القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

معرفة أنواع المدعوين وأثرها في نشر الدعوة

الدكتور محي الدين الألوائي*

الطريق إلى قلوب المدعوين فن

المدعو:  المقصود في اصطلاح الدعوة الإسلامية هو الإنسان المخاطب بدعوة الإسلام أي الإنسان البالغ العاقل، ذكر أو أنثى، مهما كان جنسه ونوعه ولونه وبلده ومهنته، لأن الإسلام رسالة الله الخالدة إلى الناس أجمعين، ولهذا يخاطب القرآن البشر جميعا فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وقال بشأن عمومية البعثة المحمدية: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28).

وإذا عرفنا أن دعوة الإسلام عامة لجميع البشر فعلى الداعي أن يحرص على إيصالها لكل إنسان يستطيع الوصول إليه، وعليه أن يذهب إلى المدعو ويتصل به ليبلغه الدعوة ويدعوه إليها، ولا ينبغي له انتظار مجيء الناس إليه، وهكذا كان يفعل إمام الدعاة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل عليهم السلام في جميع الأزمنة والأمكنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مجالس قريش ويدعوهم ويخرج إلى القبائل في منازلها ويدعوهم إلى الله ويذهب إلى ملاقاة من يقدم إلى مكة في المواسم الخاصة فيدعوهم، وجاء في سيرة ابن هشام “… وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع بقادم إلى مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدي له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده”.

ولم يكتف صلى الله عليه وسلم بأهل مكة ومن كان يأتيه وإنما ذهب إلى خارجها، ذهب إلى الطائف يدعو أهلها وكان يدعو كل إنسان يلقاه أو يذهب إليه، ولا يجوز للداعي أن يستهين بأي إنسان وأن لا يستصغر شأنه، لأن الذي لا يقيم له وزنا في أول الأمر ربما يكون له في المستقبل وزن كبير في مجال خدمة الإسلام والدعوة إليه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو كل إنسان ولم يستصغر شأن أحد  وجاء في السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن عرض نفسه على قبائل العرب التي وافت الموسم في مكة، وكان ذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات، ولم يستجب له منهم أحد، لفي ستة نفر من الخزرج عند العقبة من منى وهم يحلقون رؤوسهم فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الإسلام وقرأ عليهم بعض الآيات القرآنية فاستجابوا لله ورسوله وآمنوا ثم رجعوا إلى قومهم بالمدينة، وذكروا لهم نبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام فانتشر فيهم خبره حتى لم يبق دار من دور الأنصار في المدينة إلا فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته.

وجدير بالاعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستصغر شأن أولئك الستة وهم يحلقون رؤوسهم في مكان بعيد في منطقة مني بقرب مكة ولم يقل في نفسه الكريمة، أي أمل في هؤلاء الستة الوافدين المشغولين بحلق رؤوسهم مع أن أحدا من القبائل النازلة حوالي مكة لم يستجب له، وكانت نتيجة هذه الوسيلة الحكيمة التي اتبعها إمام الدعاة أن كان أولئك الستة نواة الدعوة الإسلامية في المدينة وطليعة الدعاة إلى الإسلام في خارج مكة المكرمة وفاتحة مستقبل ميمون لتاريخ الإسلام والمسلمين.

وإذا اتضح لنا أن المنهج المحمدي في تبليغ الدعوة هو أن يذهب الداعي إلى المدعوين ولا ينتظر مجيء الناس إليه بل ومن حق المدعو أن يؤتى وأن لا يستهان به ولا يستصغر شأنه، فيجب أن نفهم القواعد التي يقوم عليها هذا المنهج الصحيح:

القاعدة الأولى: أن التبليغ قد يستلزم انتقال المبلغ إلى مكان من يراد تبليغه لاحتمال عدم وصول خبر الدعوة إليه، وأن مهمة التبليغ تسبق مهمة السامعين في الاستجابة لدعوة الحق ونداء الخير، وإذا لم تصل إليهم الدعوة ولم يسمعوا خير الدعاة فكيف يطالبون بالاستجابة؟ ولهذا كان رسل الله الكرام يأتون إلى أماكن الناس لتبليغ الدعوة وعلى الداعي أن يقتدي بهم.

