القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

نحو تعليم متصالح مع الهوية

السنوسي محمد السنوسي

أصبح دور التعليم في إحداث أي نقلة نوعية، وفي بناء أي تراكم حضاري؛ دورا راسخا، من الحقائق والمسلمات.. فالتعليم هو «البوابة الكبرى» التي يعبر منها الشباب إلى فضاء الحياة الرحيب، ومجالاتها المتعددة. وكلما أحسنا صناعة التعليم، كانت الفرصة أكبر في مستقبل أكثر إشراقا.

التعليم

التعليم هو البوابة الكبرى لفضاء الحياة

ولا شك أن منظومة التعليم في بلادنا العربية والإسلامية تواجه تحديات متنوعة؛ تشمل الإمكانات المادية والمناهج والأفكار، بجانب تطوير العنصر البشري؛ سواء أكان مرسلا (المدرس) أم مستقبلا (الطالب).

وأهم هذه التحديات ما يتعلق بتشكيل وعي الطلاب، وبناء منظومتهم المعرفية والوجدانية، خاصة فيما يتصل بالهوية؛ فقد عملت القوى الأجنبية، التي سيطرت على بلادنا لعقود، على الإخلال بهويتنا في النظام التعليمي؛ بحيث جاءت الصلة بينهما مهزوزة أو مقطوعة!

كان نظام التعليم في بلادنا بصفة عامة يعتمد بالأساس على التعليم الديني؛ الذي يتخذ من الثقافة الإسلامية وعلومها المتشعبة مادة أساسية له، مع تدريس بعض المناهج عن العلوم الطبيعية والرياضية.. ثم جاءت الدولة الحديثة بأنظمتها المستمدة من الغرب لتقيم لها نظاما تعليميا منفصلا عن هذا الشكل التقليدي من التعليم؛ فأنشأت لها مدارس، وجامعات بعد ذلك، تستمد مناهجها من المناهج الغربية، لتخرج كوادر يقومون بسلك الدولة، ووظائفها المتعددة.

وصارت عندنا «ازدواجية» في نظام التعليم، أي وجود نوعين من التعليم يختلفان في الأسس والركائز والمفاهيم والأهداف؛ وبالتالي في النتائج، وفي نوع تأثيرهما في حركة الحياة؛ التي تستمد وقودها من مخرجات نظام التعليم (1).

وفيما يتصل بمناهج الثقافة والاجتماع والتاريخ، بل وفلسفات العلوم الطبيعية؛ كانت الرؤية الغربية هي السائدة. وتم تقليص مساحة مادة الدين، أو مادة الثقافة الإسلامية، وعدم احتساب درجاتها ضمن المجموع الكلي، بل يتجدد الجدل، بين حين وآخر، لحذفها نهائيا من المقررات، في عدد من الدول العربية. إضافة إلى تهميش اللغة العربية، التي أريد لها أن تكون لغة جامدة راكدة محصورة بين أوراق الكتب.

كل ذلك وغيره، عمل على نشوء نظام تعليمي غير متصالح مع الهوية، بل بعضه يرسخ لذهنيةٍ مخاصمة لهويتها ولغتها، ذهنيةٍ تتصل بالثقافة الغربية اتصالا وثيقا، وتتيه باللغة الأجنبية وتفخر بالرطن بها..!

والسؤال: كيف يمكن أن نبني نظاما تعليميا يتصالح مع الهوية، ويرسخ القيم الإسلامية، ويقيم وعيا صحيحا لدى الشباب؟ وكيف يمكن للتعليم أن يسهم في بناء الشخصية، وفي الخروج من «التبعية الثقافية»، التي يراد بها إشاعة النموذج الفكري الغربي، وإضعاف هويتنا؟

إنني أتصور أن الانشغال بهذا السؤال أصبح أمرا ملحا؛ لاسيما ونحن نعاني تلك الموجات التي تتنازع شبابنا، وتلقي بهم في مهاوي الشك، والذوبان، وفقدان الثقة، وعدم القدرة على الإسهام في صناعة الحاضر والمستقبل..

تعليم متصالح مع الهوية

وحتى ننتج تعليما متصالحا مع الهوية، فعلينا اتخاذ عدة خطوات، أهمها:

– أن ننطلق من الإسلام باعتباره دينا وثقافة:

إن تعليما ينتظر منه أن يؤدي دورا مهما في نهضة أي أمة من الأمم، لابد له أن ينطلق من ثقافتها الذاتية؛ وإلا ذابت بين الأمم، وصارت مسخا مشوها من الآخرين.

ونحن لسنا بدعا من الأمم في هذا، بل نحن أولى بذلك منهم؛ لأننا قد شرفنا الله تعالى بكلمته الأخيرة للبشرية (القرآن الكريم)، التي تكفل بحفظها وصيانتها من التحريف والتبديل.

