للخطيب مهارات في أكثر من جانب نفسي ومعرفي، وهذه بعضها معنصرة مستقاة من موقع “ملتقى الخطباء” بتصرف ملائم:
1- لابد للخطيب أن يكون لسنا فصيحا ذرب اللسان، قديرا على التعبير لأن منطقه هو ثروته وعدته، وهو بمنطقه يقنع وبمنطقه يستميل، وما هز المنابر في القديم والحديث إلا الفصحاء. وحتى تكون الخطبة بليغة لا بد فيها من توفر عناصر الجمال الأدبي للكلام البليغ عموما، وهي: مطابقته لمقتضى حال المخاطبين، والتزامه بقواعد اللغة وضوابطها في مفرداتها وتراكيب جملها، وخلوه من التعقيد اللفظي والتعقيد المعنوي.
2- ومن عناصر الجمال في المعاني تناسق الفِكَر وترابطها ترابطا منطقيا دون إعنات للفكر، فينبغي أن تكون الخطبة مشتملة على عناصر الترابط: مقدمة، ثم عرض، ثم استدلال، ثم نتيجة، وكل جزء من هذه الأجزاء مبني على الذي قبله ممهد لما بعده.
3- ومن الترابط المنطقي الانتقال من الجذور والأصول في الفِكَر إلى الفروع الكبرى فالصغرى فالأوراق فالثمار، أما الخلط من غير ترابط منطقي فهو قبيح تنفر منه الأذهان؛ لأنها لا تستطيع أن تجريه في جداولها المنطقية الفطرية. فمسايرة المخاطب في تداعي فِكَره وتسلسلها تحدث في نفسه الارتياح والمسرة حين يلمس الفِكَر مترابطة متناغمة تأخذ بعضها بأعناق بعض.
وتأمل قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر:27- 28).
فتصور اختلاف الألوان في الثمرات يستدعي في الفِكَر تصور اختلاف الألوان في الجبال؛ لأنها هي التي تبرز اللوحة الفنية بعد النظر إلى الثمار في أشجارها، فيخطر اللون الأبيض منها على اختلاف درجاته، ثم الأحمر على اختلاف درجاته، ثم الأسود على اختلاف درجاته، ثم ينتقل الذهن إلى الألوان في الدواب والأنعام.
4- حسن اختيار الألفاظ، وفي هذا ينبغي للخطيب أن يراعي: أن تكون الألفاظ سهلة واضحة يمكن استيعابها وفهمها، وألا تكون الألفاظ مبتذلة تنفر منها الأسماع والأذواق وليحذر من ألفاظ أبلاها الاستعمال أو ذكرها يؤدي إلى الابتذال.
ومما يعيب الخطبة ويجعلها مجافية للفصاحة عدم مناسبة العبارات المستعملة لمقتضى الحال، فتجد بعض العبارات أشبه ما تكون بالعبارات الصحفية التي تمجها الآذان وتنبو عنها الأسماع وليس مقام الخطبة بما له من قدسية مقام ذكرها، كقول: “وعلى صعيد آخر”، و”ينصهر في بوتقة واحدة”، ونحو ذلك من العبارات التي لا يناسب ذكرها مقام الخطبة.
والتعبير الحسن يتطلب اختيار الألفاظ الجزلة في مقامها والرقيقة في مقامها، ففي مقام التهديد وإثارة الحمية والحماسة تستعمل الألفاظ الجزلة، وفي مقام إظهار الأسى والألم يستعمل الرقيق من الألفاظ.
· وتأمل قول الله تعالى {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} (الزمر: 68). {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} (الزمر: 71)، كيف استعملت الألفاظ الجزلة في مقام الترهيب. أما في مقام التسلية فتأمل كيف استعملت ألفاظا رقيقة {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1-3).
