القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

مبادئ الدعوة في قصة أصحاب القرية

دخيل عبد الله الدخيل

بداية سورة ياسين

سورة ياسين محملة بالدروس والمبادئ والقواعد الدعوية

سورة (يس) سورة مكية أكدت على قضايا مهمة في الدعوة؛ إذ نزلت في الجو المكي الذي يشتد فيه الصراع بين الحق والباطل، وجاءت محمَّلة بالدروس والقواعد والمبادئ، مدعَّمة بقوة الحجة والبرهان، مكرَّراً فيها ضرب النظير والمثال؛ وذلك من خلال قصة أصحاب القرية والتذييل عليها والتعليق على مشاهدها:

موضوعات السورة

  • طبيعة الوحي والرسالة والرسول.
  • التركيز على قضية البعث بأساليب مختلفة من خلال التقرير المجرَّد، وضرب الأمثال، وإيراد الأدلَّة الدامغة، وعرض مشاهد القيامة.
  • الدعوة والداعية وأعداء الدعوة: فالدعوة من خلال مهمتها ومبادئها وأُسسها، والداعية في صفاته ومقوماته ومهماته، وأعداء الدعوة في خصائصهم وأساليبهم وانتقام الله منهم.

أما حال الدعوة والداعية وأعداء الدعوة: فجاء تقرير حالهم وخصائصهم في عدد من المبادئ والأصول العظيمة؛ وهي أكثر ما تظهر في بداية السورة إلى نهاية قصة أصحاب القرية؛ ولذا سأقتصر في هذا المقال على ما تضمَّنه هذا المقطع من المبادئ، وهي كالآتي:

  • ففي قوله -تعالى-: (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس: 2]: تأكيد على إحكام الشريعة وإتقانها وخلوِّها من أي نقص بأي وجه، وهذا مما يثبِّت الداعية في الصبر على الدعوة إليها أمام المذاهب الباطلة والدعوات الزائفة التي يكفي في بيان بهرجها أنها لا يُكتَب لها البقاء والصمود إلا بقدر ما تحمله من مبادئ الحق والنبوة.
  • وفي قوله – تعالى -: (إنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس: 3]: تسلية للرسول – صلى الله عليه وسلم – بأنه سائر في ركب المرسلين داعٍ إلى ما دعوا إليه متَّبعٌ لأمر من أرسلهم، وهو كذلك عزاء لكل داعية ناله الأذى في سبيل هذا الدين بأنه سائر ومقتفٍ لطريق هؤلاء الأطهار، ذائدٌ عن حياض دعوتهم، جندي قد استلم راية الدعوة مِن بعدهم، أمنيَّته أن يموت في ساحتها مقبلاً غير مدبر.
  • وفي قوله – تعالى -: (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) [يس: 5]: المعنى ذاته في سياق الدعوة؛ وهو أن مقتضى رحمته – تعالى – إرسال الرسل وإقامة الحجة، ومقتضى عزَّته – سبحانه – نصرتُهم عند تكذيبهم والكيد بهم، وتأمَّل تكرار قوله – تعالى – في سورة الشعراء بعد هلاك كل قوم: (وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 9].
  • وفي قوله – تعالى -: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يس: 7]: تأكيد على أصل مهم من أصول الدعوة، وهو أن هؤلاء القوم مع أنه قد حق عليهم العذاب فلا مطمَع في هدايتهم إلا أنه لا بد من دعوتهم لأمور، منها:

1 – أن مهمة الداعية هي البلاغ المبين والنذارة؛ وليس التوفيق إلى الحق والهداية. قال – تعالى – على لسان رسله في هذه السورة: (وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس: 71].

2 – وأن الله أخفى مَن حقَّ عليهم العذاب واختص بعلمهم؛ فإذاً لا بد من النذارة لكل أحد.

وفائدة هذا التقرير أن لا ييأس الداعية عند نكول الناس عن الحق، وأنه رابح في كلا الحالين: إما أن يحقق النذارة والتبليغ، وهو هنا قد قام بمهمته وأعذر إلى ربه، أو يقذف الله الإيمان والهداية في قلوب المدعوِّين وهو أمر مُوكَل إلى ربه وليس في دائرة طاقته وقدرته.

وبهذا تَعلَم أن مِنْ أعظم ما ينخر في كيان الدعوة، اليأس الذي يستولي على قلوب الدعاة ويتسرب إلى نفوسهم عند رؤية شرود الناس عن الحق وضلالهم؛ ولهذا كثر التأكيد على هذا الأصل في القرآن؛ فينبغي إشاعة روح التفاؤل مع التقويم والمراجعة والصبر والمصابرة، وفي التنزيل: (إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 071].

