المصلين يتأخرون عن الخطبة -بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك- ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع الكلام المكرر الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهِب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجها لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، يفقهون دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما أولئك فساحة المسجد أوْلى بهم من منبر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تُعدُّ وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلا أعلى لكل داعية، ونموذجا للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طُرّا محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم – في جموع بلغت عشرات الآلاف.
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال – صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل رِبا موضوعٌ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس ابن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل؛ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد: أيها الناس! فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!
أيها الناس! {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس! فإن لكم على نسائكم حقّا، ولهن عليكم حقّا، لكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوانٍ، لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي! فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبدا، أمرا بينا: كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه! تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلَّغت؟».
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم! فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: «… كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف…» (السيرة النبوية لابن هشام: 6/8 ـ 11 دار الجيل).
في هذه الخطبة من الدروس والعبر ما لو أدركه الدعاة والخطباء لأدت الخطابة رسالتها أحسن ما يكون الأداء.. ومن أهم هذه الدروس:
أولا: الإخلاص والحرص على هداية الناس:
فالإخلاص هو مدار الأمر كله ـ بعد الفقه الكامل لمعنى الخطابة ـ إذ به يصل الكلام إلى القلوب، فيتمثله الناس واقعا عمليا في حياتهم، وبغيره لا يتعدى الكلام الآذان، ولو ملك الخطيب ناصية البيان وقوة الحجة ونصاعة البرهان.
وقد قال ابن عطاء الله السكندري في حكمته الشهيرة: «الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها».
من هنا وجدنا الإخلاص متمثلا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يصيح في هذا الجمع الحاشد: «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا».
إن الذي يعيش الموقف مع هذا الجمهور يشعر أن النبي – صلى الله عليه وسلم – مع الأمة بمثابة الأب مع أبنائه، يريد ألا يدعهم في آخر لقاءٍ بهم قبل أن يُلقي في آذانهم آخر ما لديه من نصح وحب وإرشاد.
وهذا من تمام حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على قومه وإخلاصه لهم: «كان يُحس أن هذا الركب سينطلق في بيداء الحياة وحده، فهو يصرخ به كما يصرخ الوالد بابنه الذي انطلق به القطار، يوصيه بالرشد، ويذكره بما ينفعه أبدا» (فقه السيرة للشيخ الغزالي: 505).
فألقى النبي هذا البيان الجامع الذي هو خلاصة رسالته التي ظل ثلاثا وعشرين سنة يجاهد من أجل إرسائها في الواقع، وعَقْدها في قلوب الأمة.
أفلم تكن تُغني ثلاث وعشرون سنة عن هذا البيان الأخير؟ ولكن النبي الرؤوف الرحيم يريد أن يضع البصمات الأخيرة، والمبادئ الكلية، وأهداف الرسالة وخلاصتها قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى؛ لتظل هذه التوجيهات، وتلك الصيحات حاضرة في أذهانهم، ترددها آذانهم بعد رسول الله أبد الآبدين.
والحق أن الإخلاص والحرص على هداية الناس منهج الأنبياء جميعا؛ فكم تكرر في القرآن الكريم على لسان الأنبياء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 108]، {إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [هود: 26]، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الشعراء: 145]، وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26 – 27]، وغير ذلك.
وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حريصا على هداية قومه؛ فكم قال: «اللهم اهدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون» وحين جاءه مَلَك الجبال وهو في الطائف رد عليه قائلا: «لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا..» وقبل هذا كله قرر الله عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].
وفي هؤلاء الأنبياء جميعا أسوة للدعاة إلى الله الذين يواجهون المجتمع، ويُمسكون بزمام الجماهير إلى الله تعالى.
ثانيا: جذب الجمهور وتهيئته من أول الخطبة:
وقد أطلق النبي – صلى الله عليه وسلم – في البداية عبارته المؤثرة: «لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا». وهنا تشرئب الأعناق، وتتطاول الرقاب، وتترقب الآذان ما يُلقى من وعظ ومن إرشاد.
فهناك من الخطباء من يجعل من الخطبة وسيلة لإنامة الجمهور، فيذهب فريقٌ من الناس للجمعة ليستكمل ساعات نومه، فإذا ما سمع الإقامة صلى مع المصلين وركع مع الراكعين، فلم ينتفع بموعظة، ولم يخشع في صلاة.
