د. راغب السرجاني
إن التشريع الإسلامي قد بلغ الذروة في الكمال والإتقان، وإنه قد بلغ الغاية في الإبداع، ويكفي في وصف هذا التشريع المحكم ما ذكره ربنا في كتابه في أخريات ما نزل من القرآن الكريم عندما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
فالدين كامل ليس فيه نقص، والنعم تامة لا يعتريها قصور، والتشريع لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وبيَّن حكمها وطريقة التعامل معها، يقول تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. ويقول الرسول في الحديث الذي رواه العرباض بن سارية: “قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لاَ يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلاَّ هَالِكٌ”[1].
فن التعامل النبوي
ولا شكَّ أيضًا أن حياة الرسول كانت تطبيقًا عمليًّا لكل حُكم من أحكام الشريعة، فخرَّجت لنا هذه الحياة في شكلٍ بديعٍ، شمل كل المتغيرات التي من الممكن أن تقابل الفرد أو الجماعة، أو الأمة ككل.
فالرسول –صلى الله عليه وسلم- تعامل في حياته مع كل الطوائف التي من المحتمل أن يتعامل معها المسلمون، ومر بكل الظروف التي من الممكن أن تمر بها الأمة الإسلامية؛ فهذه ظروف حرب وهذه ظروف سلم، وهذه أيام غنى، وهذه أيام فقر، وهذه فترات قوة، وهذه فترات ضعف.
ولقد شهدت السيرة النبوية إعجازًا إلهيًّا واضحًا جليًّا في تكثيف كل الأحداث التي من الممكن أن تواجه المسلمين في أي زمان وفي أي مكان، وذلك في ثلاث وعشرين سنة فقط؛ حتى يتحقق التوجيه الرباني الحكيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
ولقد تعامل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مع كل الأمور التي واجهته بطريقة فذة، وبسنة مطهرة أخرجت لنا كنوزًا هائلة من فنون التعامل، ومن آداب العلاقات، وبرز في كل ذرة من ذرات حياته العنصر الأخلاقي، كعنصر مؤثر تمامًا على كل اختيار من اختياراته ، فلا يخلو -حقيقةً- أيُّ قول أو فعل لرسول الله من خُلُقٍ كريم، وأدب رفيع، بلغ إلى هذه الذروة، ووصل -بلا مبالغة- إلى قمة الكمال البشري، وهذا الذي نستطيع أن نفهم منه قوله : «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ»[2].
وهكذا فلا يخلو موقفٌ ولا حدثٌ ولا قولٌ، ولا ردُّ فعلٍ من بروزٍ واضح لهذه الأخلاق الحميدة، حتى في المواقف التي يصعب فيها تصور الأخلاق كعاملٍ مؤثرٍ، وذلك كأمور الحرب والسياسة، والتعامل مع الظالمين والفاسقين والمحاربين للمسلمين والمتربصين بهم.
أخلاق الرسول
لقد كانت معضلة حقيقية عند كثير من المتعاملين بالسياسة أن تنضبط تعاملاتهم بأُطُر أخلاقية وضوابط إنسانية، ولكن الدارس للسيرة النبوية، المتمعن في مواقفها يجد هذه الأطر وتلك الضوابط الأخلاقية واضحة في كل مواقف السيرة بلا استثناء.
ولا غرو، فهذا الخلق هو الذي وصفه الله تعالى بالعظمة، حيث قال تعالى يخاطبه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
عظمة التعامل النبوي
ومن هنا فإن عظمة السيرة النبوية لا حدود لها؛ فهي عظمة في النظرية، وعظمة أيضًا في التطبيق.. لقد أثبت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن القواعد المثالية الراقية التي جاءت في كتاب الله تعالى ما هي إلا قواعد عملية قابلة للتطبيق، وأنها صالحة لتنظيم حياة البشر أجمعين، وأنها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق. كما كانت حياته ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صَدَقَت ووُفِّقت أم المؤمنين عائشة [3] في وصف أخلاقه عندما قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ»[4].
وفي هذه المقالات -الذي أسأل الله أن يجعلها خالصًا لوجهه- نفتح صفحةً واحدةً من الصفحات الباهرة في ديننا، وفي سيرة رسولنا الكريم .. نَصِف فيها كيف تعامل الرسول الأعظم والنبي الأكرم محمد –صلى الله عليه وسلم- مع غير المسلمين.
إنها صفحة بيضاء نقية، ما أحسب أن الفلاسفة والمنظِّرين والمفكرين قد تخيلوا مرة في أحلامهم أو أوهامهم أنها يمكن أن تكون واقعًا حيًّا بين الناس، حتى إن أفلاطون[5] في جمهوريته والفارابي[6] في مدينته الفاضلة، وتوماس مور[7] في مدينته الفاضلة الثانية (اليوتوبيا) لم يصلوا في الأحلام والتنظير إلى معشار معشار ما كان عليه رسولنا –صلى الله عليه وسلم- في حقيقته وواقعه.
وأحب أن أُنَبِّه أنني سأتناول في هذه المقالات تعامل النبي مع غير المسلمين من المسالمين المعاهدين، ولن أتناول الحديث عن أعدائه أو الأسرى؛ ذلك لأنهم ليسوا أفرادًا في المجتمع المسلم، وسوف نُفْرِد لهم مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
ويا ليت المسلمين يدركون قيمة ما في أيديهم من كنوز فيدرسونها ويُطبِّقونها، ثم ينقلونها إلى مشارق الأرض ومغاربها؛ ليسعدوا وتسعد بهم البشرية، وليكونوا سببًا في هداية الناس لرب العالمين.
—-
المصدر: مجلة البشرى.