والقاعدة الثانية: إن الذين لم تبلغهم دعوة الإسلام أو لم يدخل الإيمان في قلوبهم في حكم التائهين والضالين عن الصراط المستقيم فلا بد من هدايتهم إلى الطريق الصحيح وتخليصهم من الضلال من قبل الدعاة إلى الله والهداة إلى طريق الحق ويخبروهم بالمرض الذي أصابهم والعلاج الذي يحتاجون إليه، فكل هذا يحمل الداعي على الذهاب إلى الناس المطلوب دعوتهم في أماكنهم ومجالسهم.

والقاعدة الثالثة: أن العلماء هم ورثة الأنبياء أن ينتظروا ويصبروا إلى أن يأتيهم الناس ويسألوه وعليهم المبادرة في الانتقال إلى الناس لتبليغ الإسلام والدعوة إلى الله ونشر العلم النافع، وأن من ضريبة العلم الإنفاق منه على المحتاجين، يجب على كل عالم أن يؤدي حقه في خدمة دين الله ونشر علومه وإرشاد الضالين بين أهله وقريته وبلده بالتوجه إلى مساجدهم ومجامعهم ونواديهم بالحكمة والموعظة الحسنة، بعيدين كل البعد عن الاستهانة بأي فرد أو جماعة و عن التعالي بعلمه أو التعاظم بفضله بل خاشعين وهادئين وشاكرين أنعم الله عليهم وراجين فضله العظيم.

أنواع المدعوين الأربعة

يمكن تقسيم المدعوين من كل مجتمع بشري بحكم أوضاعهم الاجتماعية والفكرية ومستوياتهم الثقافية والعلمية ومكانتهم في المجتمع من حيث السلطة أو الجاه أو المال أو مدى استجابتهم لدعوة الحق، إلى أربعة أنواع:

النوع الأول:

القادة من رؤساء القوم وأعيان البلد وسادة المجتمع فهم أصحاب النفوذ والجاه والسلطة في البلاد، وكانوا هم الذين يتولون مقاومة دعوة الرسل الكرام في كل مكان وزمان، وأطلق القرآن على هذه الطبقة من الناس كلمة “الملأ” لأنهم هم البارزون في المجتمع وفي أيديهم قيادة الناس والرئاسة، ومن الصفات الغالبة فيهم التكبر وحب الجاه والرئاسة، والتهافت على متع الدنيا والغفلة عن الدار الآخرة، وهذه الصفات تمنحهم من قبول الدعوة الإصلاحية خوفا من تأثيرها على مكانتهم وترفهم ومركزهم المتوارث.

وعلى الداعي المسلم أن يتبع في المعاملة مع هذا النوع من الناس مناهج الرسل الكرام مستنيرا بقصصهم الواردة في القرآن الكريم وبالسيرة النبوية، وفيما يلي بعض الآيات الدالة على ما جرى لهم مع الملأ من أقوامهم.

قال تعالى في قصة نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (الأعراف: 59، 60).

وقال تعالى مخبرا عن الملأ من قوم عاد في معاملتهم مع نبيهم هود عليه السلام: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (الأعراف: 66)، وفي شأن موسى عليه السلام مع فرعون وملئه قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} (الأعراف: 45-48).

وأن الملأ من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما قال الأولون لأنبيائهم بل وأشد منهم، وقال تعالى عن المتكبرين عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم : { وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزخرف : 31)، وأن المعترضين على إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تكبروا عليه واستصغروا شأنه عليهم قولهم بأن الأمر يد الله وهو يعلم حيث يجعل رسالته ويعلم من يستحق للرسالة ونزول الوحي.

وقال رؤساء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا واستصغارا لضعفاء المسلمين الذين آمنوا بالرسول في أول الأمر، مثل عمار بن ياسر وبلاد الحبشي وصهيب الرومي، لا نرضى أن نكون مع هؤلاء الضعفاء فاطردهم عنك إذا دخلنا مجلسك فإذا فرغنا من الحديث معك والسماع منك وخرجنا فأدخلهم إن شئت، فأنزل الله تعالى قوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} (الكهف: 28)، وقال تعالى أيضا عن أولئك المتكبرين الذين طلبوا ذلك: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28)، وليس هذا بدعا في تاريخ الأنبياء فقد قال قوم نوح عن أتباعه : {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود : 27)، وقد فات هؤلاء وأولئك أن الأراذل في الحقيقة هو المخالفون للحق جهلا وعنادا وإن كانوا في الظاهر من كبار القوم وأن الشرف في اتباع الحق وخدمة الخلق.

