الانفصام الدعوي (2 /5).. مع النفس

أثر المسجد في تربية الأطفال وتكوينهم

محمد باشا **

للمسجد أثر كبير على النشء وخاصة إذا تعودوا منذ صغرهم على ارتياد المساجد بصحبة آبائهم، فالمسجد محضن تربوي ذو أثر عظيم يحافظ أطفال يصلونعلى الفطرة، وينمي الموهبة، ويربط النشء بربه من أول ظهور الإدراك وعلاقات التمييز، ويطبع فيه المثل والقيم، والصلاح بتأثير من الصالحين والخيرين ورواد المساجد من خلال المشاهدة والقدوة.

كما يقوم المسجد بتدريب الطفل على النظام، ويعلمه كيف يتعامل مع الآخرين من خلال المشاركة الاجتماعية، والاختلاط بفئات المجتمع، فينشأ على الأخلاق الفاضلة، والمبادئ السامية والشجاعة لأنه يختلط بالكبار، ولا يهابهم، ويتعلم الاطمئنان النفسي، ويتربى على النظام من خلال الصفوف المتراصة للصلاة، فيكون انطباعها في نفسه الترتيب، والنظام، ويشهد طاعة المأموم لإمامه، ويرى احترام الصغير للكبير، فتكبر هذه المفاهيم، وتشب معه.

وكانت صلة الأطفال الصغار بالمسجد في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والخلفاء الراشدين من بعده صلة قوية وثيقة نماها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه من خلال أفعالهم وتوجيهاتهم.

وقد يعترض البعض على وجود الأطفال في المساجد بحديث ضعيف مفاده: (جنبوا مساجدكم صبيانكم)، وقد عارض الشوكاني هذا الحديث بحديث أبي قتادة – رضي الله عنه – قال: “رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤم الناس وأمامه بنت أبي العاص ابنة زينب بنت رسول الله على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها) قال الشوكاني: والحديث يدل على أن مثل هذا الفعل معفو عنه، من غير فرق بين الفريضة والنافلة، والمنفرد والمأموم والإمام، لما في الصحيح من زيادة (وهو يؤم الناس في المسجد)، وإذا جاز ذلك في حالة الإمامة في الصلاة الفريضة جاز في غيرها، ومن فوائد هذا الحديث جواز إدخال الصبيان المساجد، ومما يؤكد ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: (كنا نصلى مع النبي – صلى الله عليه وسلم – العشاء، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا رفع أخذهما من خلفه أخذاً رفيقاً، ويضعهما على الأرض)، وحديث أنس: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (إني لأسمع بكاء الصبي وأنا في الصلاة فأخفف مخافة أن تفتن أمه).

وعندما يأخذ المسجد مكانه الطبيعي الذي بني من أجله، وأراده الله له يصبح من أعظم المؤثرات التربوية في تربية الأطفال والناشئين وتكوينهم، حيث يرون الراشدين مجتمعين على الله، فينمو في نفوسهم الشعور بالمجتمع المسلم، والاعتزاز بالجماعة الإسلامية، وفيه يسمعون الخطب والدروس العلمية؛ فيبدؤون بوعي العقيدة الإسلامية، وفهم هدفهم من الحياة، وما أعده الله لهم في الدنيا والآخرة، وفيه يتعلمون القرآن ويرتلونه، فيجمعون بين النمو الفكري والحضاري بتعلم القراءة، ودستور المجتمع الإسلامي، والنمو الروحي والارتباط بخالقهم، وفيه يتعلمون الحديث والفقه، وكل ما يحتاجونه من نظم الحياة الاجتماعية، كما أراد الله أن ينظمها للإنسان.

فالمسجد يعلم الناشئين أن كل أمور الحياة تابعة للارتباط بالله، وإخلاص العبودية لله، وينغرس هذا المعنى في نفوسهم عفواً من غير قصد ولا تكلف، وفي الصلاة تتجسد كثير من مزايا الأخلاق التي تسوغ الشخصية المسلمة السوية، ومن ذلك قيمة العزة والتي تجسد أسمى معاني الأخلاق، وكذلك صفة الرحمة وهي الصفة التي اختارها الله لعباده دون سائر صفاته في فاتحة الكتاب (الرحمن الرحيم)، فيبتعد النشء عن الرياء والسمعة، والكذب وتناقض الفعل والقول، وقد بقي تعلم القرآن الكريم في الكتاتيب والمساجد إلى عهد قريب هو الوسيلة لتعلم القراءة والكتابة في كثير من البلاد الإسلامية، فكان الأطفال قبل انتشار المدارس الحديثة يتقنون قراءة القرآن، فيتعلمون القراءة من خلال تعرفهم إلى صور الكلمات المكتوبة مقترنة بألفاظها المنطوقة، وكان الأطفال بعد هذه القراءة الأولى يكتبون القسم الذي قرؤوه على ألواح خشبية يحاكون رسمه في المصحف، وكلما كتبوا جزءاً يناسب مقدرتهم عادوا فأتقنوا تلاوته، ثم ينتقلون إلى غيره، وهكذا حتى يتموا جميع القرآن، ثم يُنتقى منهم المتفوقون ليحفظوا القرآن عن ظهر قلب.

