د. محمد إبراهيم الحلواني*
الخطأ طبيعة بشرية ولا ينبغي للمعلم أو المربي أن يفترض العصمة في الأشخاص ثم يحاسبهم بناء على ذلك، بل يعاملهم معاملة واقعية صادرة عن معرفة بطبيعة النفس البشرية المتأثرة بعوارض الجهل واتباع الهوى..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»(1)، وإدراك هذه الحقيقة أيضا يذكر الداعي والمربي بأنه إنسان يمكنه الوقوع في الخطأ الذي وقع فيه المخطئ فيعامله برحمة لا بقسوة، وهذا لا يعني أيضا أن نترك المخطئين متعللين بأنهم بشر أو أن عصرهم ممتلئ بالفتن والمغريات، بل لابد من توجيههم إلى الصواب والتفريق بين المخطئ عن جهل والمخطئ عن علم، فالجاهل يحتاج إلى تعليم، وصاحب الشبهة يحتاج إلى بيان، والغافل يحتاج إلى تذكير، فلا يسوغ أن نسوي بين العالم بالحكم والجاهل به، بل إن الشدة على الجاهل تحمله على النفور ورفض الانقياد.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحاب حتى أحب الناس إليه أثناء التنبيه على الأخطاء، فلم يمنع كون أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه أن يشتد عليه في الإنكار حينما حاول أن يشفع في حد من حدود الله عز وجل، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله، فلما كان العشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: «أما بعد، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(2).
لقد دل هذا الموقف الذي سطرته كتب السنة بأحرف من نور على عدله صلى الله عليه وسلم، وأن حدود الله وشرائعه فوق الأشخاص، فهو لا يحابي أحدا ولا يجامله حتى لو كانت ابنته، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم خطورة تعطيل إقامة الحدود على المخطئين، مبينا أن سبب هلاك من قبلنا في دينهم ودنياهم هو إقامتهم الحدود على الفقراء والضعفاء وغض الطرف عن الأغنياء والأقوياء، فكانت النتيجة انتشار الشر والفوضى والفساد واستحقاق غضب الله عز وجل.
تصويب أخطاء الصغار
إن تصويب خطأ الصغير إذا أخطأ أمر واجب؛ لأن ذلك يعد من باب الإحسان في التربية، بل إن ذلك ينطبع في ذاكرته، ويجعله يمتثل الصواب الذي نبه عليه في صغره.
ومن أبرز الشواهد على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن قصة الغلام الصغير عمر بن أبي سلمة الذي قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، فما زالت تلك طعمتي بعد(3).
يلاحظ في هذه القصة أن توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصغير كانت قصيرة ومختصرة وواضحة، وكان لها أثر إيجابي في نفس الغلام جعلته يتذكر توجيهاته صلى الله عليه وسلم التي أملاها عليه وهو صغير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوب خطأه برفق ولين، فلم يعنفه، ولم يضربه، ولم يخاطبه بغلظة وفظاظة، فالأكل باليمين أدب إسلامي جليل، وصيانة الأكل والشرب عن الأقذار واجب إنساني وصحي، واليد آلة الأكل والشرب، وفي تخصيص إحدى اليدين لمحاسن الأعمال وفضائلها وشريفها تكريم لما تتناوله هذه اليد، والأكل مما يلي الآكل في إناء يشترك فيه مع آخرين أدب اجتماعي يحفظ لصاحبه أمامهم القناعة والوقار والخلق الجميل، ويحميه من صورة الشره والطمع والأنانية، ويحميهم من التقزز والإيذاء، فهل هناك أسلوب في تصويب الأخطاء أفضل من هذا؟!
