الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد..
فإن الخطيبَ مسؤول مسؤولية عظيمة جدًّا أمام الله – عز وجل – فيما يُلقيه على الناس، “والخطابة مسؤولية عُظمى، لا يعلم حجم خطورتها إلا مَن يعلم أهميتها ودقَّة مسلكها، فهي منبر التوجيه والدعوة، وإحياء السنن، وقمع البدع، وقول الحق.
وفي المقابل إذا أُسِيء استعمالُها، انقلبتْ إلى الضِّدِّ؛ فقد تحيا مِن خلالها البدعُ، ويشاع الباطل، وتموت السُّنَّة، كما أنه قد ينتشر عبرها التضليل والتمويه، وما شابه ذلك؛ لذا كان لزامًا على الخطيب أن يستحضرَ هذا الأمرَ نصب عينيه، وأن يعلمَ أن كلامَه مُؤَثِّر، وأن هناك أصنافًا تستمع إلى خطبته، من بينهم العامَّة، الذين يأخذون كلام الخطيب أيًّا كان، صوابًا أو خطأ، فعلى الخطيب أن يتقي الله، فلا يخوض في نُصُوص الوحيين بغير حقٍّ، وألاَّ يقولَ على الله ورسوله ما لا يعلم، وألا يكونَ طرحُه للقضايا المهمة مبنيًّا على وجهة نظر شخصيَّة، عريَّة عن التنقيح أو التحقيق أو إصابة الصواب، أو القرب منه بعد الاجتهاد في تحصيله، وألا يكون منبعُ خطبته وما يُقَرِّره فيها مصادر مغشوشة؛ كحماس طائش، أو إعلام مضلل، أو ضغوط نفسية متعددة الجوانب، وألا يفتنَ الناسَ بأقوالِه المشتملة على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة، ولينظر إلى أي شيء هو يقوم، وإلى أية هُوة يقع بنفسه أو يوقع غيره، وإلى أية سُنَّة سيئة يسعى في إحيائها، شعر بذلك أو لم يشعر، ليكون عليه وزرُها ووِزْر مَن عمل بها إلى قيام الساعة.
ولا يَغُرَّنَّ أي خطيبٍ فصاحة لسانه، وحسن بيانه، وشهرة منبره، وإعجابه برأيه، ما لم يكن مؤصِّل العلم، واسع الرؤية، طالبًا للحق، حريصًا عليه، وسطًا منصفًا، أغرَّ لا يُسْتغفل.
ولقد ذكر ابن عبدالبر عن أحد السلف قوله: “مَن أُعْجب برأيه ضلَّ، ومَن استغنى بعقله زلّ”[1].
فعلى الخطيبِ أن يتقي الله سبحانه، وأن يحسنَ الطرح في خطبته، لا سيما في خُطَب النوازل، والأحداث العامة التي ينتَظِر فيها جمهورُ الناس ما يقولُه الخطباء ويرددونه، فضلاً عن صعوبة بعض النوازل واشتباكها، وعدم وضوح أبعاد معظمها، بل قد يكون بعضُها من الفتن التي يكون الماشي فيها خيرًا من الساعي، والقاعدُ خيرًا من الماشي، فعلى الخطيب أن يقولَ الحقَّ إن استطاع، وإلاَّ فليصمت، ولا يقولن الباطل؛ لأن مَن تدخل في مثل تلك النوازل الغامضة ربما كثر سقطه، ثم وقع فيما قال أبو حاتم البستي – رحمه الله -: “والسقط ربما تعدَّى غيره، فيهلكه في ورطة لا حيلة له في التخلُّص منها؛ لأنَّ اللسان لا يندمل جرحُه، ولا يلتئم ما قطع به، وكَلْمُ القول إذا وصل إلى القلب لم ينزع إلا بعد مدة طويلة، ولم يستخرج إلا بعد حيلة شديدة، ومن الناس من لا يُكره إلا بلسانه، ولا يهان إلا به، فالواجبُ على العاقل ألاَّ يكون ممن يهان به”. اهـ”[2].
لذلك ينبغي على الخطيب أن يتعلمَ كيفية تحضير الخطبة، ويهتم بها اهتمامًا عظيمًا، ويستشعرَ عِظَم الأمانة المُلقاة على كاهِله، ولا يحتقر أحدًا من المستمعين، ويقول: قد مرت الخطبة، وستمر غيرُها.
“ولا يظن أن تحضير الخطبة يدل على عجز الخطيب، أو على ضعفه العلمي؛ بل يفتخر بعض الخطباء إذا سُئل عن موضوع الخطبة قبلها – بقوله: الذي يفتح الله به! بل إن لتحضير الخطبة فوائد عظيمة؛ منها:
♦ أنه يكسب الخطيب الثقة الجيدة بنفسه، وبقدرته العلمية والخطابية، بخلاف ما لو لم يكن معدًّا لها إعدادًا جيدًا، فربما ارتبك وأرتج عليه، أو خشي منَ الخطأ أو نقص المعلومات.
