أ. أسماء البشري
الداعية المحاضرة التي تمتلك مهارات سيكون لها تأثير أبلغ وأقوى في توصيل مادتها الدعوية والتأثير على المستمعات والمتلقيات.
وللخطابة أسس ثلاثة هي:
* لغة الجسد.
* نبرة الصوت.
* نوعية الكلمات.
ولعل من الملاحظ أن بعض الداعيات قد تجعل جل تركيزها على الكلمات وتهمل لغة الجسد أو النبرة المنسجمة مع طبيعة الكلمة، إلا أن المفاجأة هو ما أثبته فريق من الباحثين البريطانيين عام 1970م, وهو أن لغة الجسد هي الأقوى بالتأثير؛ حيث يبلغ تأثيرها 55% ويأتي بعدها بنسبة 38% للنبرة, ثم تأتي الكلمات في آخر المطاف لتبلغ ما لا يتجاوز-عادة- في نسبتها التأثيرية 7% فقط!.
وهذه المعلومة تجعلني أبدأ بكيف تلم الداعية بموضوع حركات الجسد, والتعابير الجسدية المصاحبة لخطابها؛ فعندما تقابل الداعية مدعواتها فأول ما يلفت الانتباه هو شكل الداعية -الهندام, تعابير الوجه, حركات اليد.. وغير ذلك-؛ ولذا فأول المنطلق هو تفقد الإطار الخارجي -إن صح التعبير- للداعية فاهتمامها بنظافتها وشكلها الخارجي وأناقتها المتزنة له أهميته, هنا ستفتح أول أبواب القبول، كما أن ابتداءها بابتسامة يعطي إيحاء للحاضرات بالراحة والاسترخاء النفسي, ويكون العقل متقبلا بشكل أكبر حيث يتخلص من بعض الضغوط, وتكون المدعوة مهيأة لاستقبال ما ستقوله الداعية, وقد نلاحظ بعض الأحيان بأنه قد يتركز نظر الداعية -خصوصا في حال حضور أعداد كبيرة- على من هم بالصفوف الأمامية أو مع من تتفاعل معها أو تركز نظرها، على جهة أو على صف دون آخر, وهذا الأمر يفقد تواصل البقية معها؛ فالتواصل البصري مع جميع الحاضرات يشد المدعوة.
وإذا كانت الداعية لا تستطيع التواصل بصريا مع كل واحدة من الحضور لزخم العدد فهناك طريقة المسح البصري أي تجول بنظرها متطلعة إلى كل صف بشكل كاف, ولكل الجهات، وقد يكون الأمر في البداية صعبا, لكن لا بأس فمع الممارسة يسهل الأمر فتجد بأنه أصبح جزءا من أدائها، ولا تحتاج مع الوقت لتذكير نفسها به, وقد يكون من عادة البعض عدم النظر في عين المتحدثة أو المتحدث إليها خصوصا في حالة الحديث الفردي؛ وهو ما يشعر المتلقية بأنها ليست موضع اهتمام؛ فينصرف عقلها، ويقل قبولها لحديث الداعية, ومن الأفضل النظر إلى عيني المدعوة بنظرات تودد وليست نظرة حادة مع حاجبين مقطبين,
ولقد ورد أن نبينا محمدا – صلى الله عليه وسلم- “كان لا يثبت نظره في وجه أحد، خافض الطرف, نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلُّ نظره الملاحظة”.
* والنظرة المؤثرة:
هي التي تنطق بتمني الخير للمدعوة مع انبساط لتعابير الوجه كالحاجبين وعضلات الوجه، كما أنه من الجميل لو زينت بابتسامة ومصافحة حميمة.. هنا التأثير سيرتفع وسيكون للكلمات -مهما قلت- وقع أكبر وتأثير أشد, ولفت الخطاب القرآني لأثر تعابير الوجه والحركة في قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}(1) سورة عبس, وقوله تعالى :{ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (22) سورة المدثر, وقد تلاحظ الداعية أمرا وهو ابتعاد أو اقتراب البعض منها، وهذا له تفسيره العلمي وعائد للنظام التمثيلي لديها وكي لا يبتعد الحديث, فتقبلي قربها أو بعدها بدون محاولة منكِ للاقتراب إذا كانت مبتعدة أو العكس؛ فالبعض قد يفقد تركيزه كلياً في حال اقترابه من محدثه, والبعض الآخر لا يرتاح إلا باقترابه من محدثه, ومعرفة هذا الأمر من صالح الداعية، والخطابة لا تقتصر على ذلك؛ فحركة اليدين بالإشارات المناسبة للكلمات والجمل، وتعابير الوجه المتوافقة مع الحديث كانبساط أو تعجب. ومما روي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعض على شفته السفلى عند التعجب, وإذا أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام).