ومما يذكر أنه ضاقت المساجد بالصبيان حتى اضطر الضحاك بن مزاحم معلمهم ومؤدبهم أن يطوف عليهم بدابته ليشرف عليهم، وقد بلغ عددهم ثلاثة آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجراً على عمله.

إن تردد الناشئ على المساجد منذ نعومة أظفاره يجعله ينمو نمواً لا مشاكل فيه، ولا تعقيد أمامه، ولا اضطراب في نفسه، ويثبت قلبه على الإيمان لأن مرحلة المراهقة من أخطر المراحل في حياته، وعند بلوغه يكون قد حُصن فؤاده، وثبت يقينه فلا قلق، ولا اختلال، ولا أوهام؛ لأن في المسجد يجد المناخ الطيب، والجو الديني، والمجتمع الطاهر، فتتأصل في نفسه أمور العبادة، وآداب التعامل، وشدة المراقبة لله فيكون عضواً سليماً في مجتمعه، ويصدق فيه الحديث الشريف: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم القيامة، منهم شاب نشأ في عبادة الله”.

إن خير القلوب وأدعاها للخير ما لم يسبق الشر إليه، وأولى ما عني به الناصحون، ورغب في أجره الراغبون؛ إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين لكي يرسخ فيها، وقد حرص الإسلام على رعاية الأطفال رعاية منقطعة النظير، إيماناً بأن الأطفال رجال المستقبل، وعدة الغد، فلا يجوز تركهم مشردين في الأزقة محرومين من نعمة المسجد الذي هو بيت الله، وعش المؤمن، ومدرسته العملية، والطفل إذا شب على شيء شاب عليه، ولقد كان الأطفال يأتون المسجد في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرعى شئونهم، ويتلطف بهم، أما اليوم فترى مقابلة بعض رواد المساجد للأطفال قاسية للغاية دون نصح أو إرشاد ظناً منهم أن هذا يخدم المسجد ليكون نظيفاً، وقد أدت هذه الظاهرة إلى هجرهم المساجد وذهابهم إلى أماكن اللهو.

ولاجتذابهم من جديد إلى المساجد لا بد للكبار من النصح اللطيف، والموعظة الحسنة، وبسط الجناح، وإشعارهم بالعطف والحنان ذلك أن النبي – صلى الله عليه وسلم – لم يمنع الأطفال من المساجد حتى أنه – صلى الله عليه وسلم – نزل من فوق المنبر في أثناء الخطبة لما رأى الحسن والحسين – عليهما السلام -، وقبلهما، ثم عاد إلى خطبته، وحديث أبي بكرة المشهور الذي جاء فيه: أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصلى ويجيء الحسن بن علي وهو صغير فكلما سجد النبي – صلى الله عليه وسلم – وثب على ظهره، ويرفع النبي – عليه الصلاة والسلام – رأسه رفعاً رفيقاً حتى يضعه على الأرض.

ومن هنا فالواجب أن نستعين بكل وسيلة من شأنها أن تشوق الطفل إلى المسجد، وتحببه إليه، ونحذر من كل أسلوب من أساليب التنفير من المسجد، ولا عبرة للذين يرون إبعاد الأطفال، وأبناء المصلين عن المساجد، وخاصة إذا وجد من يهتم بهم وينظم وجودهم، ويعلمهم ويربيهم ويرشدهم، وذلك لأن مفسدة انحراف الأطفال بإبعادهم عن المساجد أخطر من مصلحة الحفاظ على أثاث المسجد أو الهدوء فيه.

وحتى تتحقق مصلحة تربية الأطفال وتكوينهم من خلال المساجد؛ لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات من القائمين على المساجد ومنها:

1ـ أن يشجعوا الآباء لاصطحاب أبنائهم إلى المساجد، وتعليمهم النظافة والنظام، وأن يراقبوهم ويوجهوهم لما فيه صالحهم.

2ـ أن يجد الأطفال والصغار من يرشدهم، وينظم جلوسهم، ويقيم لهم المناشط التي تتفق وأعمارهم.

3ـ أن يتحبب العاملون في المساجد للأطفال، وأبناء المصلين بالبسمة ورحابة الصدر، وأن يجذبوهم للمساجد ولا ينفروهم منها.

إن الهدف من تربية الأطفال التربية الإسلامية ليس تزويدهم بالمعلومات والآداب الإسلامية فحسب بل إطلاع الأطفال على المعنى الأعمق للحياة والعالم من حولهم، والأخذ بأيديهم إلى الطريق الذي يؤدي إلى تنمية متكاملة لكافة جوانب الشخصية، ومساعدتهم على التصدي لمشكلات الحياة الشخصية والاجتماعية.

——-

 ** المصدر: بيت القيم.

مواضيع ذات صلة