د. ياسر الصعيدي
قراءة عجلى في أوراق التاريخ، أي تاريخ، تؤكد أن الحوار الحضاري حقق نتائج كبيرة ومهمة، وكان له دور كبير في رسم خرائط كثير من العلاقات، سواء بين الأمم، أو حتى بين الأفراد، على الرغم من تنوع ثقافات المتحاورين وحضاراتهم.. والعالم اليوم أحوج إلى
الحوار من أي وقت مضى، الحوار بين الأسرة داخل جدرانها.. الحوار بين الأصدقاء والجيران، بل الحوار بين الخصوم، فكما تعددت وسائل الاتصال وتيسرت تعددت مسائل الخلاف وتعقدت، ولم يعد بإمكان أي مجتمع العيش في معزل عن الآخر، وخاصة في ظل الثورة التكنولوجية الهائلة التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة.
والحوار تفاعل لفظي أو كتابي بين اثنين أو أكثر من البشر يهدف للتواصل الإنساني وتبادل الأفكار والخبرات وتكاملها، ويتضمن طرحا من أحدهما يجيب عنه الآخر، فيحدث تجاوب يولد عند كل منهما مراجعة لما طرحه من كلام ومنطق حكم هذا الكلام. وقد تثمر هذه المراجعة طرحا ثانيا يتبعه تجاوب أوسع، ومن هنا يتميز الحوار بأنه يتضمن في طياته عملية تحدث تجري خلالها مراجعة؛ فالموقف المتخذ في هذه العملية ليس سكونيا قطعيا غير قابل للتغيير والتبديل، وإنما هو حركي قابل للتحول.
وفرق كبير بين الحوار والجدل، أما الجدل فهو المنازعة في الرأي، ويطلق على شدة الخصومة واللدد فيها، وقيل الأصل في الجدال: الصراع ومحاولة كل واحد إسقاط صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة.
والجدل قد يكون بالباطل ليصرف عن الحق، وقد يكون بالحق ليدحض الباطل، والمقام هو الذي يعين المراد.
والاختلاف ينصب غالبا على الرأي، وهو حقيقة إنسانية طبيعية، أما الخلاف فينصب على الشخص؛ فالاختلاف لا يدل على القطيعة، بل قد يدل على بداية الحوار، وهو نتيجة طبيعية لحرية الاختيار التي منحها الله عز وجل لكل إنسان، وجعلها مرتكزا للابتلاء في الحياة الدنيا.
والتنوع الذي خلق الله الناس فيه ينبغي ألا يكون سببا للشقاق والخصام والتنازع، فإن الشقاق يمكن تفاديه بالحوار الذي من شأنه أن يقدم البدائل العديدة لتجنب مأزق الاصطدام في زاوية الشقاق، بل يمكن أن يجعل من الاختلاف سببا للتكامل والتعاون فيما فيه مصلحة البشرية.
حدود الشرع
إن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع، ولا يكون مذموما بل يكون ممدوحا ما دام في حدود الشرع وضوابطه، بل هو في تلك الحالة يعد مصدرا من مصادر الإثراء الفكري، ووسيلة من وسائل الوصول إلى الصواب، وقد أقر الإسلام الاختلاف المحمود وحث عليه، فمبدأ الشورى الذي قرره الإسلام ما هو إلا تشريع لهذا الاختلاف الحميد.
وتتعدد أهداف الحوار وتختلف من حوار إلى حوار، ومن محاور إلى آخر، فمنها ما يكون هدف المحاور فيه إقناع الآخر بأن اعتقاده أو رأيه أو موقفه هو الأحق بأن يتبع، ومنها ما يكون هدفه مجرد معرفة ما عنده، كي لا يكون هنالك سوء تفاهم بأن ينسب إليه ما لا يرى أو يعتقد، ومنها ما يكون الغرض منه إمكانية الوصول إلى آراء أو أهداف مشتركة تساعد على التعايش والتعاون… وهكذا.
