الصبر
الصبر قرين اليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (سورة السجدة/ الآية 24).
ولذلك قال سفيان: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
والذي لا يصبر فإنه من السهل أن ينخلع عن دينه لأي شيء يعترض طريقه، ومن السهل أن يتخلى عن منهجه وحكمته لأي استفزاز، ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (سورة الروم/ الآية 60 ).
وقال: {وَاصْبِرْعَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} (سورة المزمل/ الآية 10).
كثيراً ما يقف الضالون في وجه الدعاة إلى الله عز وجل، يقولون لهم: إن ما تدعون إليه ضرب من الخيال لا يمكن أن يتحقق في الواقع، أنتم تدعون إلى أمور عفا عليها الزمن، ونسيها الناس أو كادوا، فينبغي أن ترضوا بما دون ذلك، وأن تراجعوا آراءكم واجتهاداتكم!!
وأمام ضغوط الواقع القائم، وأمام العقبات الحقيقية والوهمية في وجه تحقيق الإسلام، وأمام طول الطريق.. قد يستجيب بعض الدعاة ويتأثر، ويبدأ في إعادة النظر في فهمه للإسلام، وفيما يقوله الخصوم!
ويا ليته إذ يفعل ذلك يفعله بروح الباحث المتجرد الشجاع المتطلع إلى الحق أين كان.. إذن لهان الخطب!
لكنه يفعله بروح “المنهزم” الذي يحس بأنه خرج من المعركة أسيراً أو كسيراً.. فهو يبحث في “عروض” القوم عن “حل” يجنبه المعركة مع الباطل.. مع الواقع المنحرف..
وهذا مثل:
الربا الذي انتشر، وضرب أطنابه، ومد رواقه، وقامت عليه اقتصاديات العالم كله – بما فيه العالم الإسلامي- وكاد أن يدخل جيب كل أحد حتى تحققت فيه نبوءة النبي صلى الله عليه و سلم، حين قال: “يأتي على الناس زمان من لم يأكل الربا أصابه من غباره”. (1)
وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف، إلا أنه يشهد لصحة معناه قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: “يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل، أمن الحلال أم من الحرام”. (2)
هذا الحرام المستقر في نفوس الكثيرين وجيوبهم ومؤسساتهم وأموالهم، بدلاً من أن يسعى الداعية لنهي الناس عنه، والبحث عن البدائل الشرعية الصحيحة لتنمية أموال الناس واستثمارها، ولإقامة بناء الاقتصاد الإسلامي السليم.. يأتيه الذين لا يوقنون فيحاولون أن يستخفّوه ليعيد النظر في صور من صور الربا الصريح..
وأن لها مخرجاً فقهياً ولو ضعيفاً أو شاذاً! وهكذا يصبح “واقع الناس” في فترة من الزمان محدودة مرجعاً لتعديل بعض الأحكام الشرعية المستقرة عبر القرون!
إنه فقدان الصبر في نفوس بعض الدعاة، ومع فقدانه فقدان الأمل!
أعلل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
ويا ليت الداعية ينصت لذلك الناصح الذي قال للخليل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه *** وجاوزه إلى ما تستطيع
أنت لست مطالباً بتحقيق نصر واقع للإسلام ، فهذا أمره إلى الله متى شاء أن يحدث حدث ، لكنك مطالب ببذل جهدك في هذا السبيل فحسب! والرسل والأنبياء كانوا يخاطبون بذلك: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (سورة الشورى/الآية 48).
وكانوا يقولون: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } (سورة يس/ الآية 17).
وقد يأتي أحدهم إلى بعض الدعاة ويقول له: أنت تعمل أعمالاً جبارة، وتواصل كلال الليل بكلال النهار، لكن النتيجة في النهاية قليلة، فالناس ينفضون من حولك، وأنت ترى وسائل الهدم والتخريب قد استحوذت على الكثير منهم.. وأصبحت تفسد في ساعة ما يبنيه الداعية في سنة!
متى يبلغ البنيان يوماً تمامه *** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم ؟؟
وهذا المنطق قد يؤثر على كثير ممن لم يعتادوا على عقبات الطريق.