  • وفي قوله – تعالى -: (إنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس: 8 – 9]: المُقْمَح: هو الرافع رأسه: أي أن أيديهم مشدودة بالأغلال إلى أعناقهم موضوعة تحت أذقانهم؛ ومن ثَمَّ فإن رؤوسهم مرفوعة قسراً. قال صاحب الظلال: “ومع شدة هذا المشهد فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع يخيَّل إليه -وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه- أن هنالك حائلاً عنيفاً كهذا بينهم وبينه، وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك، مشدودة عن الهدى قسراً وملفوتة عن الحق لفتاً، وبينها وبين دلائل الهدى سدٌّ من هنا وسدٌّ من هناك، وكذلك كان أولئك الذين واجهوا القرآن” [1].
  • وفي قوله – تعالى -: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) [يس: 31]: أي اضرب لهؤلاء المكذبين برسالتك، الرادين لدعوتك مثلاً يعتبرون به ويكون لهم موعظة إن وُفِّقوا للخير؛ وذلك المثل هو: أصحاب القرية[2].

وفي هذا المثل عِظَة وتسلية للنبي – صلى الله عليه وسلم – وبيان لحال الدعاة وحال كثير من المدعوِّين في الصد عن دين الله.

وفي هذا بيان أهمية علم التاريخ وإحاطة الداعية بسنن الله في الكون والتذكير بمآل الكفر من خلال بيان عاقبته ومآل أصحابه[3]، ولما غفل الدعاة اليوم عن سنن التاريخ وعظاته أضحوا صيداً سهلاً لمكر المجرمين مرة بعد مرة وأصبحتَ ترى وتشاهد كيف يتسلق الماكرون على أكتاف الدعاة ويقطفون الثمرة التي ضاعت فيها جهودهم وأرواحهم، والله المستعان.

  • وفي قوله -تعالى-: (إذْ جَاءَهَا) [يس: 31] – كما قال الآلوسي -: إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم[4].

ويستفاد منه أهمية التخطيط في الدعوة ومعرفة الأماكن التي يكثر فيها الجهل، وأن ينتدب الداعية نفسَه ويضحِّي بترك وطنه في سبيل هداية الناس وإرشادهم، وفي قول كثير من المفسرين أن هؤلاء الرسل هم أصحاب عيسى بعثهم إلى هذه القرية للقيام بدعوتهم.

  • وفي قوله – تعالى -: (إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) [يس: 41] لم يَقُل: فعززناهما؛ لأن المقصود تقوية الحق الذي أُرسِلوا به علاوة على تقويتهما؛ ففيه أن قوة الدعوة تكون باجتماع الدعاة وتكاتفهم وتوحيد جهودهم والتكامل بينها، خصوصاً في الأماكن التي يَقِل فيها السند والنصير، فلا رهط ولا عشيرة، ولا نفوذ ولا أتباع.

ولعل هذا يفسر لنا اجتماع هؤلاء الرسل في مكان واحد؛ لأنهم أُرسِلوا إلى غير قريتهم فلا ناصر لهم.

وفي قصص الرسل الذين بُعِثوا لوحدهم نقرأ: (وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) [هود: 19] و:(إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) [الشعراء: 421].

ويستفاد من هذا بيان أهمية العمل المؤسسي المشترك، وأنه لا مكان اليوم للأعمال الفردية والجهود المشتتة أمام المنظمات والتكتلات العالمية، والمؤسسات العابرة للقارات؛ خصوصاً حين قلَّ النصير وعز الظهير.

وفيه أيضاً أن تحقيق النصر لا يكفي فيه حُسْن القصد وصفاء القلب وسلامة المنهج إذا لم يُقرَن بالتخطيط والمراجعة والتقويم.

  • وفي قول الرسل – عليهم السلام -: (فَقَالُوا إنَّا إلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) [يس: 41] مع قولهم: (وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس: 71]: يتضح أمران:

1 – وضوح المنهج والجهر به بدون مواربة أو مداهنة، وأنهم رسل جاؤوا لأجل القيام بالرسالة ونشرها لا لشيء غير ذلك؛ وفي هذا أهمية صدق الداعية مع مجتمعه، ووضوح منهجه، والبعد عن الغموض والتلون، والثباتُ على مبادئه، والصبرُ عليها، وأنه بذلك تكون دعوته أحرى بالقبول والتأثير.

وهذا لا ينافي التدرج في الدعوة والبداية بالأصول والمهمّات ومراعاة الحكمة؛ لأن التدرج يعني ترتيب المبادئ والأولويات لا تمييعها ومناقضتها، وإذا قرنت قوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ) [يوسف: 801] مع قوله: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) [النحل: 521].

تبين لك أهمية وضوح المنهج والسبيل مع مراعاة الحكمة في الدعوة إليه.

2 – وضوح الهدف والرؤية بالنسبة للداعية قبل البَدء بالدعوة وتحديد المهمة؛ وذلك في قول الرسل: (وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس: 71].