♦ ومنها: كسب ثقة المستمعين وإعجابهم بالخطيب؛ لأنه أشعرهم بتقديره لهم واحترامهم، وحرصه على إفادتهم من خلال العناية الفائقة بالموضوع، اختيارًا وإعدادًا لمادَّتِه العلميَّة.
♦ ومنها: أن الإعداد الجيِّدَ للخطبة يتيح له فرصة العمق العلمي في تناول الموضوع.
♦ ومنها: أنه يتيح له تحديد وحصر أفكاره في نقاط وعناصر معينة تفيد الجميع، وهو أمر يساعده على عدم التشتت، وتَكرار العبارات من غير حاجة، فيستطيع أن يلمَّ بالموضوع دون إطالة ولا إرهاق للسامعين؛ مما يبعث في نفوسهم المَلَل والسآمة والضَّجَر”[3].
طريقة مختصرة لتحضير خطبة الجمعة
1- الاستعداد النفسي والبدني، وتفريغ الذهن، وتوحيد الهَمِّ، والتركيز فيما سيلقيه على عباد الله المسلمين.
2- اختيار الموضوع المناسب الذي يهم المسلمين، ويحتاجون إليه بمشورة الإخوة والناصحين العالمين بواقع أمتهم.
3- جمع الآيات في هذا الموضوع، ومراجعة تفسيرها من التفاسير المعتمَدة عند أهل السنة؛ كتفسير الطبري، وابن كثير – رحمهما الله تعالى – وغيرهما، والرجوع إلى ما يحتاجه من تفاسير الأحكام، والمعاني مع الاحتراز مما يخالف اعتقاد الصدر الأول، والقرون الثلاثة المفضلة؛ وهو أمر لازم.
4- جمع الأحاديث في الموضوع، وتخريجها تخريجًا مُخْتَصَرًا، ومعرفة الصحيح منَ الضعيف؛ المقبول منها والمردود، فلا يلقي على المسلمين إلا الأحاديث المقبولة، ويتجنَّب المردود إلا في النادر؛ للطيفة معينة، ولا بد أن يبيِّن ضعفها.
5- جمع الآثار السلفية، والعبارات الذهبية، والانتقاء من أطايب كلامهم، كما يُنتقى أطايبُ الثَّمَر.
6- جمع الأمثلة والمواقف العملية والنماذج الحية التي تترجم الموضوع ترجمة حية؛ ليرتبط العلم بالعمل؛ فَهُما – العلم والعمل – وجهان لعملة واحدة، ولا ينفصلان في دين الله – تبارك وتعالى – ألبتة.
7- وعليه أن يحرص على الإفادة من مراكز المعلومات، والموسوعات العلمية، المطبوعة والإلكترونية، فهي توفِّر الجهد والوقت، وتساعد الخطيب على جمع مادة علميَّة متنوعة ومتميزة.
8- القَصَص النافع الهادف الذي يزيد الموضوع وضوحًا وترجمة، ويُسلي القوم مع الإفادة منه؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111].
9- التعريف بالوسائل المعينة، والترغيب فيها، والحثّ عليها.
10- التعريف بالمعوقات، والترهيب منها، والحثّ على اجتنابها.
11- إن كان يتحدث عن مشكلة ما، فلا بد أن يبينَ مظاهرها في الواقع، وأن يذكر أسبابها، وأن يعرضَ الحل المناسب، ويُفَصِّل فيه بطريقة عملية مناسبة؛ فهو المقصود.
12- مراجعة القواميس العربية؛ كـ”لسان العرب”، و”القاموس المحيط”، و”مختار الصحاح”، و”المعجم الوسيط”.
13- لا بد من توثيق كل معلومة، ونسبة كل قول إلى قائله قدر المستطاع.
14- إجمال الخطبة في كلمات معدودة، وتلخيص ما تحدَّث عنه؛ ليحفظه السامع ويتذكره؛ فمن البلاغة رد العَجُزِ على الصدر.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.
وهذه بعض الكتب المساعدة:
1- “الخطابة وإعداد الخطيب”؛ لتوفيق الواعي، ط الثانية، دار اليقين، مصر، المنصورة 1417 هـ.
2- “منهج في إعداد خطبة الجمعة”؛ لصالح بن حميد، (وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الرياض 1419 هـ).
3- “الشامل في فقه الخطيب والخطبة”؛ لسعود الشريم (ط الأولى، دار الوطن، الرياض 1423 هـ).
—–
[1] “جامع بيان العلم وفضله” (1/142).
[2] انظر: “روضة العقلاء” ص (56، 225)، و”الشامل في فقه الخطيب والخطبة” تأليف: الدكتور/ سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم، ص65 – 66، باختصار وتصرف.
[3] مستفاد من كتاب “خطبة الجمعة دراسة دعوية”؛ إعداد سليمان بن عبدالله بن منصور الحبس.
—-
المصدر: الألوكة.