ولا يخلو مجتمع من هذا النوع من الناس في كل زمان ومكان ويقفون غالبا في وجه دعوة الحق والدعاة إليه إما بدافع من الكبر أو حب الرياسة على الناس وخوفهم أن تسلبهم هذه الدعوة الإصلاحية مكنتهم وتفقدهم مركزهم القائم في المجتمع ومنهم جماعة أخرى تقاوم دعوة الإصلاح بسبب الجهل والغباوة ولا يسمح لهؤلاء تقليدهم الأعمى لآبائهم وأجدادهم لاتباع الذين يدعونهم لإصلاح ما أفسده التقليد، وترك الضلال الذي تفشي في أوساطهم، وترسخ في نفوسهم بطول الأمل وخفة العقل وسفاهة النفس.

والنوع الثاني:

المنافقون والمداهنون الذين يتظاهرون بقبول الدعوة رغبة في التقرب إلى المسلمين الصالحين الذين يستجيبون لدعوة الإسلام، ونظرا للاحتفاظ ببعض المصلح الذاتية وفي الوقت نفسه يظهرون الولاة للسادة الذين يضمرون العداء للدعوة الإصلاحية ويتوددون إليهم خوفا من ضياع قربتهم إلى هؤلاء السادة واستصغارا لشأن متبعي دعوة الحق والإصلاح، وموقفهم أشبه بموقف المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذين قال الله تعالى في شأنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} (البقرة: 14).

وأن المنافق الذي يخفي الكفر في الباطن ويظهر الإسلام في الظاهر أشد ضررا من الكافر المعاند عن المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية لأنه عدو خفي يخدع المسلمين بتظاهره وفتنته، فهو إذن أسوء من العدو الظاهر خطرا، وأما الذين يتبررون ببعض صفات المنافقين بحجة لوازم المجاملة أو من حسن الآداب بدون إيذاء للمسلمين وخداعهم في الخفاء أو الاشتراك سرا في المؤامرات التي يحيكها بعض المعارضين وأصحاب الأهواء ضد الدعوة الإصلاحية، فيعامل بالحكمة وبالحسنى حتى يزول من قلبه الضعف والخوف من المكانة والجاه ويقري فيه الإيمان بالله والإخلاص له، ولا يرمي بالنفاق والردة جزافا ولا يخرج من صفوف المؤمنين بلا روية ولا عجل، وأن علينا الحكم بالظاهر ويعلم الله ما في القلوب.

والنوع الثالث:

أهل المعصية الذين يرتكبون المعاصي، ويخالفون أوامر الشرع مع الإعلان بالإيمان بالله ورسوله وكتابه والإقرار بالشهادتين ولكنهم متهاونون في أداء حقوق هذا الإيمان وهذه الشهادة، ولم يصدر منهم إنكار شيء معلوم في الإسلام بالضرورة أو نطق بكلمة كفر أو خروج على جماعة المسلمين، وعلى الداعي أن ينظر إلى أهل المعاصي نظرة تعقل لأسباب سقوطهم في هذه المعاصي ونظرة شفقة لتخليصهم من هذه الهاوية، وأن الداعي الواعي لتحقيق هذه الغاية النبيلة لا يحتقرهم افتخارا بنفسه عليهم بطاعته على معاصيهم ولا يعيرهم علنا ولا يشمت بهم بل يتخذ الوسائل اللازمة بحكمة ويقظة لهدايتهم وإصلاحهم وجعلهم أعضاء صالحين في المجتمع الإسلامي المثالي الذي يعمل لإيجاده، لأن احتقارهم وتشنيعهم علنا سوف يؤدي إلى تقوية جرثومة المعصية والاستهانة بالداعي وإلحاق الأذى به.