وإذا كانت خطط التغريب تفصل التعليم الدنيوي (المدني) عن الديني، وتهدف لتخريج عقول فارغة من ثقافتها الذاتية الإسلامية؛ فإن إعادة دمج هذين النوعين من التعليم، بأي صورة من الصور، يجب أن تكون «فريضة الوقت»، والخطوة الأولى لكي يؤدي التعليم دورا في الخروج من التبعية الثقافية، وفي غرس القيم والمبادئ الإسلامية عند الشباب.

ولذا، فمن المهم الإبقاء على مادة الثقافة الإسلامية، بالنسبة للتخصصات غير الدينية، وتطويرها بما يزود الطلاب بجرعة مناسبة لما يواجههم من إشكاليات معاصرة.

– أن نمزج التربية الروحية والنفسية بالتربية العقلية والمحتوى العلمي:

فالحضارات التي تقوم على العقل وحده حضارات غير إنسانية، يمكن أن تحرق غابة لتصطاد ثعلبا، ويمكن أن تلوث الأرض والسماء لأجيال ستأتي مادامت ترضي شهواتها. إننا ندعو إلى حضارة الحكمة والعقل، لا حضارة العقل وحده؛ ولذلك فإن التربية الروحية تتوازى في مناهجنا مع التربية العقلية، يتداخلان معا وينسابان في كيان المؤمن كله، حتى يخرج إلينا المؤمن رباني الفكرة والهدف (2).

ومن المهم أن نعمل على امتزاج العمران المادي والعمران الروحي؛ فالعمران الروحي يعطي الحكمة للعمران المادي حتى لا يصبح عبثا في الأرض، ويوجهه إلى خير الجماعة الإنسانية كلها، لا إلى فريق من البشر؛ غاياتهم عبثية، يريدون خلودا في الأرض وبطشا جبارا بالمستضعفين (3).

– أن نخرج من فلسفات النظريات الغربية، الطبيعية والاجتماعية:

للغرب ثقافته وأفكاره التي تشكل نموذجه المعرفي، حتى فيما يتصل بالعلوم الطبيعية؛ التي تبدو لكثيرين محايدة، ذات قواعد عامة. ولسنا دعاة انغلاق وجمود، لكننا في الوقت نفسه نرفض الذوبان والانحلال.

وفيما يتصل بالنظريات الغربية الطبيعية، يجب أن نفرق بين هذه النظريات وبين فلسفتها التي تقوم على الإلحاد وعلى فكرة قهر الطبيعة، لا على الإيمان والتسخير. فالعلوم التجريبية ثابتة محايدة، بينما فلسفاتها وتطبيقاتها تتغير وتتبع عقائد كل أمة وثقافتها.

وعن هذه التفرقة المهمة يقول محمد أسد: «فالمعرفة نفسها (أي العلم التجريبي) ليست غربية ولا شرقية، إنها عامة بالمعنى الذي يجعل الحقائق الطبيعية عامة؛ إلا أن وجهة النظر التي ترى منها هذه الحقائق وتعرض، تختلف باختلاف المزاج الثقافي في الشعوب… (فهذه العلوم) تتعلق بملاحظة الحقائق وبجمعها وتحديدها ثم استخراج القواعد المعقولة منها.. فليست العلوم الحديثة التجريبية هي المضرة بالحقيقة الثقافية في الإسلام، وإنما المضر هو روح المدنية الغربية التي يقترب المسلم بها إلى تلك العلوم (4).

إن الغرب بينما ينظر للعلوم الكونية كغريم ينبغي قهره والسيطرة عليه، ننظر نحن إليها كعوالم صديقة، تسبح لله وتكبره، ولا نتفاعل معها إلا بحق؛ تتمثل معالمه في: ابتغاء وجه الله/ الرحمة/ القصد والاقتصاد/ النفع العام/ العلم بسنن الله في الوجود (5). ولذلك يطالب مفكرون بإعادة كتابة العلوم من وجهة نظر إسلامية (6).

أما فيما يتصل بالنظريات الغربية الاجتماعية، فيعترف المفكر الجزائري د. عمار الطالبي بأننا «لم نهتم بالدراسات في المجال الاجتماعي والمجال النفسي بما هو واقع في مجتمعاتنا، وإنما اكتفينا بدراسات الغربيين وبما كتبوه عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ونقلناه بحروف عربية. إن استخلاص نتائج أبحاث الغربيين وتطبيقها على المجتمعات الإسلامية لهو من أكبر الأخطاء التي نرتكبها، وإن النظريات الاجتماعية والنفسية الغربية نظريات نبتت في مجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا.

نحن مطالبون بأن نعرف حقيقة أنفسنا، وأن نرى أنفسنا بمنظارنا لا بمناظير غيرنا؛ ولكن هذا لا يعني ألا نهتم بمعرفة غيرنا في هذا العصر، الذي تقارب فيه الزمان والمكان» (7).