ولا تخفى أهمية تحديد الهدف ووضوحه للداعية من أجل التركيز عليه، وتوحيد الجهود إليه، واختيار الوسائل المناسبة له، وإمكانية التقويم وتحديد معايير الفشل والنجاح من خلال تحقيقه أم لا.

خصائص أعداء الدعوة

  • في قول أعداء الرسل: (قَالُوا مَا أَنتُمْ إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إنْ أَنتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ) [يس: 51]: تتضح أمور، منها:

تشابه أعداء الدعوة في أساليبهم ونفسياتهم ومنطلقاتهم؛ فكم تكررت دعوى بشرية الرسل لعدد من الأنبياء، مع اختلاف بيئات هؤلاء الأقوام وأزمانهم وأحوالهم؛ فسبحان الله!.

وعلى هذا ينبغي أن يتبصر الداعية ويتأمل في خصائص هؤلاء ومواقفهم، وفي القرآن تحليلٌ دقيقٌ لهم على اختلاف مشاربهم من يهود ونصارى ومنافقين وغيرهم لا تخفى على المتأمل.

  • وقول الرسل – عليهم سلام الله -: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إنَّا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) [يس: 61]: فيه التلطف والمبالغة في النصح حتى بعد تكذيبهم والإغلاظ عليهم، وفيه كذلك الرد عليهم؛ لأن قولهم: (رَبُّنَا يَعْلَمُ) جارٍ مجرى القسم والتوكيد، وهو رد مشبَع بالثقة بالله والتوكل عليه ومراقبته وخشيته؛ وأن المؤمن إذا علم رضا الله عن فعله واستقامته على منهجه لم يضره تهويش البطالين وجلبة المشككين.
  • أما قوله – تعالى -: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى) [القصص: 02]: فهذا المقطع من القصة إلى نهايتها تضمَّن الحديث عن أمرين مهمين في الدعوة:

الأول: الحديث عن صفات أنصار الدعوة الذين يستجيبون لنداءات الدعوة وجهود دعاتها.

والثاني: الحديث عن صفات الداعية نفسه، والخصائص التي تؤهله لتبليغ دين الله على أكمل وجه.

ولذا نلاحظ أن الآيات ركزت على إبراز حالين للرجل المؤمن:

– حال مجيئه وسعيه: وفيها تصوير لصفات ناصر الدعوة وعَضُد الدعاة.

– وحال دعوته لقومه وهو يجادلهم ويدعوهم: وفيها تصوير لصفات الداعية وطريقته في دعوة الناس، ولا بد من الإشارة لهذه اللطائف.

أولاً: صفات أنصار الدعوة والدعاة

  • ففي قوله – تعالى -: (وَجَاءَ رَجُلٌ) تتضح صفتان:

1 – أنه رجل فيه صفات الرجولة بكافة معانيها وأخلاقياتها، كما قال – تعالى -: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب: 32] فليس من أنصاف الرجال ولا أشباه النساء.

2 – أن الرجل لم يكن ذا جاه وسلطان، ولم يكن في عز من قومه أو مَنَعة من عشيرته، ولكنها العقيدة الحية في ضميره تدفعه وتحرِّكه حتى جاءت به من أقصى المدينة؛ ولذا نجد أن لفظة (رجل) جاءت بالتنكير ووصفته الآية بأنه من أقصى المدينة، فليس من الزعماء ولا الملأ ولا الأغنياء.

  • وفي قوله – تعالى -: (مِّنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ): إشارة إلى أنه رجل سليم الفطرة قد نفذت الدعوة إلى شغاف قلبه مباشرة؛ وذلك لأنه من أقصى المدينة فلم تتكرر الدعوة على مسمعه كحال هؤلاء.

وهذا يفسر لنا اختيار العرب ليكونوا منطلق الرسالة المحمدية دون أصحاب الحضارة من الفرس والروم آنذاك؛ وهو ما يفسر لنا أيضاً لماذا يكون من أتباع الرسل في البداية الضعفاء؟ لأن فطرتهم لم تحجزها عن الاستجابة سكرة منصب وزعامة، أو شهوة مال ورياسة؛ ولذا تكرر في القرآن أن أعداء الرسل هم أصحاب الترف والزعامة: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا) [سبأ: 43]، و(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) [الإسراء: 61]، و(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ) [المؤمنون: 33]… إلى غير ذلك.

