د. محمود مسعود
يعج الغرب اليوم بكثير من الحوارات والمساجلات في التلفاز والراديو وساحة الندوات وقاعات المحاضرات بالجامعات وغيرها من الصحف والمجلات يتساءلون عن مدى الفائدة أو الاستفادة من الدين في عصرهم (عصر العلم والتكنولوجيا)، وهناك مناقشات ومحاورات كثيرة في هذا الشأن يبغي أصحابها دفع الشباب الغربي للبعد عن الدين في صورته الكنسية، وفي ذات الوقت يريدون منها أن تكون دافعا للحفاظ على دين الآباء والأجداد، وكثيرا ما يتكرر هذا السؤال: هل مازلنا في حاجة للدين؟ وكان من بين هذه الحوارات الجادة تلك المناقشة التي دارت أحداثها في كنيسة النجوم بباريس عام 2002، وكانت بين قسيس وفيلسوف فرنسي وكاتب وصحافي، ثم صدرت في كتاب عام 2003 تحت عنوان: هل نحن مازلنا في حاجة للدين؟ فأردنا أن نطلع أبناء أمتنا على أهمية الحوار في الغرب رغم الخلافات العقدية بينهم من جانب. ومن جانب ثانٍ ليعرف الكثير من شبابنا أن الغربيين العلمانيين (أي غير المتدينين)، بل والملحدين منهم يقدرون دينهم ودين أجدادهم. ومن جانب ثالث لنكشف التركيبة الفكرية الغربية المسيحية للعلمانية وكيفية انسجامها وتناسقها مع الدين المسيحي في الحاضر رغم مظهرها المعادي له.
هذه المناقشة التي نحن بصددها الآن وهي بعنوان: هل نحن ما زلنا في حاجة للدين؟ a-t-on encore besoin d’une religion والتي تمت بين أندريه كنت سبينوفيل Andre Comte-Sponville وهو فيلسوف فرنسي وبين برنارد فيليه Bernard Feillet وهو كاتب ومؤرخ، و ألان ريموند Alain Remond وهو صحافي وكان يدير المناقشة القس ألان هوزيو Alain Houziaux وطبعت تلك المناظرة في باريس عام 2003 تحمل العنوان نفسه، وكانت أهم محاور المناقشة على النحو التالي:
ـ مقدمة استهلالية: للقس مدير الحوار إحياء الرغبة في التقرب لله بواسطة برنارد فيليه.
ـ ملحد لكنه مخلص: لأندريه كنت سبينوفيل.
ـ نعم للعقيدة الدينية ولا للدين: ألان ريموند.
ـ ثم ختمت بحوار بين المتناقشين.
ففي المقدمة الاستهلالية يشرح القس ألان هوزيو Alain Houziaux الفرق بين الدين والعقيدة المسيحية، فالدين كما يراه الغربيون ويصوره ذلك القس غامض فضفاض لهذا هو يختلف عن العقيدة المسيحية، والتي حسب رأيه تعني حرية الإرادة، وتأكيد الإيمان في السيد المسيح، ولكنه ينتهي للتأكيد على أن المسيحية هي في النهاية مظهر ديني كغيرها من المظاهر الدينية الأخرى، بمعنى أن المسيحية ليست فقط عقيدة لكنها أيضا دين.
ويجب التذكير هنا أن الغربيين يفرقون بين الدين (religion) الذي هو مجموعة مظاهر وطقوس تخص مجموعة أفراد، وبين العقيدة التي هي في قلب الفرد فقط Dogme))، وهذا يختلف عن الإسلام الذي هو دين بمعنى عقيدة للفرد وللمجموع وهو في ذات الوقت عمل لمجموع المتدينين، {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام ـ 162). {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 5).
وقد حاول هذا القس شرح مفهوم الدين والذي هو ظاهرة اجتماعية تتبع العقيدة بمعني أن الشعائر الدينية والعبادات تدور في فلك العقيدة، لهذا ربما نكتفي من الدين بالعقيدة دون العمل، لكن الحاجة للأخلاق تستوجب الحاجة للدين حسب رأيه.
فلو سلمنا أن مفهوم الأخلاق يختلف نوعا ما عن مفهوم الدين حيث يوجد في الدين تعاليم وإرشادات للحياة الدنيا وكذلك للآخرة في حين أن الأخلاق هي عمل دنيوي بحت.