إن وسائل الجذب وبراعة الاستهلال أول الخطبة ـ ليتهيأ الناس للكلام ـ لا حصر لها، يملكها الخطيب اللبيب من خلال الواقع الذي يموج بأحداث يعيشها الناس، ومن خلال القضايا المثارة في المجتمع التي ينبغي أن يكون الخطيب على دراية كاملة بها.
ولم يكن هذا الدرس الهام في بداية خطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقط، إنما تخلل مواضع كثيرة منها؛ فكم قال: «أيها الناس!»، وقال: «اسمعوا قولي واعقلوه!»، وقال: «فاعقلوا أيها الناس قولي!» ثم يرمي بالتبعة على كاهلهم حتى يتنبهوا لخطورة الكلام حين قال: «فإني قد بلَّغت» وفي النهاية: «اللهم اشهد!».
والقرآن الكريم يعلمنا هذا الأسلوب في كثير من سوره: فمرة يبدأ السورة بذكر شيء، ثم يستفهم عنه، ثم يعظِّم من شأنه: «الحاقة. ما الحاقة. وما أدراك ما الحاقة»، وقوله: «القارعة. ما القارعة. وما أدراك ما القارعة»، ومرة يفجأ الناس بوقائع مرهبة، وأحداث مرعبة: {إذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 1 – 3] ، ومرة أخرى يثير تساؤلا، ثم يجيب عنه: «عم يتساءلون. عن النبأ العظيم»، ومرة يبدأ بقَسَم ـ والقسم يشير إلى أهمية ما بعده ـ مثل قوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]. إلى آخر هذه الوسائل المثيرة للعقل والوجدان معا.
والخطيب الحاذق هو الذي يتعلم من هذا الكلام المعجز؛ فيوظف أحداث عصره في ذلك، ثم يستهدي الشفاء والدواء من كلام الله ورسوله.
ثالثا: التركيز على المتفق عليه:
لا ينبغي بحالٍ أن تثار قضايا الخلاف على المنبر في حضور هذا التجمع أو في أي تجمع؛ لئلا يُحدث ذلك اضطرابا واختلافا وجدلا بين الناس؛ فما لأجل هذا جُعلت المنابر، إنما جعلت لتثبيت أركان التوحيد، وتقرير شعائر الإسلام، وتوضيح مبادئه الكلية ومقاصده العامة.
لكنَّ هناك نوعا من الخطباء، لا ينقصهم الإخلاص بقدر ما ينقصهم حسن الفهم وعمق التجربة؛ يصعدون المنابر، وليتهم لا يصعدون، من أجل إثارة هذه القضايا التي لم ينتهِ الخلاف فيها أزلا، ولن ينتهي الخلاف فيها أبدا، ويقيمونها مقام أصول الإسلام، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، فينقسم الناس إلى طوائف يتراشقون ويتشاحنون، وليتهم شغلوا أنفسهم بالمتفق عليه ـ وهو كثير ـ أو بقضايا واقعهم المخزي المرير.
إن المتأمل في خطبة الوداع لا يجد فيها إلا أصول الإسلام العامة ومبادئه الكلية التي لا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح عليها عنزان.
من يختلف في حرمة دم المسلم وماله وعرضه، وأداء الأمانة؟ أو من يشك في حرمة الربا؟ أو من ينكر حقوق المرأة التي قررها الإسلام؟ أو من يماري في أن الرابطة العليا هي أخوة الإسلام؟ بل من يتكلم في كلمة النبي الجامعة: «تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه»؟.
وإذا كان هذا هو آخر ما يريد نبي الرحمة أن يطبعه في أذهان الأمة؛ فإن من يثير كلاما في تجمعات الناس وجُمعهم يخالف فحواه هذه التعاليم، يُعد مخالفا لهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خطبه.
يقول الشيخ رشيد رضا معلقا على خطبة الوداع: «إن النبي – صلى الله عليه وسلم – هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية، وقرر قواعد الإسلام، وأمر أن يبلِّغ الشاهد الغائب، ونعى إليهم نفسه، وأشهد الله –تعالى- والمؤمنين أنه قد بلَّغ الدعوة» (خلاصة السيرة المحمدية: 66).
إن إثارة مثل تلك القضايا الخلافية في تجمعات الناس وجُمعهم ليُعدُّ -في رأيي- نوعا من السفه الذي يجب أن يترفع عنه الدعاة الذين أقامهم الله مقام الأنبياء ليُضيئوا ظلمات الأرض بنور السماء.