والأصل أن هدف الحوار هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها، وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر لفهم وجهة نظره ثم التفاهم معه، ذلك أن التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل، والحوار هو الطريق إلى استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين، ثم إلى تفاهمهما؛ فالحوار تعاون فكري بين اثنين أو أكثر على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.
البغي والعدوان
وحتى يكون الحوار ناجحا لا بد أن تكون المصالح العامة فوق مصالح الأفراد والجماعات، وأن يجري الحوار بعيدا عن البغي والعدوان والحسد وحب الانتصار، وأن يتصدى للحوار مَن هو أهل لـه من المتخصصين العدول الناصحين للأمة، البعيدين عن المصالح الذاتية والترهات الفردية والعنصرية والطائفية، وأن تحدد نقاط الاختلاف، وذلك بغرض توجيه الطاقات – على اختلاف مظانها ومظاهرها، وعلى تعدد أبعادها وغاياتها – إلى خدمة القضايا محل النقاش والحوار، للوصول إلى اتفاق في نهاية الحوار، بعيدا عن التأثيرات المحيطة، فإنه قد يخضع المتحاور للجو الاجتماعي فيستسلم لا شعوريا لـه، مما يفقده استقلاله الفكري.
وعلى المحاور أن يخاطب كل إنسان بما يناسبه شرعا وعرفا، متفهما نفسية الطرف الآخر وعارفا بمستواه العلمي، وقدراته الفكرية، سواء كان فردا أو مجموعة ليخاطبهم بحسب ما يفهمون، وإنزال الناس منازلهم وعدم غمطهم أقدارهم، وحسن الاستماع لأقوال الطرف الآخر، وتفهمها فهما صحيحا، وعدم مقاطعة المتكلم، أو الاعتراض عليه أثناء حديثه، أو استفزازه وازدرائه أو تحقيره، وتجنب منهج التحدي والإفحام وتعمد إيقاع الخصم في الإحراج، ولو كانت الحجة بينة والدليل دامغا، فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف، وقد تفحم الخصم ولكنك لا تقنعه، وقد تسكته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ولو وجدت القناعة العقلية.
كما يجب على المحاور التراجع عن الخطأ والاعتراف به؛ فالرجوع إلى الحق فضيلة، وأن يكون الكلام في حدود الموضوع المطروح، والبعد عن اللجج ورفع الصوت والفحش في الكلام، والبعد عن التنطع في الكلام، والإعجاب بالنفس، وحب الظهور ولفت أنظار الآخرين، وألا يفترض في صاحبه الذكاء المفرط فيكلمه بعبارات مختزلة وإشارات بعيدة، كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة، أو الجهل المطبق، فيبالغ في شرح ما لا يحتاج إلى شرح، وتبسيط ما لا يحتاج إلى بسط.
الانفتاح على الآخر
على أن يضع المحاور نصب عينيه الانفتاح على الآخر من خلال الحوار، ليس فقط بغرض إقامة الحجة وإثبات صحة الرأي، ولكن أيضا بغرض التعلم والأخذ منه ما قد يفيد مهما بلغت درجة الخلاف معه، ومراعاة شخصية الطرف الآخر في الحوار، وإيجاد الأجواء المناسبة، والإحاطة بموضوع الحوار، واستيعاب الفكرة التي يحوم حولها، ثم اختيار لغته وأسلوبه، ورفض قداسة الآراء والأفكار الشخصية، فلا يجوز أن نتحجر أمام الأفكار والآراء الإنسانية التي نقوم بصياغتها بناء على ما تكون لدينا من علوم ومعارف وتجارب، أو تلك التي صاغها من نعتبرهم قادة وعلماء وأصحاب رأي وفكر، وبالتالي لا نغلق الباب أمام أي محاولة للتطوير والتجديد وتنقيح الآراء والأفكار والمعارف، وكذلك عليه الانضباط بالقواعد المنطقية في مناقشة موضع الاختلاف، والاعتماد على الأدلة والبراهين والحجج.
—-
* المصدر: الوعي الإسلامي.