فالدين -كما يرى- يدفع ويحث على الأخلاق بتعاليمه.
ليس هذا فحسب، بل الدين يعطي السعادة الداخلية، لكونه يدعو للإخلاص، والإخلاص يريح النفس ويسعدها، وكذلك لأن الدين يدعو للحياة العائلية وللحياة الاجتماعية عموما، مما يؤكد على ثمرة الحب والتآخي بين مجموع المتدينين.
لهذا يرى أن المتدينين المتشددين كاليهود والمسلمين والكاثوليك أكثر تماسكا اجتماعيا من البروتستانت لكون هؤلاء الآخرين أكثر تسامحا.
ومع تسليمه بأن الدين الشخصي أخذ مكان الدين الجمعي مما جعل الكثيرين لا يرون فائدة أو حاجة للدين التقليدي، لكنه في نهاية الأمر يصر على أهمية الدين التقليدي الموروث من الآباء، لكونه حسب رأيه يمنحنا القدرة على التعبير عن مشاعرنا نحو الغيب واليوم الآخر والاستخلاف في الأرض، وكذلك يمنحنا الأمل في الآخرة عند الخروج من هذه الدنيا، والإحساس بأن نصبح محبوبين ومحبين لغيرنا.
لهذا عظم ومجد الكُتَّاب الغربيون الكبار الكتاب المقدس لما يقدمه من معلومات في هذا الجانب لا يقدمها غيره.
ويستدل على ذلك بلغة الكتاب المقدس الشاعرية التي تقدم للإنسان معاني كثيرة عن الحب والأخوة والمواساة والتعاون والسعادة والحكمة، ويرفض رأي بعض الكتاب الذين لا يرون فائدة من الدين ولا حاجة لنا به في (القرن الواحد والعشرين)، فهؤلاء يرون أن العقيدة الفردية في الإله تغني عن الدين ومظاهره، لكنه أي الدين الفردي لا يمنحنا القدرة على الاطمئنان للمستقبل ولا السعادة الأبدية التي يبشر بها الرسل، وكذلك لا يمدنا بالقدوة الصالحة (الولاية)la saintet? ولا يمدنا بالسعادة حين نضحي من أجل الآخرين أو أن نواسيهم ونقف بجوارهم.
اختلاف النظر للإله
ثم يأتي دور برنارد فيليه الذي يشدد على أن دين الآباء أصبح يعبد من دون الله، فالمسيحية التي كانت تبشر بالمسيح والروح القدس ومحبة الإله الآب للجميع أخذت تنغلق على نفسها وأصبحت هي ذاتها صنما يعبد.
فهناك الكثير من التخيلات للإله بقدر ما هنالك الكثير من الأصنام خلف تلك التصورات، والكل مقتنع بتصوره، سواء كان هذا التصور إلحادا أم إيمانا، فالكل مقتنع بالدين لكن حسب تصوره الخاص، والذي يكمن في إعادة فهم الدين اليوم بمقتضيات العصر، ويجب أن يؤدي الدين إلى العلم ويبشر بالعقلانية ويبعد عن السلطة ومقتضياتها.
ورغم أن الدين عند هذا الكاتب متواضع وضعيف إلا أنه يعجب بالدين لكونه من اختراع الإنسان، لهذا فهو معجب بشخص المسيح وبحسن اختراعه للدين ولا سيما في نشره لعقيدة الخلاص لكل الناس دون استثناءات كما كانت عند اليهود، وكذلك يعجب بالمسيح لكونه شخصا ذا خصال نادرة.
وبرنارد فيليه مع أنه لا يحلم بوحدة الكنيسة الغربية لكنه يريد أن تجمع حولها الإنسانية، فالغرب في زعمه هو أمل العالم في الخلاص من الجهل والخرافات، ولهذا يجب أن نحمي الدين من التفاهة والتافهين بتجديد فهمه عند الجمهور، وهو يهزأ من عد العقيدة المسيحية عيسى هو الإله، ويرى أن ذلك خطأ الكنيسة الكبير، مما يجعل ألان ريموند أحد المحاورين يستعجل الاستغراب من قوله ويرد عليه.