رابعا: شمول الخطبة أمور الدنيا والآخرة:
من الخطباء من يجعل شغله الشاغل وهمه الأكبر الحديث عن عذاب القبر، وعذاب النار، وسخط الله وعقابه، وقضايا الآخرة عموما، ويعد الحديث عن شؤون الدنيا أمرا لا ينبغي أن يكون موضوع خطبة، أو يحسبه رجسا من عمل الشيطان يجب على الخطباء أن يجتنبوه، فإن الخطبة ـ بزعمهم ـ تقوم على الوعظ الذي يشمل التخويف والترهيب وحسب.
وما نحن بصدده أكبر دحض لهذا، وإن أطول آية في كتاب الله تعالج أمرا دنيويا.
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – في خطبته هذه لم يركز على أمور الآخرة -على أهميتها- بقدر ما ركز على شؤون الدنيا، فقد ذكّرهم النبي – صلى الله عليه وسلم – أنهم سيلقون ربهم فيسألهم عن أعمالهم، ثم بين لهم سبل غواية الشيطان وحذرهم منه.
لا تكاد الخطبة تذكر من أمور الآخرة شيئا سوى ذلك، أما بقيتها فتعالج شؤون الحياة الدنيا، فإن صلاح الآخرة مرهونٌ بإصلاح الدنيا، والذين لا يبنون دنياهم يهدمون آخرتهم.
بينما قرر النبي – صلى الله عليه وسلم – من أمور الدنيا الكثير الكثير، ومن ذلك:
– حرمة الأموال والدماء والأعراض: وهذا يمثل مفرق الطريق بين نظام الإسلام والنظم الأخرى من شيوعية ورأسمالية وغيرها.
– حرمة الربا: وهو النظام الذي يسحق الفقراء، ويجعل المجتمع طبقيا.
– العدل والمساواة وحقن الدماء: حيث وضع النبي – صلى الله عليه وسلم – الربا، وأول ربا وضعه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب، ووضع دماء الجاهلية، وأول دم وضعه دم ابن عمه، ابن ربيعة بن الحارث.
– حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل: اللذان يكوِّنان أسس العلاقة التي تقوم عليها كبرى لَبِنات المجتمع المسلم.
– حق المسلم على أخيه المسلم: وهو بيان أن الرابطة العليا في الأمة هي رابطة العقيدة.
فهل ترك النبي من أنواع العلاقات شيئا؟!!
لقد ذكر علاقة المسلم بنفسه: عندما حذر من الشيطان وأوصانا بمجاهدته.
وذكر علاقة المسلم بربه: عندما تحدث عن لقائنا بالله وسؤاله لنا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الصغير «الأسرة»: عندما ذكر حقوق النساء، وأوصى بهن خيرا.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الكبير: عندما قرر حرمة الدماء والأموال والأعراض وأمر بأداء الأمانة.
وذكر علاقة المسلم بمجتمعه الأكبر: وهي الأخوة التي تنتظمها العقيدة؛ لتكوِّن الرابطة العليا في الأمة.
إن الخطابة التي تقتصر على أمور الآخرة والترهيب وتهمل شؤون الدنيا تبعث على اليأس والقنوط، وتجعل الناس في حالة من السآمة والملل والإعراض؛ لأنها لم تشتمل على قضايا تلمس واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم، «وبهذا لا يجيء الكلام على المنابر إلا حيّا بحياة الوقت، فيصبح الخطيب ينتظره الناس في كل جمعة انتظار الشيء الجديد، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل» (وحي القلم: 2/247).
إن كل نبي من الأنبياء أرسله الله ليعالج مرضا واقعيا موجودا في حياة الناس، وذلك باستهداء الوحي الذي ينزله الله عليه، مع الدعوة إلى عبادة الله وتوحيده قبل كل شيء.
وهكذا المجددون والمصلحون يبعثهم الله بعد انقطاع من الزمن ليجددوا ويُحيوا معالم الإسلام التي انطمست وماتت ـ أو تكاد ـ في ضمير الأمة.
خامسا: الاقتباس من القرآن والسير معه:
وهذه لا يتقنها أشباه الخطباء، إنما يقدر عليها أولو العزم منهم، الذين استظهروا كتاب الله قراءة وحفظا وتفسيرا وتدبرا، وقبل ذلك حازوا ثقافة اللغة والأدب.
