القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

منهج الإسلام في التربية

الشيخ حسن عبدالعال محمود

توجيه بالحوار

أعطى الإسلام للحوار العقلي دوره في التوجيه

من خصائص الإسلام أنه منهجٌ متكاملٌ، يحرص على مكارم الأخلاق وغرسها في نفوس أفراد المجتمع؛ لينشؤوا ويشبُّوا ويهرموا على الاتِّصاف بها، ولا يتمُّ ذلك إلا بتقويم النفس الإنسانية على الخلق الفطري الذي فُطرَتْ عليه، وتهيئة البيئة الصالحة التي يتربَّى فيها الإنسان، وإيجاد الصفات الحسنة، وإقامة ميزان العدل في المجتمع بإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، فالإسلام منهج تربوي يُهذِّبُ النفس، ويصل بها إلى طريق النجاة، وحتى نفهم ذلك بوضوح فسوف نركِّزُ في مقالنا هذا – وعنوانه: (منهج الإسلام في التربية) – على العناصر التالية:

أولاً: منهج تربوي ليس له مثيل في عصر من العصور.

ثانيًا: منهج يَحفَظُ كرامةَ الإنسان في المجتمع.

ثالثًا: منهج يُعطي للعقل دورًا في التوجيه.

 

العنصر الأول: منهج تربوي ليس له مثيل في عصر مِن العصور

معلوم أن الإسلام ما جاء ليمحوَ الغرائز، إنما جاء ليُهذِّبَها ويُروِّضَها؛ وذلك حمايةً للنفس البشرية مما يفسدها، فالإسلام بتعاليمه السَّمْحةِ الغرَّاء ما جاء إلا ليعصمَ النفس البشرية من مزالق الخطأ، ومنحدرات التحلل فيصونها؛ إذ يجعلها في حرز من الشيطان المتربِّصِ بها الدوائر، وهي لا شك مجبولة على الأمر بالسوء وحب الشهوات؛ ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [يوسف: 53].

ومعلوم أن الأمن في داخل المجتمعات يتولاَّه الحاكم أو الوالي، وذلك بما يراه من تعاليم الله ومن تشريع بيَّنَ حدوده سبحانه، فمن تعدَّى هذه الحدود فكسَرها فهناك التجريم، وهناك العقوبة، ونجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تسامى في هذه المسألة تساميًا لم يتحقق لأيَّةِ أمةٍ، ولا لأيَّةِ حضارة، ولا لأيَّةِ مدنية، كيف كان ذلك؟

نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنشِئْ سجنًا لِيؤدِّبَ فيه المجرمين أو المنحرفين، وإنما أنشأ شيئًا آخر هو أن يسجن الذي أجرَم وهو حرٌّ في المجتمع؛ فرأيناه لا يسجن المجرمَ، ولكنه يَسجنُ كلَّ المجتمع عنه، يعيش بانطلاق حريتِه، ويعيش بين الناس وهو غريب عنهم؛ فيشعر بحواجز السجون دون أن يكون لها وجودٌ حسيٌّ، وجدناه حين يُصدرُ النبي صلى الله عليه وسلم أوامرَه: اعزلوا الذي انحرف عن مجتمعكم، فيستجيب المجتمع كله، وهذا ما لم يُعرَفْ في أي أمة من الأمم، ولا في أي حضارة في التاريخ.

لقد حدث ذلك بوضوحٍ لكعب بن مالك رضي الله عنه، وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهما، وذلك حين تخلَّفوا جميعًا عن غزوة تبوك، وما تخلَّفوا عن عذرٍ، فلقد كانتْ لهم قوة يستطيعون بها المشارَكة، ومعهم الرَّاحلةُ والزَّاد، ومع ذلك تخلفوا، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلوا إليه معتذرين بصدقٍ ولم يكذبوا، ولم يقولوا: لم نجدْ، بل قالوا: لم نكن أيسرَ حالاً منا في ذلك الوقت، ولكننا تخلَّفْنا وتخاذلنا من غير حاجة! فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصرفوا حتى يُنزِلَ الله فيكم حكمَه))، ولكنه أمَرَ الناس ألا يكلموهم، فلم يكلمهم أحدٌ، وتسامى الأمر، فعُزِل كلُّ واحد عن أهله، والحديث بطوله في البخاري باب حديث كعب بن مالك وقول الله عز وجل: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ [التوبة: 118]، ومسلم باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبَيْه، وراجع السيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني – ص: 196 وما بعدها ط / دار المنار).