بين الشرقيين والغربيين
ثم يأتي دور الفيلسوف أندري كونت سبنوبيل الذي يبدأ بالتفريق بين الدين عند الغربيين وعند الشرقيين مبينا أن الدين الغربي دين متحول وغير ثابت في حين أنه عند الشرقيين أكثر استقرارا وثباتا ورسوخا، وهو يؤمن بتراث الأجداد الذي يجمع المسيحيين واليهود واليونان، والذي يدعو للقيم الروحية وفي ذات الوقت لا يؤمن بعقائد الدين المسيحي وما جاء به عن الدنيا والمستقبل والمجتمع .. إلخ، فالدين يكمن حسب رأيه فقط في الجانب الروحي، وما يقال: إن الدين رابطة اجتماعية فهو صحيح لكنه ليس سببا في استقرار ورسوخ المجتمع، ولكنه يعود فيؤمن بفائدة الدين في حفظ الحضارة والثقافة والرابطة الاجتماعية وكثير من المشتركات للأمة المسيحية، لأن الإيمان بعقيدة واحدة يربط المجتمع ويجعله أكثر تماسكا، ويتحسر لكون الغرب لم يعد أمة ذات دين واحد مع كونه يصرح بأنه ملحد، بل يؤيد الإلحاد والاعتراف بالملحدين لأنه ليس بمستطاع غير ذلك، خاصة بعدما كثر الملحدون في المجتمع الغربي، لهذا يعترف بأنه ملحد لكنه مؤمن، ويفسر ذلك بقوله: إنه ملحد لكونه لا يعتقد في الله، لكنه مؤمن بالتاريخ والحضارة الغربية كما أنه مؤمن بقيم اليهودية المسيحية الغربية وأهمية استمرارها، ويجب أن يقتنع المتدينون مثلما يقتنع الملحدون بأن مملكة الله هي التي نعيشها وليست التي ننتظرها، ويؤكد أن الملحد لا يعيش بلا جانب روحي وإن لم يستمد هذا الجانب من الدين.
ثم يختم الحوار ألان ريمون وهو قس كاثوليكي مبينا كيف أنه ولد مسيحيا كاثوليكيا متحمسا للدين الكاثوليكي دون وعي، وأن هناك فرقًا كبيرًا بين الدين والعقيدة فقد يصبح الإنسان متدينا اجتماعيا ونفسيا ويوهم نفسه عشرات السنوات بذلك فقط لكونه يمارس الطقوس الدينية، بل قد يصل ليصبح رجل دين ولكنه بلا عقيدة إلا ما ورثها من آبائه وأجداده دون وعي ولا حس، ثم عندما يتأمل يجد أن العقيدة الصحيحة هي تلك التي يكونها هو بنفسه، ولهذا فالعقيدة عنده أهم من الدين، ويجب أن تكون مطلب المؤمنين.
وإن كانت عقيدته في الحقيقة لا تختلف عن موروثه هو للدين الكاثوليكي في ألوهية عيسي وحياته وموته من أجل الخلاص.
لينتهي الحوار ملخصا ومجملا آراء الجميع بأننا مازلنا وسنظل نحتاج للدين، اجتماعيا وروحيا ونفسيا، ويجب أن تفهم الأجيال أن وحدة أوروبا وتاريخها وحضارتها مرتكزة على هذا الدين المسيحي اليهودي وإن غاب الوعي بهذا انهدمت حضارتهم الغربية كما يقولون، ويلزم على الملحدين كما على المؤمنين الحفاظ على الدين وتاريخه وحضارته، لأنه ليس للغرب وجود بدونه.
فهل يفهم المسلمون وشبابهم ذلك، وكيف أن الغربيين مع أنهم كافرون بدينهم يدافعون عن حاجتهم له، ويحترمون تاريخه مع اقتناعهم بزيف عقائده. فكيف ونحن نؤمن بديننا إيمانا لا يتزعزع لا نراهن على وحدة الأمة، ولم لا نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه؟ فيزداد تقاربنا وتتحد رؤانا وتنسجم أفكارنا، ولن يتم ذلك إلا إذا آمنا بالحوار الهادئ الهادف فيما بيننا.
———-
المصدر: مجلة الوعي الإسلامي.