إن النبي – صلى الله عليه وسلم – ضمَّن خطبته معانيَ وآيات قرآنية كثيرة، وكيف لا وهو أفصح من نطق بالضاد، ومن ذلك: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]، و {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ..} [التوبة: 37]. و {إلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19]. وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن، وغير ذلك.
وكيف يكون داعيةً إلى الله مَن لا يفقه كلام الله قراءة وحفظا، فضلا عن إدراك أسراره ومقاصده؟ فالقرآن لم يدع أمرا من شؤون الدنيا والآخرة إلا تحدث فيه، والخطبة التي تخلو من كلام الله ينقصها الكثير.
«إن الخطيب الذي يصلح للتحدث عن الإسلام رجلٌ خبيرٌ بالحياة وعللها، مكين في الوحي الأعلى» (مع الله/ دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 273).
قد يتحدث الخطيب عن معنى رائع أو فكرة هامة، لكن المعاني والأفكار وحدها لا تكفي ما لم يكن لها لباسٌ حسن، وكساءٌ أخَّاذ، والقرآن الكريم قد تحدى العرب جميعا، وأخرس الأولين والآخرين في فصاحته وبيانه.
يقول الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ: «لا تسمى خطابة إسلامية هذه الكلمات الميتة التي يسمعها الناس في بعض المساجد ثم يخرجون وهم لا يدرون ماذا قال خطيبهم؛ لأنه لم يَصل أحدا منهم بروح القرآن، ولا أنعش قلبا بمعانيه، ولا علَّق بصرا بأغراضه» (مع الله/ دراسات في الدعوة والدعاة: للشيخ الغزالي: 272).
وبجانب الاقتباس من القرآن يليق بالخطيب أيضا أن يسير مع القرآن؛ فهناك قضايا ركز عليها القرآن، وأطال الحديث عنها في غير موضع، وهناك قضايا ذكرها في موضع أو موضعين، وبين هذه وتلك تفاوتٌ ونسبيّة في عرض القرآن للقضايا، والخطيب الناجح هو الذي يسير مع القرآن حيث سار، فيولي ما اهتم به القرآن اهتمامه الأكبر؛ لأن القرآن لا يركز على أمر إلا إذا كان له أثره الكبير في معاش الناس ومعادهم.
سادسا: على الداعية البلاغ:
وهذا أمرٌ حسمه القرآن مع الرسول – صلى الله عليه وسلم – ؛ إذ قال له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]، و {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272]، و {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، و {إنْ أَنتَ إلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 23]، و {فَإنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 20]، إلى آخر هذه الآيات التي تحسم الأمر بوضوح لا لبس معه، ولا شبهة فيه.
وفي خطبة النبي – صلى الله عليه وسلم – يلقي التبعة عليهم ـ بعد أن بلَّغ ما عليه ـ أنهم سيلقون ربهم، ويسألهم عن أعمالهم، وكم تكرر في خطبته الجامعة: «اللهم هل بلَّغت؟» فتردد الجماهير: «اللهم نعم!».
وهذا –بالطبع- لا يتنافى مع شعور الداعية بالأسف والحزن على ما به قومه من ضلالة، وأنهم على غير الصراط المستقيم؛ فقد كان ـ صلوات الله عليه ـ أوضح مثل لذلك، حتى أنزل الله عليه يواسيه ويخفف عنه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6] وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
يسير الداعية بهذا الحرص على قومه، ويرجو الله أن يهديهم، لكنه لا يقنط ولا ييأس إن استجابت له قلة، أو لم يستجب له أحد؛ فلقد مكث نوحٌ ـ عليه السلام ـ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمن معه إلا قليل.
المهم أنه أدى ما عليه، وبلَّغ ما أناط الله بعنقه، وأشهد الله وأشهدهم على ذلك، كما فعل مؤمن آل فرعون، وقد سلك مع قومه كل سبيل، ثم قال في النهاية: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} [غافر: 44].
وها هو النبي – صلى الله عليه وسلم – بعد أن بدأ الإسلام بشخصه في مكة وهو شاخصٌ ببصره إلى السماء وجبريل يناديه: «أنت رسول الله، وأنا جبريل» ـ ها هو في المكان نفسه قريبا من غار حراء وقد احتشد حوله عشرات الآلاف ليعلن فيهم إتمام المهمة، وتبليغ الرسالة، وإكمال الدين.
من أجل هذا كان الخطاب على الملأ: «اللهم هل بلَّغت؟» فيجيبون: «اللهم نعم!» فيرفع يديه لرب السماء قائلا: «اللهم فاشهد!».
__________
المصدر: مجلة البيان.