5- تزيين الفِكَر المقصودة لذاتها بفِكَر أخرى؛ إذ من عناصر الجمال الأدبي تزيين الفكرة المقصودة بالذات بفِكَر أخرى عن طريق التمهيد للفكرة المقصودة، أو استعمال الاستعارات والمجاز في سبيل تحلية الفكرة؛ فالتمهيد يكون بعرض فِكَر تمهيدا للفِكَر المقصودة تجعلها مقبولة، كالتمهيد بمقولة إقناعية تتضمن ضرورة العناية بالصحة قبل التحذير من شرب الدخان.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159).
فقوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم)- تمهيد حلو في ثناء وتكريم للتحذير الضمني من شيء غير واقع حتما، ألا وهو الفظاظة وغلظ القلب الذي جاء بصيغة (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك). ثم نلاحظ أن الجملتين معا كانتا تمهيدين رائعين لتوجيه التكليف بقوله تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).
6- استعمال الاستعارات لإلباس الفكرة ثوبا من فكرة أخرى يتقبلها المخاطب أكثر من تقبله الفكرة المقصودة عارية مجردة؛ فالكلام يمكن أن ندل به على المعنى بأكثر من أسلوب مثل:
– أن تفصح الكلمات عن المعنى بأسلوب مباشر وتستعمل في الأحوال الآتية: عند بيان الحقائق العقدية الكبرى، وفي مواقف الدعاء لله، والأسلوب الملامس القريب من المباشر وهو الأسلوب الذي يستخدم للدلالة على المعنى بطريق التشبيه والتمثيل، أو الاستعارة أو المجاز.
– أن تفصح الكلمات عن المعنى بأسلوب غير مباشر (الكناية): يكون فيه التعبير عن فكرة لتفهم فكرة أخرى يشير إليها المتكلم من طرف خفي، ويستعمل هذا الأسلوب عند ذكر ما يستحيا منه، وعند النقد غير المباشر فالنفس قد تستنكف عن قبول النقد المباشر.
7- البراعة في تصوير الأحاسيس والمشاعر النفسية والفِكَر، وتظهر البراعة من خلال تقدير الفكرة في نظير حسي كتمثيل العلم بالنور، والجهل بالظلمات، قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ{ (النور: 35).
8- ضرب الأمثال، بشرط أن يكون لغرض بياني وليس مجرد عبث في القول، ويحسن الاستفادة من أسلوب الأمثال القرآنية وأغراضها، وأهم الأغراض التي جاءت بها الأمثال القرآنية: تقريب صورة الممثَّل له إلى ذهن المخاطب عن طريق المثل، والإقناع بفكرة من الفِكَر، والترغيب بتزيين الممثَّل له وإبراز حسنه أو التنفير بإبراز قبحه عن طريق التمثيل بما هو مكروه للنفوس، والتعظيم أو التحقير.
9- التنقل والتنويع: إن التزام الخطيب طريقة واحدة من الجمال الأدبي يكررها باستمرار يشعر سامعيه بتبلد تجاه هذا اللون فتفقد ما كان فيه من حلاوة، ولذا حري بالخطيب الداعية أن يتبصر بمختلف الأساليب البلاغية حتى يتنقل في أرجائها، فيتنقل من الخبر إلى التساؤل إلى الجواب إلى التمني إلى الحماسة إلى العاطفة، إلى غير ذلك من ألوان وفنون بيانية بشرط الملاءمة وعدم التنافر.
10- التركيز في دقيق المعاني: لفت النظر إلى معان طريفة دقيقة لا يلتفت إليها الذهن من أول وهلة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”. وكقوله : “انصر أخاك ظالما أو مظلوما” قيل كيف انصره ظالما؟ قال: “تحجزه عن الظلم”.
11- الجمع بين المتضادات في صورة متناسقة؛ لأن الأضداد سريعة التخاطر في الأذهان، فإيرادها قد يُحدث ارتياحا جماليا في النفس. فمن تلك الصور التي يرسم لها التضاد لوحة جمالية مشهد سفينة راسخة كالطود الشامخ في وسط عاصفة هوجاء. وفي القرآن من ذلك قوله تعالى {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (النجم: 43).
المصدر: موقع الإسلام.