بالإضافة لحركة الجسد من توجه للجذع إلى الأمام أو الخلف وغيرها لها تأثير خفي لا يُستهان به!
ولعل من السنة ما يؤكد هذا المعنى؛ فلقد روي في الحديث “أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة”، ثم أشار بالسبابة والوسطى عليه الصلاة والسلام، ولعل نظرة حانية من إحداهن مع كلمة جميله تجعلنا ندرك هذه الحقيقة!.
* وأما حديثنا عن النبرة:
فنستطيع أن ندرك مدى تأثيرها في مكالمة هاتفية نستطيع أن نعرف حال المتصل إن كان سعيداً أو مضطربا أو لديه مشكلة مؤلمة, وغيرها من المشاعر التي تنبئ بالحال؛ فاختيار النبرة المصاحبة للكلمة يعطي دلالة على صحة معناها.
دعيني أعطيك مثالا:-
عندما تحدثكِ إحداهن بأنها مشتاقة إليكِ, وهي ترفع نبرة صوتها بحدة وتنطق كلماتها بسرعة وتلفظها كالتوبيخ.. بالله كيف سيكون شعورك؟ وما مدى تقبلك لما تعنيه الكلمة من مشاعر نبيلة؟
صدقيني ستشعرين بالانزعاج ويخالجك التعجب!
اختيار النبرة الأفضل أن يكون موافقا مع نوع الحديث, فإن كان الحديث يحمل سمة الود فهي النبرة الحانية اللطيفة, وإن كان بالمعنى تعجب فالنبرة المتأنية المشددة على بعض الكلمات المنتقاة لتتوقفي عندها, وكأنك تضغطين عليها بفمك وكأنها بالكاد تخرج ومما يضجر السامع هو الصوت العالي.. نعم قد يسمح برفعه في كلمة وكلمتين، وأما أن يكون غالب حال المتحدثة بهذه الصورة.. فهذا مخالف للمنهج الرباني ومنفر أشد ما يكون للمستمعة, وقال الله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (19) سورة لقمان.
ولعل من العجيب في الوصف القرآني عندما حث النساء على عدم لخضوع بالقول بترقيق الصوت لما فيه تأثير على القلوب, قال تعالى :{يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} (32) سورة الأحزاب.
وفي هذا إرشاد على أن للنبرة الوادعة المتهادية تأثيرا على المتلقية؛ فالحديث مع الرجال لا بد أن يضبط بضوابطه, لكن الأمر يختلف مع النساء؛ ولذلك لا بد هنا من ترقيق القول لهن، كما أن علو النبرة أو انخفاضها -خصوصا في الحديث الفردي- يكون بحسب المتحدثة معها؛ فإن كانت من النوع الذي يرفع نبرة الصوت قليلا فلترفع الداعية كي يحدث انسجام بينهن, وهذا سهل وتستطيعه الداعية في حال الحديث الفردي.
ولعلنا نذكر ما ورد في السيرة النبوية بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه علم ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها، اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي).
إذن فلقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحادث كل قوم بما يناسبهم برفع الصوت للمنادى عليه ومده للكلمات بنفس صورة المتحدث, وهنا ندرك أن هذا الأمر لم يكن هكذا بدون غاية تذكر؛ بل إن له أصلا نفسيا بتأثير ذلك على المتلقي إيجابا.