فهذه هي عظمةُ التشريع حين يتسامى، فلا يَعزِلُ المنحرف وحدَه، وإنما يعزِلُ عنه المجتمع، وهو حرٌّ طليق في هذا المجتمع، فترى المجتمع بعد ذلك لا يُقيمُ مودةً لمنحرفٍ، ولا محبة ولا سلامة له، تلك هي قوة الكلمة، حين تعزل الرجل عن أهله – ولا رقيب في البيت بين الرجل وأهله.

ويتسامى التشريع الحاكم مع المنحرف حين يبلغُ مبلغًا عظيمًا؛ وذلك حين يأتي أحدُ أفراد المجتمع ليُوقِعَ على نفسه عقوبة – وهو الذي يحددها بنفسه – وذلك يتضح بصورة واضحة في موقف سيدنا أبي لُبابَةَ رضي الله عنه حين تبدو منه بادرة نظر إليها، وكأنها جريمة لا تُغتَفَرُ – إن لم تكن كذلك – وذلك حين أشار إلى اليهود قائلاً: “إنكم إن قَبِلْتُم عهدَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فإنه القتل”، فلما قالها قال: والله لقد علمتُ حين ذلك أنني خُنتُ اللهَ وخُنتُ رسولَه، علمًا بأنه لم يَطَّلعْ عليه أحدٌ لتقوم عليه الدعوى، إنه ذهب إلى سارية المسجد، وفوجئ به صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوطًا في السارية، فسألوه لماذا؟! فأخبرهم بخبره، وقال لهم: “إنه لا يُكفِّرُ ذنبي هذا إلا أن أربط نفسي إلى سارية المسجد”، فكان إذا جاءت الصلاة تأتيه امرأتُه فتحلُّ قيدَه للصلاة، ثم يعود فيُربَط، فحين تاب الله عليه ثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يُطلِقُني بيده، فلما مرَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه؛ (ولمطالَعة القصة بطولها راجع السيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني – ص: 100).

لقد عَلِم أبو لُبابة رضي الله عنه أن أمره إن خفي على الناس فإنه لا يخفى عن الله، وهو بالتالي لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سوف يُخبِرُه بذلك؛ فرأيناه يسرع فيحدِّدُ لنفسه أسلوبًا تربويًّا؛ يستعطف به قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرضى عنه، فيأمر بفكِّ قيوده، فحينها يعلم يقينًا أن الله قد غفر ذلك الذنب، وهو ما حدث بالفعل.

 

العنصر الثاني: منهج يحفظ كرامة الإنسان في المجتمع

لقد كان التوجيه الأمثلُ والغالب في توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في شتى المواقف المخالفة – ألا يَذْكُرَ صاحب الموقف باسمه، ولا يشير بأي إشارة يُعلَمُ من خلالها أن “فلانًا” هو الذي يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، بل كان دائمًا يشير بمقولته الحكيمة: ((ما بال أقوام))، وقوله: ((ما بالُ أحدكم يفعل كذا وكذا))، فإننا نرى النبي صلى الله عليه وسلم لم يُواجِهِ الفاعلَ بفعله حتى لا يحرجه، وحين لا يحرجه أو يخجله يكون حريصًا على كرامته في المجتمع، ويكفي أن يعلمَ الشخص أنه قصَّر ولا يعلمُ غيرُه ذلك، ولو كان ما أحدَثه هذا الشخص جريمةً في حق الإسلام؛ ذكر الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي حُمَيْدٍ الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأسد يُقالُ له: “ابن اللُّتْبِيَّةِ” – قال عمرو وابن أبي عمر: على الصدقة – فلما قدم قال: هذا لكم وهذا لي؛ أُهدِيَ لي، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بالُ عامل أبعثُه فيقولُ: هذا لكم، وهذا أُهدِي لي؟! أفلا قعَد في بيت أبيه أو في بيت أمِّه حتى يَنظُرَ أُيهدَى إليه أم لا؟! والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحدٌ منكم منها شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يَحمِلُه على عنقه بعيرٌ له رُغاءٌ، أو بقرة لها خُوارٌ، أو شاةٌ تَيْعِرُ))، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتَيْ إبطَيْه، ثم قال: ((اللهم هل بلغتُ؟)) مرتين؛ رواه مسلم، باب تحريم هدايا العمال.

