القائمة الرئيسية
 الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

هل الإيمان يجلب الرخاء الاقتصادي؟

حامد العطار

يشيع في كتب التفاسير والوعظ أن هناك علاقة طردية بين الإيمان والرخاء الاقتصادي، ومن ذلك ما يحكونه عن الحسن البصري: أن رجلاً شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة ريع أرضه.. فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعاً من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً *‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: 10-12).

في القرآن الكريم آيات تربط الرخاء الاقتصادي بالإيمان، منها قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: 66)، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96)، وقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 50-52)، وقوله تعالى: {وَامُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132)، وقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) (الطلاق: 2-3).

وقد أورد الرازي استشكالاً للبعض في وعْد الأنبياءِ أقوامهم برغد العيش إن هم آمنوا بما جاء في الترمذي: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم المثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان صلباً في دينه اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه فما زال كذلك حتى يمشي على الأرض ما له ذنب» (مشكاة المصابيح (1/ 492) حسنه الألباني)، لكنه (الرازي) لم يذكر وجهاً جيداً في رد هذا الاستشكال!

شعب أبي طالب

وأظهر من ذلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في صدر الدعوة؛ حيث عضتهم الدنيا بشظف عيشها، ومات بعض أصحابه فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكانوا إذا وضعوها على رأسه تعرّت رجلاه، وإذا وضعوها على رجليه برزت رأسه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر».

وفي تضاعيف هذه الحياة النبوية، رأينا حصار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب أبي طالب ثلاث سنوات، في حصار قطعت عنهم فيه الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعاماً يدخل مكة ولا بيعاً إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد والتجؤوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سِراً.

الإيمان والمنهج

يمكننا أن نصل إلى فض الاشتباك من خلال المقارنة بين آيتين اثنتين؛ الآية الأولى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (المائدة: 65)، الآية الثانية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 66).

فالآية الأولى ربطت بين الإيمان وموعود أخروي، وهو الجنة، والآية الثانية ربطت بين إقامة منهج الله عز وجل وموعود دنيوي، وهو الأكل من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم؛ ذلك أن إقامة منهج الله في أرضه كفيلة بأن ينعموا في ظلها بحياة وارفة الظلال، رغدة العيش.

ففي ظل هذا المنهج لن ينتجوا إلا ما أحل الله، وسوف يتجنبون إنتاج ما حرم الله، فلا مكان في ظل هذا المنهج لإنتاج المخدرات بأنواعها من الحشيش والخشخاش، ومن ثَمَّ فلا مال سوف يهدر إلى معالجة المدمنين؛ مما يؤدي إلى المحافظة على الموارد.

هذا المنهج الرباني يأمرهم أن ينتجوا ما يكفيهم ذاتياً، فلن يستطيع أحد ابتزازهم من أجل إمدادهم بما يحتاجون.

هذا المنهج الرباني يحرم الإسراف وينهى عن التبذير، ما يؤدي إلى المحافظة على أصل الموارد.

وفي مجال التداول، سيجدون أن هذا المنهج المنزل من السماء يحرم التجارة في المحرمات، ويحرم الربا والاحتكار والضرر، والغش والتدليس، والميسر والقمار، حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم.

ومن عجز عن العمل، أو قدر ولم يجد، فله نصيب مفروض في مال الأغنياء.

وهذه كلها قيم يؤمر بها الإنسان في ظل هذا المنهج، أما ضمان الرزق بإنزال المطر، وإنبات الزرع، فذلك مكفول للعباد جميعاً؛ {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) (فصلت: 9-10)، وكل ما في الأرض جميعه مسخر لكل البشر جميعهم، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً‏} (الجاثية: 13).

الإيمان والرخاء

وتبقى هنا آيات تتأسف على أقوام جلبوا على أنفسهم الجدب والفقر بسبب الكفر والجحود، وتتحدث أنهم لو كانوا آمنوا لوقوا أنفسهم شؤم هذا المصير، ولرزقهم الله وأحسن إليهم، مثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96).