وهنا يأتي دور “الصبر” الصبر الجميل.
عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه و سلم، وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟
فقعد صلى الله عليه و سلم، وهو محمرٌّ وجهه، وقال: “لقد كان من قبلكم يمشط بمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه.. ولكنكم تستعجلون!”.(3)
فالعجلة في قطف ثمار الدعوة ونتائجها لا تتناسب مع الصبر الذي يجب أن يتحلى به الداعية.
قد يكون الداعية في موقع من المواقع (بلد، مدرسة، مؤسسة، ..) يجاهد في رد المنكرات ونشر الدعوة، ويحدث على يديه خير كثير، لكنه لا يحس به لأنه يجيء بصورة تدريجية.. كما لا يحس الأب بنمو طفله الذي يراه صباح مساء! لأنه يكبر شيئاً فشيئاً!
وكم من داعية تخلى عن موقع من المواقع ظاناً أنه ليس له أثر، فلما تخلى بان فقده وظهرت مكانته، فكان كما قيل:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم ***وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وكان كالكسعي(4)، الذي يصنع السهام ويرمي بها في الليل، ويظن أنها لم تصب ما أراد.. فكسر القوس، فلما أصبح رأى أنها قد أصابت فندم على كسرها.. وصار يضرب به المثل في الندم، حتى قال الفرزدق حين طلق زوجته:
ندمت ندامة الكسعي لما *** غدت مني مطلقة نوار! (5)
فعلى الداعية ألا يستعجل النتائج والثمرات، بل يسعى ويعتمد على الله تعالى، ويدرك أنه بمنطق التجربة المقطوع بها من الناحية التاريخية، من الناحية الواقعية، أن أي جهد صحيح يبذل في الأمة يكون له ثمرة، إذ لم يقع في هذه الأمة أن أحدا دعا فلم يستجب له، أو نصح فلم ينتصح بأمره ونهيه أحد، أو عالما جلس للتعليم فلم يقعد إليه أحد، إلا أن يؤتى من قبل نفسه، بل كل داع يجد من يستجيب له، إذ لم تصل الأمور إلى ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، من الشح المطاع والهوى المتبع، والدنيا المؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، لم يحدث هذا على مستوى الأمة كلها قط، قد يقع في فرد أو أفراد أو جهة، لكن الأمة فيها خير كثير، ولا يزال عند الناس استجابة وقبول للدعوة، وإصغاء لصوت الناصح، إذا تكلم بعلم و حكمة.
بل إننا نجد في الأمم الكافرة اليوم في أمريكا و أوروبا وغيرها أن من يحملون لواء الدعوة إلى الله يجدون من يستجيب لهم من الكفار، وفي مراكز كثيرة كانوا يذكرون لنا إحصائيات الذين يسلمون أسبوعياً فكانت بالعشرات من الرجال والنساء.
وهذه الحقيقة التاريخية الواقعية، التي تثبت أن كل جهد له ثمرة هي أيضاً حقيقةً شرعيةً: {فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} (سورة الأنبياء/الآية 94).
وقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (سورة الأحزاب/ الآية 24).
” من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ” .(6)
“من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة..”.(7)
فكل عمل له جزاء، وكل داع له أتباع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد2/494، وأبو داود3331، والنسائي 4455، وابن ماجه 2278، وقد أعله المنذري في مختصر السنن 5/8 بالانقطاع بين الحسن وأبي هريرة.
(2) رواه البخاري 2059، والنسائي 4454.
(3) رواه البخاري 3852، وأبو داود 2649، ورواه النسائي مختصراً 5320.
(4) هو محارب بن حفصة بن قيس عيلان من عدنان جد جاهلي. انظر الأعلام للزركلي5/281.
(5) انظر القصة في الفاخر 90–91 ، الزاهر2/ 195–196، واللسان مادة كسع.
(6) رواه مسلم 2674، والترمذي 2676، وأبو داود 4609، جميعهم من حديث أبي هريرة.
(7) رواه مسلم 1017، والنسائي 2554، كلاهما من حديث جرير بن عبد الله البجلي.