 

فذلكم هو الأسلوب الأمثل في التوجيه الكريم الذي علمنا من خلاله صلى الله عليه وسلم كيف تكون الكلمة الطيبة، وما هو سحرُها، إنه المدخل الحقيقي لقلب وفطرة الإنسان السوي.

 

العنصر الثالث: منهج يُعطي للعقل دورًا في التوجيه

لقد أعطانا النبي صلى الله عليه وسلم دروسًا تربوية عظيمة في توجيه النصح، وعدم التسرع في معالجة الأمور – ولو كان ما حدث ذنبًا عظيمًا – فالتسرع في الحكم والعقاب ربما ترتَّب عليه منكرٌ أشدُّ من المنكر الذي وقع، يتضح ذلك من خلال موقفه صلى الله عليه وسلم مع صحابته، حين دخل أعرابي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال فيه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبولُ في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُزرموه دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذِكْر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)) – أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلْوٍ من ماء فشنَّه عليه”؛ رواه مسلم، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات.

فالمسألةُ رغم عِظَمِها في التعدِّي على حرمة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن التوجيه النبوي بلغ الغاية العظمى في حفظ سلامة الإنسان من أن يتأذَّى ولو في قضاء حاجته، وذلك واضح في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزرموه))؛ أي: لا تقطعوا عليه بوله؛ لأن في ذلك شدةً عليه وحرجًا عظيمًا، ثم بعد أن يقضي حاجته يتوجَّهُ إليه المربي العظيم بأسلوب العتاب المُهذَّب بعيدًا عن العنف والأذى، فيقول له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذِكْر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن))، ثم بيَّن صلَّى الله عليه وسلم العلاجَ لهذا الأمر أنه يكفي أن تَنضَحَ دلوًا من ماء على هذا البول، وبعدها يطهر المكان.

 

وختامًا..

فإن منهج الإسلام في التربية يُظهر سماحة الإسلام في مناهجه التربوية، بدا ذلك واضحًا من خلال نظرة الإسلام إلى الإنسان وكرامته – دون نظرٍ إلى عقيدته أو ديانته – وتلك سياسة الإسلام الحكيمة في كل نواحي الحياة، حتى في الحروب حين يخرج المسلمون لإعلاء كلمة الله يكون المنهج قائمًا على عدم التعدي على المدنيين الذين لا يشتركون فيها؛ من شيوخ، ونساء، وعَجَزة، وعُبَّادٍ منقطعين للعبادة، وعلماء منقطعين للعلم، إلا إذا قاتلوا، أو كان لهم في تدبير الحرب رأي ومكيدة.

لقد مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن انتصر المسلمون في غزوة حنين بامرأة مقتولة، والناس مزدحمون عليها، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: امرأة قتلها خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه: ((أَدرِكْ خالدًا، وقل له: إن رسول صلى الله عليه وسلم ينهاك أن تقتلَ وليدًا، أو امرأةً، أو عسيفًا))؛ راجع السيرة النبوية لابن هشام المجلد الثاني – ص: 251، والحديث رواه ابن حبَّان، وقال الألباني: حسن صحيح.

وأمر المسلمين ألا يقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، وقال لهم: ((اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتلوا مَن كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))؛ رواه أبو داود، باب في دعاء المشركين، قال الشيخ الألباني: صحيح.

فالإسلام إنما يريد من الحرب إحقاقَ الحقِّ، ونشرَ العدل، والسموَّ بالمجتمع في عقيدته وأعماله وأخلاقه، فليس الغرضُ من الحرب والنصر السيطرةَ والاستعمارَ والاستئثارَ بخيرات البلاد المفتوحة، وتسخير أهلِها ومزاحمتهم في أرزاقهم، بل الغرضُ إقامةُ عالَمٍ مثاليٍّ سعيد.

ربنا لا تُزِغْ قلوبَنا بعد إذ هديتنا، وهبْ لنا مِن لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.

—–

المصدر: موقع الألوكة.

 

مواضيع ذات صلة