– أن نعمل على ترسيخ اللغة العربية:

إذا كان سؤال الانعتاق من التبعية هو، كما يصوغه د. الدجاني: كيف نصل بمجتمعاتنا إلى نظرةٍ موضوعية للغرب، بعيدة عن انفعالات المنغمسين والمنكمشين وردود أفعالهم؛ نظرةٍ تنطلق من الثقة بالنفس، والانتساب إلى الذات، والشعور بالندية؟

فإن الجواب سيتضمن -كما يضيف الدجاني- أن للتربية دورا خاصا، وللسان بمعنى اللغة أهمية خاصة في الوصول إلى هذه النظرة الموضوعية (8). وهذا هو باختصار عين ما يرمي إليه التعليم المنتظر منه أن يمارس دورا في الخروج من التبعية الثقافية، وأن يتصالح مع هويته.

ويتصل بهذه النقطة ما يثار حول قضية تعريب العلوم الطبيعية، أي تدريسها باللغة العربية.

ونحن إذ نسعى إلى جعل الذات الإسلامية هي الموجه الفكري والأساسي العقيدي للتعليم، لا بد أن نحدد اللغة التي يتم بها التعليم؛ ذلك أن اللغة تحيا بأهلها قبل أن تحيا بتركيبها، وتحظى بالصدارة عندما يكون أهلها قد سبقوا العالم في التطور الحضاري؛ ولعل مؤلفات ابن سينا والفارابي وابن يونس وابن الهيثم وجابر والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي، وغيرهم.. لتدل أعظم دلالة على صدق ما نقول؛ فالمطلع على هذا الإرث الحضاري الرائع يدهش لأسلوبهم العلمي الأخاذ، ولغتهم العربية الرصينة التي كتبوا بها الرسائل والموسوعات، وسطروا بها التجارب والبحوث في الفلك والجبر والهندسة والطب والجيولوجيا والجغرافيا وعلوم الحياة والكيمياء.. لقد طوع هؤلاء العباقرة لغتهم العربية لمصطلحات العلوم الكونية والطبيعية والإحيائية، فأنتجوا حضارة عالمية هي بحق «حضارة القمة»(9).

ولا شك في أن هناك ضرورة للتعريب؛ حيث ثبت بالدليل -كما يقول د. محمود حافظ، رئيس مجمع اللغة العربية السابق- أن الطلاب الذين يدرسون العلوم العلمية باللغة القومية يستوعبون بدرجة كبيرة تفوق نظائرهم في الجامعات التي يتلقون فيها هذه العلوم باللغة الأجنبية.. وقد أكد هذا اتحاد الجامعات العربية، كما نادى اليونسكو بضرورة تعريب العلوم والتدريس باللغة القومية وخاصة اللغة العربية. وأغلب دول العالم تدرس فيها العلوم والطب والهندسة بلغاتها القومية (10).

بهذه الرباعية نكون قد وضعنا أيدينا على الطريق الصحيح؛ نحو تعليم متصالح مع الهوية، وذي دور فاعل في بناء الشخصية المسلمة، وفي تحقيق «الاستقلال الحضاري»؛ الذي يشكل التعليم الجيد أحد أركانه وشروطه الأساسية.

الهوامش:

1- راجع المزيد في: «في فكرنا الحديث والمعاصر»، د. حسن الشافعي، ص 53 وما بعدها، مكتبة ذخائر الوراقين، ط 1، 2016م.

2- مقدمات جديدة في مشاريع البعث الحضاري، د. سيد دسوقي حسن، ص 75، طبعة خاصة بنقابة المهندسين، 1991م.

3- المصدر نفسه، ص 67.

4- الإسلام على مفترق الطرق، ص 71، 72، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1984م.

5- مقدمات جديدة، د. سيد دسوقي حسن، ص 107، بتصرف.

6- مثل د. زغلول النجار في حوار له مع مجلة «الأمة» القطرية، منشور في فبراير 1984م.

7- من حوار له مع مجلة «الأمة» القطرية، منشور في يونيو 1985م.

8- فكر وفعل، د. أحمد صدقي الدجاني، ص 198، دار المستقبل العربي، ط 1، 1985م. بتصرف يسير.

9- اختراق العقل الإسلامي، د. سعيد إسماعيل علي، ص 48، 49، عالم الكتب، ط 1، 2007م. وهو ينقل عن د. كارم السيد غنيم: اللغة العربية والنهضة العربية المنشودة في عالمنا الإسلامي، مجلة عالم الفكر، العدد 4، يناير/ مارس 1989م، ص 38، الكويت.

10- من حوار له مع جريدة «العربي»، 1/ 11/ 2011م.

__________

* المصدر: الوعي الإسلامي.

 

مواضيع ذات صلة