  • وفي قوله – تعالى -: (يَسْعَى) تظهر صفة المبادرة والفاعلية وأنه رجل بعيد عن الأنانية والانتهازية وإنما استشعر حقيقة الإيمان في قلبه، حتى تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يُطِقْ عليها سكوتاً ولم يقبع في داره بعقيدته وهو يرى الضلال من حوله، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره، وجاء يسعى ليقوم بواجبه؛ ففَرْضُ الكفاية عنده فرض عين، ونصرة الدين فرض ودين.
  • وفي قوله – تعالى -: (إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [يس: 52]: تظهر صفة الشجاعة والصلابة في الدين؛ حيث جهر بكلمة الإيمان الواثقة المطمئنة وأشهدهم عليها، مع أنه يعلم أن مصيره ومآله القتل لا محالة؛ حتى قال ابن مسعود: (وطئوه بأرجلهم حتى خرج قُصْبُه من دبره وأُلقي في بئر).

ثانياً: صفات الداعية

  • ففي قوله – تعالى -: (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس: 02]: تظهر صفة التلطف واللين وحُسْن الخطاب، وأنه ناصح لهم؛ حيث ناداهم مذكِّراً لهم أنهم قومه الذين يشفق عليهم وينصح لهم، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه من الخير.
  • وفي قوله – تعالى -: (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) [يس: 02 – 12]: تتضح صفات الداعية أكثر؛ حيث أمر بوجوب الاتباع لهم؛ لأنهم رسل، ثم كرر الاتباع بقوله – تعالى -: (اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) ليفيد أن المرسلين ينبغي أن يُتَّبعوا أصلاً؛ لأن مقتضى اختيار الله لهم أن لا غبار على صدقهم وصحة منهجهم.

وأما اتِّباع غير المرسلين فيكون لمن فيه هاتان الصفتان:

1 – أنه لا يسأل أجراً على التبليغ، ولا يبتغي مغنماً؛ وهذا دلالة على صدقه وإخلاصه ومحض نُصْحِه؛ وإلا فما الذي يدعوه إلى هذا العناء والتعرض للأذى والاستهزاء، وهو لا يجني من ذلك كسباً، ولا يطلب منهم أجراً؟

فعلى الداعية الصادق أن يكون من أبعد الناس عن الأكل بدعوته والتكسب من ورائها، بل حال الصادق أنه يضحي بماله ومنصبه في سبيلها، وحقيق بمن هذا حاله أن يُقبِل الناس بقلوبهم عليه ويستجيبوا لدعوته؛ ولذا كان سبيل أعداء الدعوة في التنفير عن الرسل أن يقولوا: (مَا هَذَا إلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون: 42]، (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ) [يونس: 87].

2 – أنه مهتدٍ إلى نهج سليم وطريق مستقيم؛ لأنه يدعو إلى ما شهد العقل بحسنه؛ وهو عبادة الله وحدَه وهذه الصفة مكمِّلة للصفة الأُولَى، كأنه بقي أن يقال: لعله يدعو ولا يأخذ أجرة ولكنه ليس على الحق والمنهج الصحيح فدفع هذا الاحترازَ بهذه الصفة.

قال الزمخشري في قوله – تعالى -: (مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ) [يس: 12]: (كلمة جامعة في الترغيب فيهم أي: لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم، وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خيرا الدنيا والآخرة)[5].

  • وفي قوله – تعالى -: (وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إنِّي إذًا لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [يس: 22 – 42]: تظهر صفة الداعية: صاحب المنطق الرائع الذي يأخذ بالألباب، ويُظهِر التلطف في الخطاب وحُسْنَ العرض والاستدلال، مع الأدلة الدامغة والحجج الواضحة.

قال السعدي: “جمع في هذا الكلام بين نُصحِهِم، والشهادة للرسل بالرسالة والاهتداء، والإخبارِ بتعيُّن عبادة الله وحدَه، وذكر الأدلة عليها، وأن عبادة غيره باطلة، والإخبارِ بضلال من عبدها، والإعلانِ بإيمانه جهرا”.

حقاً: إن الدعوة أحوج ما تكون اليوم إلى لسان صادق بليغ، وقلم رفيع، يدافع عنها وينشر رسالتها، ويدفع الشبهات والضلالات بأحسن بيان وأكمل حال.

  • وفي قوله – تعالى -: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس: 62 – 72]: تظهر صفة الرحمة والعطف على الخلق عند الداعية، والاجتهاد في هداية الناس وإرشادهم؛ ولذا تمنى هذا المؤمن أن يعلم قومُه بحاله، ليكون علمهم بها سبباً لرغبتهم في التوبة والإيمان. قال ابن عباس: (نصح قومه حياً وميتاً).

___________

[1] في ظلال القرآن: 5/2960.

[2] تفسير السعدي: ص661.

[3] ويشهد لهذا: المعنى الآخر لقوله: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ)؛ حيث قيل: إن معناه: مثّل لنفسك يا محمد حال قومك بأصحاب القرية واجعلهم مثلاً لهم، أي: شبّه حالهم بحال أصحاب القرية؛ فإن مثلهم كمثلهم.

[4] روح المعاني: 11/393.

[5] الكشاف: 5/10.

—–

المصدر: المختار الإسلامي

مواضيع ذات صلة