وينبغي للداعي أن يتذكر دائما ما جاء في الحديث الشريف عن المسلم العاصي: “كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” وأن المسلم غير معصوم من المعصية وأن الأنبياء والرسل هم المعصومون من الخطايا، وإذا وقع مسلم في معصية فعليه أن يسارع إلى التوبة ويقلع عن معصيته ويعزم على أن لا يعود إليها أبدا، ويعصي المسلم إما بسبب ضعف في إيمانه أو بجهل أو بغفلة بدافع من إغراءات للشيطان أو شهوات الدنيا، وأن الداعي يعمل معهم مثل الطبيب الخبير فيكشف أصل الداء ثم يشعر المريض بالمرض الذي ابتلى به ثم يدفعه لتناول الدواء الذي يصفه له لإنقاذ نفسه من التهلكة ويستعيد صحته كاملة، ثم يتعهد بحالة مريضة من حين إلى آخر، حتى يتأكد من مراعاته لإرشاداته ونجاته من زلاته.

النوع الرابع:

عامة الناس وهم جماهير الشعب ما عدا الرؤساء والأعيان الذين هم في العادة قلة وأما ما عداهم فهم أكثرية الناس في أي مجتمع بشري في العالم ويكونون غالبا على الفطرة ولم تفسد نفوسهم بحب الرئاسة وشهوة الجاه والسلطة كما يكونون عادة من الطبقات العاملة التي تباشر مختلف أنواع الحرف والمهن ومنهم أيضا طبقة الفقراء والمساكين والكادحين، وهؤلاء الأصناف من الناس أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى دعوة الحق واتباع الدعاة إلى الخير.

ويتضح لنا من قصص الأنبياء والرسل أن الذين آمنوا بهم وصدقوا بنبوتهم هم الجمهور قبل غيرهم، والسبب الطبيعي لهذه الاستجابة السريعة منهم أنهم خالون من موانع القبول السريع الموجودة في غيرهم من الأعيان والسادة والعصاة والمترفين كحب الرياسة وخوف ضياع المكانة التي توارثوها في المجتمع ظلما وباطلا والتكبر والتعالي عن انقياد الغير والانغماس في الترف والأهواء النفسية، ولهذا تستنكف هذه الطبقة عن اتباع دعاة الإصلاح وتستصغر شأن الذين يتبعونهم ويرمونهم بالسفاهة والاستكانة كما يحبون المكائد لتضليلهم وإغوائهم.

وحكى الله سبحانه وتعالى قول الملأ من ثمود {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 75)، ويستطيع الملأ الذي بيده الجاه والمال والقوة أن يرهبوا الجمهور ويثبطوا هممهم عزائمهم بالإغراء بالمال والجاه وبالتهديد بالإيذاء والبطش، وقال الله في شأن فرعون وملئه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} (يونس: 83)، وكذلك كان أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في مكة من الضعفاء وقد نالهم من مشركي قريش أذى كثير..

وفي السيرة النبوية أن أشراف قريش عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم المال الكثير يعطونه له ترك دعوته كما وعدوه بالملك والسلطة والجاه مما يدل على أن السادة وكبراء يغرون الناس بالمال إعطاء أو منعا لصدهم عن الدعوة إلى الحق وقبولها، ومن ناحية أخرى يسلك أصحاب الرئاسة والأموال، الأغراض الذاتية مع هؤلاء الدعاة والذين يتبعونهم سبيل إثارة الشبهات والافتراءات حولهم بدعوى حماية عقيدة وأجدادهم، فقال تعالى عن مثل هذه المسالك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر : 26).

ومثل هذا كان زعماء قريش يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه يريد إفساد عقيدتهم وتسفيه آلهتهم، ومن الشبهات التي وقعوا فيها أن لهم الأموال الكثيرة والجاه والسلطان وتوهموا أن هذا دليل على أحقيتهم وصلاحيتهم لهذه المهمة فكيف كان فرعون يعتز بملكه وثرائه وسلطته ويوهم بها قومه أنه أحق بالحق والاتباع من موسى الذي ليس عنده شيء مما عند فرعون من أسباب هذه المنزلة، وقال تعالى :”ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي  ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي مهين ولا يكاد يبين”، وأن مثل هذه الأوهام والشبهات، على بطلانها وسذاجتها فإنها تؤثر في الجمهور لأن الإنسان العادي ينخدع بالأسلوب الناعم المزخرف وينبهر بمتع الحياة الدنيا ومباهجها، ويزداد اغترارا إذا كان ذلك الأسلوب مصحوبا بالتهديد بالقوة والإيذاء بالحرمان، فلا ينجو منه إلا الراسخون في العلم بأن الله تعالى يعطي المال والجاه لمن يحبه ولمن لا يحبه فلا يكون المال والجاه دليلا على صلاح الشخص وصواب دعواه، ومع وجود احتمال تأثر الجمهور بإغراءات السادة والزعماء وأضاليل كما حصل من فرعون وملئه وقادة قريش، فإن الجمهور في كل زمان ومكان أسرع من غيرهم إلى الاستجابة لدعوة الحق ويجب على الداعي المسلم أن يضع نصب عينه دائما أن أتباع رسل الله كانوا من جمهور الناس وعليه أن يتخذ منهم قاعدة لنشر الدعوة بين سائر أنواع المدعوين.