ولعلي أُجّمل ذلك باختصار بأن تقوم الداعية بقدر طاقتها بالتجاوب مع طريقة حديث المتلقية من حيث مستوى النبرة, مع ملاحظة التناغم بين الكلمة, وبين طريقة نطقها بالتوسط في نطقها أو الإطالة لإعطاء تصور ذهني؛ فلو قلت لكِ:
“وقضيت في هذا البحث مدة طويــــلة”
ثم مددتها ستشعرين بها أكثر مما لو قلت: (طويلة) بسرعة أليس كذلك؟! .* والآن نأتي للكلمات:
فعندما أوجه الكلمات يجب أن تعمل على مستويات..
وماذا يعني هذا؟
هناك من الناس من هو ذو مرجعية داخلية. ومنهم من هو ذو مرجعية خارجية.
وللتوضيح أكثر فصاحبة المرجعية الداخلية لا تبالي بكلام الناس أو ما يقوله الآخرون عنها؛ فهي لا تؤمن إلا بما يكمن داخلها من قناعة؛ ولذلك فالطريق إليها لا بد أن تحدد مساراته.
ولعلي أذكر مثالا توضيحيا:
يذكر أنه في إحدى الدورات التدريبية كانت إحدى المتدربات تستهين بالحجاب الشرعي, حاولت الأخوات نصحها، إلا أن السبل أعيتهم لإقناعها فطلبوا من المدرب أن يتدخل؛ لعله يستطيع الإقناع؛ فعندما تحدث معها أدرك أن لديها مرجعية داخلية, فوجه الحديث نحو مساره الصحيح، فقال لها بما مضمونه:
إن فتاة بمثل عقلك ونضجك هل يحسن بها أن تفعل ذلك, وأن تتصرف بطريقة لا تناسبها ولا تليق بمن هي مثلها؟
وغيره من الكلمات التي لا تصب في خانة “الناس يقولون” أو افعلي كذا أو هذا هو الصحيح؛ فهي لا تستمع إلا لكلماتها الداخلية فقط؛ فكان الحديث المقنع هو ما شعرت بأنه يمس ذاتها الداخلية، وينتهي الأمر بعزم الفتاة على الحجاب بقناعة تامة والقيام به فعليا.
ومن الجيد أن نشير إلى ما قد يرد من كلمات لأصحاب هذه المرجعية مثل قول: لم أقتنع, لا يهمني أحد, والأهم قناعاتي وغير ذلك..
،ولعلنا نستعرض قول الله تعالى لموسى عليه السلام عندما طلب منه أن يخاطب فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (44) سورة طـه، وهنا نجد أنه لا بد من اللين مع هذه النوعية, كونها معتزة بذاتها وبعقلها, ونستطيع أن نرمز إليها- أي أصحاب المرجعية الداخلية – بـ”أنتِ”.
أما أصحاب المرجعية الخارجية فالتأثير عليهم يأتي من الخارج, ورغم بساطة التأثير عليهم إلا أن هذا الأمر يحمل اتجاه النجدين؛ فهي ستتأثر سلبا أو إيجابا لأنه يكفى مثلا بأن تقولي لها إن هذا اللون لا يناسبها، أو القسم الدراسي غير جيد، أو وصفها بالمتحجرة كونها تتحفظ على بعض الأمور مثلا! لتتغير بعض قناعاتها، ولو قلتِ لو فعلتِ كذا؛ فإن الناس سيعجبون بك لكان لها تأثير قوي لا يتصور!
إنها باختصار تقتنع بما يقوله الآخرون, وليس بما تعتقد هي!
ولو تأملنا بعض سور القرآن؛ لوجدنا أن بعض من كذب الرسل هو متبع لقومه, فهو لا يرى إلا ما يراه الآخرون -خصوصا إن كان لهم موقع قوة –
قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}(67) سورة الأحزاب.
ونستطيع أن نرمز لأصحاب المرجعية الخارجية بـ”هـم”.
ومجْمل القول أنه من الرائع لو حملتِ دفتي حديث الداعية التنقل بين الوترين: وتر المرجعية الخارجية, والداخلية ليمس الحديث جمع من الحاضرات, فيكون التأثير واسع النطاق.
وأختم:
بأن التوقف من فترة لأخرى لاستجلاب النفس العميق, لا يستغنى عنه في أي حديث دعوي، سواء أكان فرديا أو جماعيا.
—–
المصدر: صيد الفوائد.