حامد العطار
قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]. وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا..} [البقرة – 286].
فالحرج مرفوع عن ديننا بنص القرآن، والعنت مدفوع ومنفي عنه، فليس في ديننا حرج.
والحرج في اللغة أصله: المكان الضيق بسبب الأشجار الكثيفة الملتفة التي لا تسمح بالحركة والخروج، إلا بعناء ومشقة. ثم استُعمل استعمالا معنويا، للدلالة على حالات الضيق الشديد التي تحيط بالإنسان، ولا يجد منها مخرجا، أيًّا كان نوعها وسببها.
و”الحَرَجة: الغَيضَةُ. الشجرُ الملْتَف .. تكون من السَمُر والطلْح والعَوسَج والسَلَم والسِدْر .. ملتفَّة لا يقدر أحد من الراعية أن يَنْفُذَ فيها. ومكان حَرَج -محركة وكتعِب: ضَيّق كثير الشجر “.
و المعنى المحوري للحرج: ضيق المكان من كثافة الشجر العظيم المرتفع فيه فيعسر النفاذ فيه أو منه. كما هو واضح من تفسير الحرَجَة. ومن ذلك الحِرْج -بالكسر: قلادة الكلب وكل حيوان (تمسكه في المكان وتضيّق عليه فرصة النفاذ منه).
والحرج: هو التضييق، وهو أيضا: شدة الضيق.
وكل (حَرَج) في القرآن فهو بمعنى الضيق الشديد أو المنع.[1].
ليس في الشريعة حرج
والمقصود: أن تكاليف الدين ليس فيها حرج، ولا ينبغي أن يكون فيها حرج؛ فالحرج مرفوع عنها ومنزوع منها ابتداء.
يقول ابن القيم : “فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله – صلى الله عليه وسلم – أتم دلالة وأصدقها [2]”.
وإذا كانت أفعال العباد دائرة بين أحوال خمسة (الوجوب، والحرام، والمستحب، والمكروه، والجائز) فإن مقتضى ذلك أن ثلاثة منها وهي (المستحب، والمكروه، والجائز) لا عقاب فيها، فالمستحب، في فعله ثواب، وليس في تركه عقوبة، والمكروه في تركه ثواب، وليس في فعله عقوبة، والجائز يستوي طرفاه، ليس في تركه ولا فعله عقوبة.
فلم يبق إلا (الوجوب، والحرام) هما اللذان يتعلل بعض الناس بأنه قد تأتي بعض المشقة من جهتهما.
ونحن لا ننفي أن يكون فيهما بعض المشقة، لكنها ليست المشقة التي تصل إلى الحرج والضيق؛ فالواجبات، متى تعذر شيء منها على المكلف سقط إيجابه، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” ..إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم” [3].
والمحرمات، لا تكون في المتروكات، بل تكون في المفعولات، والترك ليس فيه مشقة؛ بل المشقة في المفعولات، فكيف يكون ترك الحرام شاقا!
وإنما تكون صعوبة ترك الحرام في بعض الأحيان، لا في صعوبته، ولكن لأن الشيطان يزينه، ويوهم الإنسان بأنه الخير له، وربما أتت الصعوبة أيضا من كثرة مواقعته والاعتياد عليه ، وهذا يوجب على الإنسان مجاهدة نفسه التي غلبته حتى زينت له ذلك.
والأمر كما يقول أبو حامد الغزالي في صعوبة منع النفس عن شهواتها بعد إلفها، كحال رجل ترك دابته تسرح في أرض الناس، ولم يمنعها، فلما أراد منعها، وجد أن خطامها قد أفلت من بين يديه، فأخذ يجرها من ذنَبها ليعيدها إلى حالتها الأولى، ولو أنه أمسك بخطامها، وكبح جماحها من أول الأمر لهان عليه منعها.
القتال والحرج
وصف الله تعالى القتال في سبيل الله بأنه مكروه إلى النفوس فقال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة – 216] . كما صرح سبحانه بأن أعمال الحرب أعباء، فقال تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد – 4]. وأوزار الحرب أعباؤها ومشاقها وأضرارها.
ومهما قيل في أمر القتال، فهو مكروه إلى بعض النفوس، شاق عليها، لا جدال في ذلك، لكنه بالرغم من ذلك فإنه لم يصل إلى حد الحرج، فقد عفا الله فيه عن أصحاب الأعذار الذين لا يطيقونه، فقال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]. فلا جهاد على الأعمى والأعرج والمريض، والفقير الذي لا يجد ما ينفق في غزوه، والمدين، ومن له والدان إلا إذا تعين الجهاد على تفصيل بين العلماء.
كما لم يوجب وقوف الفرد أمام طائفة من الكفار في ساحة القتال لو وجد إلى استحياء نفسه سبيلا، كل ما هناك أنه أوجب على الفرد أن يصمد أمام الفردين، قال تعالى. {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].
قال القرطبي: “وليس في الشرع أعظم حرجا من إلزام ثبوت رجل لاثنين في سبيل الله تعالى، ومع صحة اليقين وجودة العزم ليس بحرج”[4].
العقوبة والحرج
روعي في العقوبات الشرعية أن تكون زاجرة رادعة، وحتى تحقق ذلك، فلا بد أن تكون شديدة بالقدر الذي يسهل لها أداء هذه المهمة، وإلا لاعتدى القوي على الضعيف؛ قال الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة -38].
وقال أيضا {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور-2].
قال القرطبي: “قال العلماء: رفع الحرج إنما هو لمن استقام على منهاج الشرع, وأما السَّلَّابة والسُّراق وأصحاب الحدود فعليهم الحرج, وهم جاعلوه على أنفسهم بمفارقتهم الدين. ” [5].
من رفع الحرج إلى التيسير
بل لم تكتف نصوص القرآن بأن تنفي الحرج عن الشريعة، بل قررت في وضوح أن الله يريد بنا اليسر، ويريد أن يخفف عنا، قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ..} [النساء: 28].
واليسر والتخفيف قدر زائد على رفع الحرج والآصار، فاليسر: الليونة والسهولة، وجريان الأمور بسهولة بلا عوائق مالية أو غيرها.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا”[6].
ويقول: “إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين”[7]
ويقول: “إنما بعثت بالحنيفية السمحة”[8].
وينكر النبي صلى الله عليه وسلم على المتطرفين والمغالين في العبادة أو في تحريم الطيبات، ويعلن أن من فعل ذلك فقد رغب عن سنته “ومن رغب عن سنتي فليس مني”[9].
ولما استفتى الرجل الذي جامع زوجته في رمضان، فأوسعوه تخويفا وترهيبا، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه، فلما عاد من عنده قال لقومه : “وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – السعة وحسن الرأي”[10].
وعدَّ العلماء السماحة واليسر من خصائص الإسلام الأصيلة ومقاصده الكلية، وقد اعتبر ابن عاشور ” السماحةَ أولَ أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها “، وعرَّفها بأنها “وسط بين التضييق والتساهل”.
* المصدر: إسلام أون لاين (بتصرف يسير).
——————–
[1] الحرَج المعجم الاشتقاقي المؤصل (1/ 406).
[2] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 11).
[3] رواه مسلم، رقم (1337).
[4] تفسير القرطبي (12/ 101).
[5] تفسير القرطبي (12/ 101).
[6] متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/ 201).
[7] رواه البخاري ، رقم (220).
[8] رواه أحمد، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة، رقم (2924).
[9] متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (2/ 90).
[10] رواه أبو داود، رقم (2213).