دراسة المستوى الثقافي للمدعوين

يجب أن يكون الداعية الإسلامي ذا ثقافة عالية واطلاع واسع فيسهل عليه توجيه أنظار الناس إليه ومخاطبة المثقفين من جميع قطاعات المجتمع، ويستطيع كذلك دعم آرائه وأقواله بحجج واضحة قوية وتوجيه أفكاره ودعوته إلى الجمهور بثقة في نفسه وإرادة قوية في مهمته، وإذا كان الداعي قليل الثقافة وسطحي الوعي سرعان ما ينكشف الناس عنه ويتراجعون عن دعوته وينفضون عنه وعن دعوته، وينبغي أن يدرك الداعي ان تعميق حركة الدعوة في قلوب الجمهور يكمن في تقريبهم إليه وصرف تطلعاتهم نحو هذه الحركة.

وأن الداعي المثقف الواعي يدرس المستوى الثقافي والفكري لكل طبقة من المجتمع الذي يعمل في وسطه ويضع برنامجا متقنا مدروسا يناسب عقول أفراد وجماعات تلك الطبقة ويلبي حاجاتهم الأساسية النابعة من واقع حياتهم، ويراعي في ذلك البرنامج الأولوية، الترتيب، ولا بد أن يكون منهجه متنوعا ومتكاملا بحيث يشمل مختلف طبقات المجتمع الذي اتخذه ميدانا لعمله الشاق ولكنه مفيد، لأنه يجالس ويحادث الأدباء والعلماء والساسة والاقتصاديين والعقلاء والبسطاء، فيجب أن يكون منفتحا فكريا وحركيا واسع الإدراك، ولا يكن انغلاقيا وضيق الأفق.

ويمكن للداعي المسلم أن يستوعب ثقافته العالية الشاملة بالقراءة الواسعة على مستوى عال فيقرأ الأفكار والآراء المختلفة ولا ينبغي له أن يستكبر أو يستنكف من قراءة أفكار المخالفين أو الأعداء بل لا بد أن يمر على جميع الأفكار، وإن انغلاقية الداعي تجعله يبدو غريبا في وسط المجتمع المثقف بثقافة عالية شاملة و إذا بقي الداعي مع أفكاره المحدودة ومعلوماته القليلة التي التقطها من بعض صفحات الكتب المقررة في المدارس والمعاهد واكتفى بحفظ بعض النصوص المتداولة في كل المناسبات يعيش مع نفسه فقط ويدور في حلقة مفرغة، ويمكن للداعي الواعي أن يستقي ثقافته ومعلوماته الواسعة المتنوعة من الذين يجالسهم ويحادثهم فإن الكثيرين منهم يحملون أفكارا واسعة ومعلومات مفيدة فعليه أن يستقي العلم والخبرة من كل شخص يجالسه ويناقشه فينفتح فكره تدريجيا، والمهم أن يكون الداعي واعيا تاما واسع الأفق والاطلاع، قادرا على الكلام في المجالس وتوجيه أنظار الناس إليه وصاحب الحجة الواضحة.

ضرورة الحركة السريعة

يجب أن يعلم الدعاة أن الناس لا يأتون إليهم وأن منهج رسل الله جميعا في إبلاغ الدعوة هو الذهاب إلى الناس ليدق أبوابهم ويوقظهم من سباتهم العميق الذي ظلوا فيه نائمين والمثل الأعلى في هذه الوسيلة المنهج المحمدي لخاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فإنه لبث عشر سنين يتبع الحجاج في منازلهم في المواسم ويغير قدميه الشريفتين في التردد على أسواق العرب والموسمية وأماكن تجمعاتهم في سبيل إيصال كلمة الحق وإبلاغ دعوة الله.