عدم التسرع في العقوبة
أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم التسرع في معاقبة المخطئ حتى نقف على الأسباب التي دفعت المخطئ إلى ارتكاب خطئه، إذ إن الوقوف على هذه الأسباب ومعالجتها يجعل المخطئ لا يكرر خطأه مرة أخرى، يؤكد هذا ما رواه النسائي في سننه عن عباد بن شرحبيل رضي الله عنه قال: قدمت مع عمومتي المدينة، فدخلت حائطا من حيطانها ففركت من سنبله، فجاء صاحب الحائط فأخذ كسائي وضربني، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعدي عليه، فأرسل إلى الرجل، فجاؤوا به فقال: ما حملك على هذا؟ فقال: يا رسول الله إنه دخل حائطي، فأخذ من سنبله ففركه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما علمته إذ كان جاهلا، ولا أطعمته إذ كان جائعا، اردد عليه كساءه»(4).
هذا الموقف الجليل يبين لنا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الرفق بالمخطئ، حيث أظهر صلى الله عليه وسلم خطأ أسلوب صاحب البستان حينما عالج الخطأ بضربه للمخطئ، فالمؤمن لا يظن بأخيه إلا خيرا، ولا يفسر تصرفات غيره إلا على أحسن المحامل، فما أجمل أن يعذر بعضنا بعضا، فنحن لا نعلم ظروف الآخرين الغائبة عنا، ولا ندري ما الذي قاده إلى ذلك التصرف الذي لم يعجبك، فإذا وجدنا خطأ أو موقفا لا يليق فعله فما علينا إلا أن نلتمس الأعذار للمخطئ، وكيف لا يلتمس العاقل الأعذار لغيره وهو يعلم أن الناس مطبوعون على الضعف والتقصير وهو لا يرى الكمال في نفسه، فكيف يرجو الكمال ويطلبه منهم؟ فقد أرشد عليه الصلاة والسلام هذا الذي سرق منه أن ينظر في حاجة هذا السارق، فهو لم يسرق إلا عن حاجة وجهل، إذ إن الشريعة الإسلامية تهتم بالحقوق قبل الحدود، فقبل تطبيق الحدود على الناس، لابد من أداء الحقوق إليهم، ولهذا أوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه إقامة حد السرقة في عام الرمادة حين عمت المجاعة، لأن السارق قد يكون مضطرا، والحدود تدرأ بالشبهات.
تجنب التصريح
من الأساليب النبوية في تقويم الأخطاء عدم مواجهة المخطئ بخطئه مباشرة، واللجوء إلى التعريض، وهذا الأمر واضح جلي في تعامله صلى الله عليه وسلم مع بعض المخطئين، فالنصيحة الصادقة تقضي بأن يحسن المسلم نصح أخيه، فينصحه سرا، لا يفضح أمره ولا يكشف سره، ولا يقف منه أثناء النصح موقف المتعالي المتكبر، ولا يختلف أحد من الناس أن تخصيص المخطئ بالذكر أمام الناس أمر مكروه يؤدي إلى النفور والغضب، ضرره أكبر من نفعه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغه أن نفرا من أصحابه سألوا أزواجه عن عمله في السر، وظنوا أن هذه العبادة قليلة: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، أصلي وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(5)، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أرشدهم إلى خطأ المغالاة في الدين تعريضا لا تصريحا، لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، ويدفع إلى الإصرار والعناد، أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية، فكون التوجيه جاء عاما وغير مباشر دون تعرض للأشخاص كل ذلك جعله من أبلغ وسائل العلاج وأفضله، فحري بنا أن نمتثل هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة أخطاء المسلمين حتى نسعد في الدارين.
الهوامش:
1 – رواه الترمذي في سننه، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، رقم (2499) عن أنس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1998م، تحقيق: د. بشار عواد، وحسنه الألباني.
2 – رواه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، رقم (1688)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.
3 – رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، رقم (5376)، دار طوق النجاة، ط: أولى، 1422هـ.
4 – رواه النسائي في سننه الصغرى، كتاب آداب القضاة، باب الاستعداء، رقم (5409)، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، ط: الثانية، 1986م، وصححه الألباني.
5 – رواه البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم (5063) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
——
* أستاذ بقسم الحديث وعلومه جامعة المدينة العالمية – ماليزيا. والمقال نقلا عن موقع “الوعي الشبابي”.