وهذه الآيات وفق هذه النظرية التي اخترناها محمولة على أن الله تعالى كان يعاقب الجاحدين والكافرين بعقوبات كونية، قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (العنكبوت: 40).

أي أن كل واحد من المذكورين الذين كذبوا رسلهم، عاقبناه بما اقترف من ظلم وفساد، وكان أخذ كل منهم وفق ما أراده الله؛ فمنهم من أهلكناه بالريح العاصفة التي تحمل الحصباء -وهي صغار الحصى- وهم قوم لوط.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَاسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا) (الأنعام: 42-43)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 130).

فمعنى هذه الطائفة من هاته الآيات أن كفرهم وعنادهم سبب نقمة الله عليهم، ومعاقبتهم بالجدب والقحط والحرمان، بل والاستئصال، والخسف، والتغريق، ولو أنهم آمنوا لوقوا أنفسهم شر هذا المصير، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ} (الأعراف: 133).

ثم أوقف الله سنة استئصال الأمم المعاندة وإهلاكها؛ وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (القصص: 143)، يقول ابن كثير: يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم، عليه من ربه الصلاة والتسليم، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه.

وقوله: (مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى) يعني: أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين.

وقال ابن جرير: عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض، غير القرية التي مُسخوا قردة، ألم تر أن الله يقول: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى}.

على أن أمر الأنبياء أقوامهم باستغفار ربهم، كما في مثل قول هود لقومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (هود: 52)، وقوم نوح كما ذكرنا من قبل في سورة «نوح»، هذا الأمر بالاستغفار ليس معناه قول: «أستغفر الله العظيم وأتوب إليه»، ولكن المراد منه الإسلام والإيمان، والتزام المنهج الرباني المنزل، وهذا يعيدنا إلى نقطة البداية، التي قررنا فيها أن التزام المنهج الرباني يحمل في ذاته مقومات الرخاء الاقتصادي!

الاستغفار والرخاء الفردي

ويبقى الاستغفار والإيمان على المستوى الفردي من أسباب الرخاء الاقتصادي، أي أنه إذا لم يُقِم المسلمون منهج الله في أرضه، فلا وعد لهم بالرخاء على مستوى دولتهم ولا أمتهم، ولكن هذا لا ينفي أن يبارك الله في رزق الفرد منهم إن هو لجأ إلى الله تعالى، فلزم الاستغفار، واتقى الله، وتجنب معصيته، وخاصة تجنب المناهي في كسب الرزق؛ بأن ألزم نفسه بتعاطي أسباب الرزق الحلال، وابتعد عن تعاطي أسباب الرزق التي حرم الله تعالى.

كما أن الصدقة وخاصة مع مخافة الفقر من أسباب توسيع الرزق على صاحبها، حتى لو كان في ظل دولة فقيرة محتاجة؛ ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بينما رجل بفلاة إذ سمع رعداً في سحاب، فسمع فيه كلاماً: اسق حديقة فلان –باسمه- فجاء ذلك السحاب إلى حرة فأفرغ ما فيه من ماء، ثم جاء إلى أذناب شرج فانتهى إلى شرجه، فاستوعبت الماء ومشي الرجل مع السحابة حتى انتهى إلى رجل قائم في حديقة له يسقيها، فقال: يا عبدالله، ما اسمك؟ قال: ولمَ تسأل؟ قال: إني سمعت في سحاب هذا ماؤه: اسق حديقة فلان باسمك، فما تصنع فيها إذا صرمتها؟ قال: أما إن قلت ذلك فإني أجعلها على ثلاثة أثلاث؛ أجعل ثلثا لي ولأهلي وأرد ثلثاً فيها وأجعل ثلثاً للمساكين والسائلين وابن السبيل”.

—–

* المصدر: مجلة المجتمع.

مواضيع ذات صلة