وكان رسل الله الكرام في جميع الأزمنة والأمكنة يبلغون الدعوة إلى الناس بالحركة المستمرة، والتشمر الدائم، وليس بالجلوس في البيوت أو في المساجد أو في الزوايا، وانتشرت الدعوة  الإسلامية في أرجاء الدنيا بالتحرك المتواصل حتى رويت الأرض بقطرات عرق جبينهم ورويت القلوب المتعطشة بدعوتهم المباركة، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم المثل الأعلى للداعي في سبيل إيصال كلمة الحق وبذل الجهد قدر المستطاع دون توفير وقت أو خوف على متع الدنيا وزخارفها، فيجب على كل داعية مؤمن أن يتحرك بسرعة ويوسع دائرة تحركه شيئا فشيئا ويساهم في وضع لبنة في بناء الإسلام ولو بكلمة واحدة حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “بلغوا عني ولو بآية”، وأن البطء مسبوق والزمن لا يرحم لأنه سريع الحركة.

أثر القدوة الشخصية

إن السيرة الطيبة للداعي وصفاته العالية وأخلاقه الفاضلة وأفعاله الحميدة تجعله قدوة حسنة، وأسوة مثالية لغيره، لأن التأثر بالأفعال والسلوك الشخصي أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام فقط، والدعوة الإسلامية في حقيقتها تربية، والتربية تحتاج إلى القدوة الشخصية، والذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد وعظ وإرشاد وإنما كان في الحقيقة تربية، وأن تبليغ الدعوة بالقول الحكيم والموعظة الحسنة مطلوب كإحدى الوسائل الهامة كما جاء في كتاب الله المنزل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } (النحل: 125)، ولكن جاءت فيه إرشادات أخرى عديدة في مجال التبليغ بالسيرة الحسنة ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21)، و{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7).

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس ويبلغهم رسالة ربه، ويربيهم لسلوكه الشخصي وبالقدوة، يربيهم كيف يحققون في العالم الواقع أوامر الله تعالى وكيف تكون العبادة خالصة لله، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : “كان خلقه القرآن ” وأن الرسول قد تشرب في قلبه كل معاني والقرآن وتخلق بها وتطبع حتى صار القرآن هو خلقه وصار خلقه هو القرآن ثم دعا الناس وهو على هذه الصورة أي صورة حية محسوسة لتعليم كتاب الله، وكان بها كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معانيه فيقبلون عليها وينجذبون إليها.

إن القدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للإسلام يستدل بها المدعوون على أحقية الإسلام لا سيما إذا كان سليم الفطرة وسليم العقل وأن الإسلام قد انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالسيرة الطيبة للدعاة المسلمين وفي مقدمة أصول السيرة الحسنة حسن الخلق وموافقة العمل للقول، ومن الأخلاق الحسنة التي يجب أن يتحلى بها الداعي الصبر والحلم والعفو، وقد أمر الله سبحانه وتعالى رسله الكرام الذين هم أئمة الدعاة بهذين الخلقين مقرونا بتبليغ الدعوة، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 35)، وقال أيضا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، وقال على لسان لقمان عليه السلام: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (لقمان: 17)، وهذا يدل على أهمية الصبر ولزومه للداعي، وأن الداعي بسماحته وعفوه وصبره على أذى الجاهلين والمعارضين وإعراضه عنهم، يفتح قلوبهم للتفكر في أحقية دعوته وجديته وتحملهم هذه الصفات العالية على التوجه إلى ما يدعو إليه وقبوله ولو بعد حين.

  وليتق الداعي ربه في هذا الأمر الخطير فلا يكون منفرا عن الإسلام بسيرته وهو يريد الدعوة إليه بقوله، وأن موافقة عمل الداعي بقوله لهي المعيار الذي يزن به المدعوون من عامة الناس مدى جدية دعوته ومقدار إخلاصه فيها، فليحذر الداعي من مخالفة أفعاله لأقواله، فإن النفس مجبولة على عدم الانتفاع بكلام من لا يعمل بعلمه ولا يوافق فعله قوله، ولهذا حذرنا الله تعالى من مخالفة أفعالنا لأقوالنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3).

——

* مدير كلية الدعوة – كاليكوت – كيرالا – الهند، والمقال مأخوذ من موقعه الشخصي على الإنترنت.

 

 

مواضيع ذات صلة